يستطيع كل فنان موهوب أن يتخاطب مع جماليات الكون من حوله .. فلا يشعر بالعزلة والإغتراب .. وبلغة الفن يتفاعل مع النسيج الكوني الكلي .. وشعلة الفن أيقظت شعلة التحدي عند فناننا كيرلس سامى .. فانطلقت الطاقات الكامنة والمعاني المكبوتة من عالم الصمت، لتصنع لنا تلك الإبداعات الورقية «الأوريجامى» التي عرضت في قاعة الموسيقى بأرض الأوبرا المصرية.
ولد كيرلس والحياة تحرمه نعمة السمع، وبالتالى واجه طوال طفولته معاناة في التأخر اللغوي .. ولكن بمساعدة الأسرة والحب الكبير الذي يجمع أفرادها إستطاعوا وعلى مدار عشرين عامًا أن يقفوا بجانب كيرلس، وأن يحولوا تلك النقمة إلي نعمة كبيرة جعلت منه فنانًا راقيًا يبرع في فن الأوريجامي ويكون هو لغته التي يتحدث بها إلي كل الكون والعالم من حوله.
لقد تعلم كيرلس الأوريجامي بطريق الصدفة عندما زار ساقية الصاوي بالزمالك مع أصدقائه وكانوا يقدمون في ذلك الوقت ورشة عمل عن الأوريجامي – فن طي الورق – حيث تعلم بها طريقة عمل شكل الحمامة المتحركة .. كان وقتها هو الطفل الوحيد الذي تعلم عملها دون أصدقائه جميعاً، لقد استهوته بل يمكن أن نقول أنه عشقها، حتى أن القائمين علي تلك الورشة أعطوه في النهاية ورق مخصوص لهذا الفن وكذلك مجلة في قلبها نموذج هندسي لعمل أشكال معينة.
وعندما عاد إلي المنزل بدأ بعمل شكل الحمامات التي سرعان ما تعلمها، وصنع منها نماذج كثيرة ، حتي أنه نشرها في المدرسة، وفي المجتمع الذي يعيش فيه، وأهداها لكل أصدقائه، فتميز بها .. فطلبت منه المدرسة أن يقوم بتزيين المكتبة بهذا الشكل، وعندما إنتهى من ذلك كرمته وأعطته شهادة تقدير، فرفع ذلك من روحه المعنوية وشعر أنه فرد ذو أهمية في المجتمع الذي يعيش به، فكان لذلك تأثيرًا كبيرًا عليه.
ولأنه أراد أن يرفع من كفاءته ، قرر الدخول علي الإنترنت وكتب كلمة أوريجامي ووجده عالمًا كبيرًا جداً .. فبدأ العمل ، وأخذ يتدرب علي جميع الأشكال وكان يتعمق في كل شكل على حدى حتى يتقنه وينتج منه الكثير ليهديه إلي أصدقائه وأقاربه، أى ما يقرب من خمسين شكلًا .. ومن خلال التكرار للشكل، تعلمت يده صُنع الأشكال بمهارة عالية جداً والتي نقلته بعد ذلك لمرحلة متقدمة ، إلى أن طوّر نفسه بنفسه .. وكل هذا التعليم ذاتي داخل البيت حتى أنه إذا وجد أداة غير متاحة بمصر، ساعده والده بعمل وصنع تلك الأدوات في المنزل وبالخامات المتاحة، وخاصة أن هناك نوعية من اللوحات في حاجة إلي أدوات خاصة جداً .. لكنه من خلال العمل الجاد والموهبة الراقية استطاع أن يتقنها ويصبح محترفًا فيها.
لقد عمل بهذه الأدوات البدائية بشكل سريع ومهارة عالية جداً وتفوق فيها .. وبالفعل تمكن من خلال معرضه الأخير أن يخرج لنا أشكال لم نكن نتوقعها بتلك الأدوات البدائية.
وموهبة كيرلس جعلته يتأمل الكون، واستطاع الغوص في أغوار عالمه ليفرز لنا تلك التماثيل الورقية من خلال رموز موتيفاته الفنية من طيور وحيوانات وغيرها من موضوعات لا تقل بلاغة عما تعكسه الألفاظ والكلمات.
إن المعنى وراء تلك المطويات الورقية عميق جدا، ولا يقتصر علي الإمتاع البصري وحده، بل يتجاوزه من خلال هذه المفردات والوسائط الورقية الفنية.
أخذ كيرلس ينتج من بين أصابعه المرهفة مطويات ورقية دون أن يشعر به أحد، وأخذ يطور من تشكيلاته حتى أصبح يسيطر علي المقاسات الورقية التى أمامه من مربعة ومثلثة وغيرها .. فأنتج لنا إبداعات من الورق ولكن بشحنة هائلة وبشعور قوي يعلن عما يدور في نفسه وحوله معبرًا عن الوحدة بأجوائها وتمكنت يديه الموهوبة من صياغة تجربته بكل حب، فأوجد لنا مطويات ورقية لها قيمتها الجمالية.
وعند تأمل التماثيل الورقية للفنان كيرلس، نشعر بالصمت، لكنه صمت عميق ينبض بألم الفنان يعكس ما بداخله من صمت وعزلة .. كما نلمس في إبداعاته خيالاً شارحاً فيه الحركة والبهجة ينبعث منها موسيقى الشجن، والتي لها أعمق الأثر في عين المتلقي حتى لمست أوتار الوجدان.
ولغة الفن هى الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها أي فنان في العالم بدون كلام .. نجد ذلك بإنطلاق أحاسيس كيرلس وبساطته حيث عبر عن ذاته بلغة الأوريجامي التي تمرس عليها وأحبها .. وبتلقائيته المعبرة تحدث الفنان بلغته التي يفهمها أي مجتمع، ويسمعها المشاهد بعينه وقلبه معاً.
إن إبداعات كيرلس رسالة للإنسان من عالم له رموزه .. عندما تقرأ تلك المعانى تحرك فينا المشاعر، وتجذبنا إلي ما نحتاج إليه في عالمنا الصاخب من هدوء وحب وجمال .. بل ونستشعر منها إنتصاره الرائع على صمته.
تحية إلي فناننا كيرلس علي تلك الباقة الفنية وما تتضمنه من قدرة ومهارة تكتيلية ورهافة حس شديدة، أنعم الله عليه بموهبة الفن التى أدخلت السعادة لنفسه والبهجة للآخرين «المشاهدين» .. وهذا واضح في نظرة عينيه وإبتسامته العريضة الهادئة.
أرجو أن يحافظ علي تلك النعمة التي أفرزت إبداعات مؤثرة في رقي الذوق العام والفني للأجيال الشابة.