معذرة أنني استخدمت هذا العنوان, لكن يبدو أنني وقعت في فخ استدرجتني إليه الأمور التي تحدث من حولنا منذ نصف قرن, فقبل خمسة عقود من الزمان كانت الحوارات التي تثار بيني وبين أصدقائي وبعض أبناء جيلي هي في الغالب حول ما يجري في العالم من تطورات فكرية وعلمية وفنية في مختلف المجالات, وكنا نقضي الوقت نستعرض اختلافاتنا في وجهات النظر, كانت فترة خصبة في حياتنا, وكان أبناء ذلك الجيل لديهم من يتعلمون منهم من خلال الكتب المنشورة, أو البرامج الإذاعية والتليفزيونية, ولم نكن نبحث عن عقيدة الكاتب الدينية حتي نقرأ له بقدر ما نعجب بأفكاره, وللأسف فإن ما جري بعد ذلك جعلنا نعرف دياناتهم, وبدأ الجيل التالي يقوم بتقدير الكتابة حسب عقيدة كل منهم, وتضخمت هذه الظاهرة مع الأيام, واكتشفنا مع الوقت أن الكثير ممن علمونا الثقافة الجادة والبالغة الأهمية هم من أقباط مصر الذين ملأوا الحياة بالعطاء والجدية, وأن الناس لم تعد تقرأ لهم, بل إن الكثيرين منهم دخل إلي دوائر النسيان بعد سطوع كبير لعدة سنوات.
ومنهم علي سبيل المثال: سلامة موسي, لويس عوض, يوسف جوهر, حلمي مراد, ميلاد حنا, عادل كامل, نظمي لوقا, صوفي عبدالله, خاصة أن أغلبهم رحلوا عن عالمنا.
راح جيلنا, ومن سبقونا, يتعرف علي المزيد من الشخصيات في مصادر أخري, وتلاحق المترجمون لتقديم كتابات من أبرزهم سلامة موسي الذي أبرهنا بكتبه ومنها هؤلاء علموني, أما الاسم الأكثر التصاقا بنا فهو حلمي مراد الذي كان يمثل ظاهرة غريبة, حيث بدأ حياته بترجمة إبداعات لسلسلة روايات الهلال عن اللغة الفرنسية مثل رواية رسول القيصر تأليف جول فيرن, كما بدأ بكتابة القصص والروايات, وللأسف فإن سياسة النشر في دار الهلال كانت لا تنشر الترجمات كاملة, ولا تنشر اسم المترجم, وقد ظلت علي هذه السياسة إلي أن تولي رئاستها الراحل رجاء النقاش, وأمام مشاكل النشر, قرر حلمي مراد أن يصدر سلسلة كتابي علي نفقته, يقوم فيها بحكي أشهر الكتب في العالم وفي مصر, للقارئ من أجل فتح الشهية لقراءة الأعمال كاملة, ومع مرور الوقت صار كل عدد بمثابة التعرف علي المتاح علي أبرز تراث الإنسانية في كافة مجالات المعرفة, وصارت السلسلة هي الأشهر علي المستوي الشعبي, والأكثر تنوعا, وفي تقديري أن الكاتب الذي كان يقدم لقارئه عشرة كتب في كل عدد أنه بصدور العدد المئوي قد فتح لنا باب التعرف علي ألف كتاب في الأدب والعلوم, والرحلات والفلسفة والفن التشكيلي, ومع الزمن قرر الرجل أن يقدم سلسلة إضافية هي مطبوعات كتابي التي تعتبر بمثابة ترجمة كاملة لأمهات الكتب, وكان قد أحس بقيمة مشروع ثقافي قومي يعرف باسم الألف كتاب وبدأ في ترجمة الكلاسيكيات, ومنها مذكرات كازانوفا ويوميات جان جاك روسو, مدام بوفاري ترجمة محمد مندور في ثلاثة أجزاء, وديكاميرون, ووالألياذة, ومع العصر راح يهتم بترجمة أعمال الأدباء المعاصرين أيضا بشكل متكامل مثل الدكتور زيفاجو في مجلدين كبيرين, وروايات مهمة لنابكوف مؤلف لوليتا وهي روايات ضحكات في الظلام وغيرها.
ومن الأدب الفنلندي ترجم للكاتب ميكا فالتاراي صاحب رواية سنوحي المستوحاة من التاريخ الفرعوني, ومع السبعينيات, والانفتاح الاستهلاكي تعثرت تجربة الرجل الذي تقدم في السن وفي التسعينيات قامت المؤسسة العربية الحديثة بشراء حق نشر سلسلة مطبوعات كتابي, وقامت بتوزيعها أيضا بشكل شعبي, ويبدو أن التجربة لم تعجب الجيل الجديد, فتوقف استكمال نشر كافة العناوين المهمة.
هذا هو حلمي مراد أبرز من علمونا وجلبوا لنا الكتب الجميلة بأسعار زهيدة للغاية وهو واحد من أسماء عديدة تسكن في الوجدان الثقافي والغريب أن الدولة لم تنتبه إليه, ولم تفكر هيئة الكتاب مثلا في إعادة إصدار أعماله ولم يصدر له كتاب واحد ولا فصل من كتاب في مشروع مكتبة الأسرة حتي الآن.
ومع الزمن قابلت هؤلاء الأشخاص وغيرهم, ورأيت كيف مرت الشيخوخة من عندهم, ورحلوا عن عالمنا دون أن ينالوا ما يستحقون, فمن منا يذكر تلك الأسماء الآن, وأنا أعترف أنني اقترحت كتابة هذا المقال كي نتذكر حلمي مراد.
أظرف ما في الأمر أن علي صفحة فيس بوك لقارئ معجب أنه تم نسب الإصدارات الخاصة بالسلسلتين إلي اسم الدكتور محمد حلمي مراد وزير التربية والتعليم الأسبق, وهو أمر بالغ الخطورة بالنسبة لتراث كاتب نسيت الأجيال فضله, وللأسف فمع مرور الزمن فإن الحقائق تتوه تماما.
نعم, هذه الأسماء كلها علمتني, بل علمتنا, وإذا كان نشاط حلمي مراد قد امتد لسنوات, فإنني لن أنسي حضوره في إحدي الندوات السينمائية حين أشار إلي المصدر الأدبي لفيلم غاوي مشاكل بطولة عادل إمام بما يعني اتساع ثقافة الرجل وقد انعكس ذلك علي كتاباته حول رحلاته الثقافية شرقا وغربا, أما الكاتب الثاني فهو من القلائل الذين تعاملوا مع الأدب والسينما بالدرجة نفسها, وقد قرأنا له بقوة من خلال رواياته ومجموعاته القصصية وتابعنا جميعا أفلامه السينمائية, وعلي رأسها دعاء الكروان ويوم من عمري وقد كان جادا في كتاباته واختياراته منذ الأربعينيات ولأكثر من ستين عاما, فهو منتج فيلم أرضنا الخضراء ولم يتوقف عن الكتابة حتي مرحلة متقدمة من العمر, وفي السنوات الأخيرة من حياته زاد إنتاجه الأدبي فنشر الكثير من الروايات مثل أمهات في المنفي, وشخلول وشركاه وعليه فإنني لم أتعلم فقط مما كتبه علي الورق, وللشاشة, لكنني اقتربت منه بقوة كإنسان وهو ينشر مقالاتي السينمائية الأولي حين تولي رئاسة تحرير مجلة السينما والمسرح في منتصف السبعينيات, وكان قد خصص مساحة طيبة للكتاب الجدد, وأتاح الفرصة لجيل بأكمله أن ينشر للمرة الأولي, ويكشف مواهبه, وكنا نحن تلاميذه علي مقربة منه, ونزوره حتي اللحظات الأخيرة من حياته.
كان يوسف الشاروني هو أيضا أبونا الروحي ونحن نطالع مجموعاته القصصية وقد كان باحثا ومبدعا ليس له مثل في الدأب, وقد أعتبت عليه أنه سافر إلي الخليج للعمل, لكنه لم يكن يتوقف عن مراسلة تلاميذه وقراءة أعمالهم, وكأنه ليس بالغائب أبدا, وفي سلطنة عمان ساعد في بعث نشاط ثقافي كبير تراثي ومعاصر, واكتسب الكثير من خبرات السفر المستمر, وعقب عودته أحس كأن الزمن يطارده, فلم يكف عن الكتابة, كأنه شاب في العشرين وكان دائم الحضور عند إقامة الندوات, وتولي رئاسة نادي القصة وللأسف فإنني شاهدت مكتبته تباع عند أسوار الكتب القديمة عقب رحيله.
ينطبق الشيء نفسه علي الروائي إدوار الخراط الذي تجسد تميزه في الأسلوب والتجديد والموسوعية, وإتقان عدة لغات, وقد ارتبط بالمؤسسة الثقافية لسنوات طويلة, وهو صاحب مدرسة أدبية يحبها عشاق التجريب من القراء, كما أنه قارئ جيد للأدب العالم, ويعد موسوعة متحركة, وقد عاش الفترة الأخيرة من حياته أقرب إلي الراهب, وكنت حريصا علي مقابلته والتزود من منهجه, وكم كان بالغ التواضع, وكم عاني أن الجيل الأسبق له تعامل معه علي أنه من الشباب, أي أنه لم يقل كلمته بعد, أو لم ينضج, ومع هذا لم يعلن تمرده, وقد رأيته يوما في ندوة أقامتها السفارة السويسرية للاحتفال بكاتب ألماني اللغة في ندوة كان يديرها الدكتور لويس عوض, والذي أشار إلي الحاضرين ومنهم إدوار الخراط باعتبارهم أدباء شبابا, رغم أن من كان الأستاذ يقصدهم قد تجاوزوا الستين.
في السينما لابد أن تتعلم من رؤوف توفيق, الذي صنع مدرسة خاصة به في التعرف علي الأفلام هنا في مجلة صباح الخير, وكانت كتاباته تتجلي في موسم مهرجان كان في السبعينيات والثمانينيات, فالناقد يشاهد أفلام المهرجان باهتمام شديد, ويعود ليكتب عنها بذوق راق, وأسلوب بسيط ممتنع, وهكذا صارت المجلة من خلال هذه الكتابات الأكثر قراءة, وصار النقد السينمائي ظاهرة شعبية, خاصة مع تنافس المراكز الثقافية الأوروبية لعرض الأفلام الجديدة المهمة في فترات متقاربة فلم تبد كتابات رؤوف توفيق بعيدة عن اهتمامات الناس, بدا ذلك واضحا في فيلم الطبل الصفيح إخراج شولندورف حين عرض بعد فترة قصيرة في معهد جوته بحضور الروائي جونتر جراس الذي نال جائزة نوبل فيما بعد.
ومن مدرسة صباح الخير تعلمت الكثير من لويس جريس الذي تعرفت عليه مترجما من الطراز الأول في اختيارات النصوص, وفي مؤسسته قام بترجمة رواية مع سبق الإصرار للكاتب ترومان كابوت, وفي عام 1973 ترجم رواية ضخمة للمخرج إيليا كزان باسم القتلة نشرتها المجلة في حلقات كثيرة ولا أعرف لماذا لم تصدر في كتاب, بل ولماذا لم يستكمل الكاتب المسيرة بعد ذلك.
قائمة الكتاب الذين قرأنا لهم وعلمونا قبل أن نصادقهم كبيرة, وبالطبع فسوف ننسي البعض لكثرتهم, منهم في النقد السينمائي سيدتي إيريس نظمي, وفي ثقافة الطفل يعقوب الشاروني, والمفكر ميلاد حنا, ولكنني علي المستوي الشخصي لا أنسي الدكتور رؤوف سلامة موسي أحد المثقفين الذين يجب تحيتهم, حيث حرص علي إعادة طبع ميراث أبيه من خلال دار نشر أنشأها في الإسكندرية, وأصدر مجلة حاولت التعرف علي الثقافة المصرية, وطبع كتبا للجيل الثاني والثالث بعد جيل أبيه ولا أنكر أنني افتقدت كيانا إنسانيا بالغ الحنو عندما أصابه المرض وسافر إلي ابنه في ألمانيا ولم أعد أعرف أخباره.
رسالة تحية إلي كل من علمونا وقد وجدتها رسالة عرفان بالجميل أبعثها إلي من رحلوا, وإلي الباقين إلي جوارنا.
محمود قاسم
كاتب
[email protected]