عبدالرحمن الكواكبي رائد من رواد الحرية في الشرق العربي ومفكر من مفكريه العباقرة, هو سوري المولد, والده فارسي وأمه حلبية, عاش بين السنوات 1848- 1902 عمل مدربا وصحفيا وكاتبا, شغله الإنسان بعامة والمسلم والعربي بخاصة, كان يتألم للظلم وينزعج من فقر الفقراء, عاش يبحث عن حرية الإنسان وكرامته, وقضي ثلاثين عاما من عمره يدرس أسباب انحطاط وتأخر الأمة الإسلامية والعربية, وكانت نتيجة دراساته أنه توصل لحقيقة الداء أو المرض الذي يعاني منه الشرق وهو الاستبداد السياسي, وكرس حياته للتعريف به ومحاولة علاجه والقضاء عليه, وألف في ذلك كتابا شهيرا معروفا هو كتاب: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.
يحلل الكواكبي في هذا الكتاب الاستبداد وأنواعه وأسبابه وكيفية علاجه, وعلي الرغم من أن هذا الكتاب صدر في مصر منذ أكثر من مائة عام إلا أننا نجد فيه ما ينفعنا هذه الأيام ويبصر شعوب الأمة الإسلامية والعربية بالخطر الداهم الذي يمكن أن يلحق بها لو لم تفيق من الغيبوبة التي تعيش فيها وتستخدم عقلها في حل مشاكلها والعودة إلي الدين الصحيح والفكر المستنير في سبيل ذلك, وقد وجدت من المفيد أن أنقل لكم بعض فقرات هذا الكتاب المهم ليعود بالفائدة علي الجميع.
يقول عبدالرحمن الكواكبي في كتابه: ينبغي للإنسان العاقل أن يعاني إيقاظ قومه, وكيف يرشدهم إلي أنهم خلقوا لغير ما هم عليه من الصبر علي الذل والسفالة, فيذكرهم ويحرك قلوبهم ويناجيهم وينذرهم.. يا قوم هداكم الله.. إلي متي هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم؟ وما هذا التأخر وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل. هل طالبت لكم طول غيبة الصواب عنكم؟ أم أنتم كأهل هذا الكهف ناموا ألف عام ثم قاموا, وإذا بالدنيا غير الدنيا, والناس غير الناس, فأخذتهم الدهشة والسكون..
يا قوم.. وقاكم الله من الشر, أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة. مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل, وبداء الحرص علي كل عتيق كأنكم خلقتم للماضي لا للحاضر, تشكون حاضركم وتسخطون عليه, مع أن حاضركم نتيجة ماضيكم, ومع ذلك أراكم تقلدون أجدادكم في الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط, ولا تقلدوهم في محامدهم! أين الدين؟ أين التربية؟ أين الإحساس؟ أين العزة؟ أين الغيرة؟ أين الشهامة؟ أين الفضيلة؟ هل تسمعون؟ أم أنتم صم لاهون؟..
يا قوم عفاكم الله, إلي متي هذا النوم؟ وإلي متي التقلب علي فراشي البأس ووسادة اليأس؟ أنتم مفتحة عيونكم ولكنكم نيام, لكم أبصار ولكنكم لا تنظرون, وهكذا لا تعمي الأبصار, ولكن تعمي القلوب, لكم سمع ولسان ولكنكم صم وبكم, ولكم نفوس حقها أن تكون عزيزة, ولكن أنتم لا تعرفون لها قدرا ومقاما.
يا قوم قاتل الله الغباوة, فإنها تملأ القلوب رعبا من لا شيء, وخوفا من كل شيء, وتفعم الرؤوس تشويشا وسخافة.
أليست هي الغباوة جعلتكم كأنكم قد مسكم الشيطان, فتخافون من ظلكم وترهبون من قوتكم, وتجيشون منكم عليكم جيوشا ليقتل بعضكم بعضا؟ تترامون علي الموت خوف الموت, وتحبسون -طول عمركم- فكركم في الدماغ ونطقكم في اللسان وإحساسكم في الوجدان خوفا من أن يسجنكم الظالمون.
يا قوم هل خلق الله لكم عقولا لتفهموا بها كل شيء؟ أم لتهملوه كأنه لا شيء؟
إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44).
يا قوم رحمكم الله, ما هذا الحرص علي حياة تعيسة دنيئة لا تملكونها ساعة؟ ما هذا الحرص علي الراحة الموهومة وحياتكم كلها تعب ونصب! هل لكم في الصبر فخرا أو لكم عليه أجرا؟ كلا والله ساء ما تتوهمون, ليس لكم إلا القهر في الحياة وقبيح الذكر في الممات, لأنكم ما أفدتم الوجود شيئا.. يا قوم هون الله مصابكم, تشكون من الجهل ولا تنفقون علي التعليم نصف ما تصرفون علي التدخين, تشكون من الحكام, وهم اليوم منكم فلا تسعون في إصلاحهم, تشكون الفقر ولا سبب له غير الكسل, هل ترجون الصلاح وأنتم يخادع بعضكم بعضا ولا تخدعون إلا أنفسكم؟ ترضون بأدني معيشة عجزا تسمونه قناعة, وتهملون شئونكم تهاونا تسمونه توكلا.
يا قوم لا تظلموا الأقدار, وخافوا غيرة المنعم الجبار, ألم يخلقكم أكفاء أحرارا طلقا لا يثقلكم غير النور والنسيم, فأبيتم إلا أن تحملوا علي عواقتكم ظلم الضعفاء وقهر الأقوياء؟لوشاء كبيركم أن يحمل صغيركم كرة الأرض لحني له ظهره, ولو شاء أن يركبه لطأطأ له رأسه, ماذا استفدتم من هذا الخضوع والخشوع لغير الله؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب وخفض الصوت ونكس الرأس؟ أليس منشأ هذا الصغار كله هو ضعف ثقتكم في أنفسكم؟
يا قوم, وأعني منكم المساكين, أيها المسلمون, إني نشأت وثبت وأنا أفكر في شأننا الاجتماعي, وطالما أمسيت وأصبحت أجهد الفكر في الاستقصاء, وكثيرا ما سعيت وسافرت لأستطلع آراء ذوي الآراء, عسي أن أهتدي إلي ما بشفي صدري من آلام بحث أتعبني به ربي, وآخر ما استقرت عليه سفينة فكرهم هو: أن جرثومة حالنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة والحكمة, دين النظام والنشاط, دين القرآن الصريح البيان, وجعلناه دين الخيال والخبال, دين الخلل والتشويش, دين البدع والتشديد, دين الإجهاد, وقد دب فينا هذا المرض منذ ألف عام, فتمكن فينا وأثر في كل شئوننا حتي أصبح اعتقادنا مشوشا, وفكرنا مشوشا, وسياستنا مشوشة, ومعيشتنا مشوشة, فأين منا والحالة هذه الحياة الفكرية, الحياة العملية, الحياة العائلية, الحياة الاجتماعية, الحياة السياسية؟!
يا قوم, قد ضيع دينكم ودنياكم ساستكم الأولون وعلماؤكم المنافقون, وإني أرشدكم إلي عمل إفرادي لا حرج فيه علما وعملا, أليس بين جنبي كل منكم وجدان يميز به الخير من الشر, ولا أظنكم تجهلون كلمة الشهادة, والصوم والصلاة, والحج والزكاة, كلها لا تغني شيئا مع فقد الإيمان, إنما يكون القيام بهذه الشعائر قياما بعادات وتقليدات وهو ساق تضيع بها الأموال والأوقات, بناء عليه فالدين يكلفكم إن كنتم مسلمين والحكمة تلزمكم إن كنتم عاقلين أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر جهدكم, والدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع, والدين يقين وعمل لا علم وحفظ في الأذهان, أليس من قواعد دينكم فرض الكفاية وهو أن يعمل المسلم ما عليه غير منتظر غيره؟!
فأناشدكم الله يا مسلمين ألا يغركم دين لا تعملون به, وإن كان خير دين, ولا تغرنكم أنفسكم بأنكم أمة خيرا وخير أمة, وأنتم المتواكلون المقتصرون علي شعار: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, ونعم الشعار شعار المؤمنين, ولكن أين هم؟ إني لا أري أمامي أمة تعرف حقا معني لا إله إلا الله, بل أري أمامي أمة خبلتها عبادة الظالمين!
يا قوم, وأعني بكم النطاقين بالضاد من غير المسلمين, أدعوكم إلي تناسي الإساءات والأحقاد, وما جناه الآباء والأجداد, فقد كفي ما فعل ذلك علي أيدي المثيرين, وأجلكم من ألا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المهتدون السابقون, فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتي وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني, والوفاق الجنسي دون المذهبي, والارتباط السياسي دون الإداري, دعونا ندبر حياتنا الدنيا, ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط, دعونا نجتمع علي كلمات سواء ألا وهي: فلتحيا الأمة, فليحيا الوطن, فلنحيا طلقاء أعزاء.