معرفة الله ليست بالأمر الهين أو السهل, وكما يقول بولس الرسول إننا الآن نعرف بعض المعرفة, ننظر كما في مرآة, في لغز (1كو13:12).. عجيب هذا الأمر جدا: بولس الرسول الذي تمتع بقسط كبير من فرط الإعلانات (2كو12:7, 1), والذي اختطف إلي السماء الثالثة وسمع كلمات لا ينطق بها, ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها (2كو12:4).. بولس القديس العظيم هذا, يقول إنه يعرف بعض المعرفة..
بل إنه يجاهد ويسعي ويبذل كل شيء, لكي يعرف.. ويقول: لكن ما كان لي ربحا, فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة, بل إني أحسب كل شيء أيضا خسارة من أجل معرفة المسيح يسوع ربي.. لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه.. (في4:7, 8, 10).
إذن حتي الرسل لم يصلوا إلي المعرفة الكاملة..
كما نري من مثال القديس وليس الذي ذكرناه, وأيضا كما يظهر من قول السيد المسيح عنهم: عرفتهم اسمك, وسأعرفهم.. (يو17:26).. ما الذي ستعرفهم إياه يارب, هؤلاء الذين أئتمنتهم علي تعليم المسكونة كلها؟ هل هناك معرفة أخري ستمنحها لهم؟!.. كثيرا جدا بلاشك, معرفة لا يمكن أن يكفي لها هذا العمر الأرضي, لذلك يقول الرب للآب:
هذه هي الحياة الأبدية, أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك.. (يو17:3).
طالما نحن في هذا العالم, محوطون بضباب هذا الجسد المادي, فلن نصل إلي معرفة كاملة بالله, إنما ننظر كما في مرآة, في لغز.. ولكن حينما نخلع هذا الجسد, فأرواحنا الشفافة التي علي صورة الله ستعرف أكثر.. وعندما ندخل في الملك المعد لنا, في ما لم تره عين, ولم تسمع به أذن, ولم يخطر علي قلب بشر (1كو2:9), حينئذ سنعرف أكثر وأكثر.. ولكن أترانا سنعرف في ذلك المجد كل شيء عن الله؟ محال, لأننا مخلوقات محدودة, والله غير محدود..
ومن المحال أن المحدود يعرف كل شيء عن غير المحدود!
كيف لهذا العقل المحدود, أو هذا القلب المحدود, أن يعرف كل شيء عن الله غير المحدود, هنا وأتذكر بيت الشعر الذي قلته للرب في قصيدة همسة حب:
لم يسعك الكون ما أضيقه كيف للقلب إذن أن يسعك؟!
الذي سوف يحدث أن الله سيوسع قلوبنا وعقولنا لكي تتسع لمعرفة أكثر عنه, فتبهرنا تلك المعرفة العجيبة, ونقول لله كفانا كفانا, ما عدنا نحتمل أكثر.. ونبقي وقتا في دهش مما كشفه لنا.. ونحن نفيق, ولست أدري متي؟
وحين نقضي وقتا نتمتع فيه بما عرفناه, ونتأمله, ونستطعم ما قد ذقناه وما أطيبه.. يوسع الله قلوبنا وأفكارنا حتي تقوي أن تحتمل المزيد من المعرفة, وهي مريضة حبا (نش2:5).. ومع ذلك تبقي هذه العقول والقلوب البشرية محدودة بطبيعتها, لا تستطيع أن تتسع لغير المحدود..
بينما الله تبارك اسمه كما هو: غير المفحوص غير المدرك.
إذن متي سنعرف المعرفة الكاملة عن الله, لو كان ممكنا أن نعرف؟.. يجيب المعلم الصالح بنفس قوله للآب عنا: هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك.. (يو17:3).
إن كان هذا ما سيؤول إليه حالنا في السماء, ونحن نلبس الجسد الروحاني السماوي المقام في مجد (1كو15), فماذا نقول إذن عن معرفتنا ونحن علي الأرض؟!
ألا يخجلنا قول الرب لواحد من الاثني عشر رسولا القديسين: أنا معكم زمانا هذه مدته, ولم تعرفني يا فيلبس؟! (يو14:9). وإن كان هذا هو حال معرفة الرسول عن الرب في تجسده, فماذا عن الله في مجد لاهوته! لا أستطيع أن أقول سوي الآتي:
إن الله يمنحنا من معرفته, ما يكفي لأن نؤمن به وأن نحبه.
ويكفي هذا الآن, أما ماذا ستكون عليه معرفتنا في الأبدية, فهذا ما لا أدريه.. كل ما أدريه أننا سوف ننمو في معرفة الله, بالقدر الذي تحتمله طبيعتنا البشرية في تجليها, وفي المجد الذي يوهب لها..
لقد كشف لنا الله عن طريق الوحي أشياء كثيرة, وكشف لنا بتجسده أكثر وأكثر, حتي قال القديس يوحنا الرسول: الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الكائن في حضن الآب هو خبر (يو1:18). وحقا أعطانا الابن الكثير من المعرفة عن الآب, ولايزال الأكثر لا نعرفه, لذلك قال: عرفتهم.. وسأعرفهم.
صدقوني إن صفة واحدة من صفات الله, لا يكفي عمرنا كله لمعرفتها..
ماذا إذن عن صفاته كلها..؟!
بل حتي وصاياه لم نعرفها وندخل إلي أعماقها كما ينبغي, وفي ذلك يقول داود النبي: لكل كمال رأيت منتهي. أما وصاياك فواسعة جدا (مز119), ومن جهة طرق الرب, يبتهل وهو النبي العظيم قائلا: عرفني يارب طرقك, فهمني سبلك (مز119).
إننا نحاول حاليا أن نعرف ما ينتسب إلي الله, لعلنا نصل إلي معرفة بعض الشيء, عن الله نفسه..
نحب أن نعرف كتابه, ناموسه, وصاياه التي تنير العينين من بعد (مز19).. ونتأمل لعلنا نعرف ما يمكننا معرفته عن ملائكته التي هي أرواح مرسلة للخدمة (عب1:14), ونار تلتهب (مز104:4), نتأمل أيضا سماءه, وأورشليم السمائية التي هي مسكن الله مع الناس (رؤ21).. وفي كل ذلك يقول الحكيم منا: لا أعرف وآخر ما يصل إليه يقول: أعرف بعض المعرفة (كو13:12).
بل فليعذرني القارئ إن قلت إننا حتي الآن لم نعرف أنفسنا!! فما الذي نعرفه مثلا عن الروح, عن كنهها, وعن مغادرتها للجسد؟ وما الذي نعرفه عن الجسد الروحاني الذي سنقوم به.. فإن كنا لم نعرف الإنسان نفسه, ولم نعرف أسرارا كثيرة عن الكون الذي نعيش فيه.. هل في جرأة نقول إننا نعرف الله؟!
ومع ذلك نقول: إننا هنا ننمو في المعرفة.
بعشرتنا مع الله واختبارنا له تنمو معرفتنا له, تماما مثلما قال له أيوب الصديق: بسمع الأذن سمعت عنك, والآن رأتك عيناي (أي42:5). ويشبه هذا ما قاله أهل السامرة.
في بدء الأمر دعتهم المرأة السامرية لرؤية المسيح قائلة: هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت, فلما أتوا ورأوه وآمنوا به قالوا للمرأة: إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن (يو4), لقد كان ما رأوه أعمق بكثير في تأثيره العجيب عليها. يشبه هذا إلي حد ما -والقياس مع الفارق- شعور ملكة سبأ عندما رأت سليمان, إذ يقول الكتاب: لم يبق فيها روح بعد (1مل10:5), يبقي أن أقول لك:
إن عرفت الله ستقع في ذهول, أو تسكر بمحبته.
وهذا ما يسميه بعض الكتاب حالات الدهش, لأنك حينئذ ستعرف ما لم يخطر علي قلب بشر.. أو ربما تعرف كلمات لا ينطق بها, وهذه المعرفة توجد في قلبك أحاسيس وعواطف أسمي من أن نسطرها.. وبمعرفتك لله سوف تزدري بكل معرفة أخري, هذه التي قال عنها الكتاب إنها: جهالة عند الله (1كو3:19).. وحينئذ يسمو عقلك في تفكيره, وتنال روحك شبعا وريا..
وإذا عرفت الله حقا, سوف تزهد كل ما في العالم.
ستزهد شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة (1يو2:16). لأنك إن أحببت أمور العالم هذه, لا تكون فيك محبة الآب (1يو2:15), ولا تكون قد عرفت الله بعد.. انظر إلي بولس الرسول كيف أنه خسر كل الأشياء وهو يحسبها نفاية من أجل فضل معرفة الرب..
إن الذي يعرف الله, لا شك سوف يكتفي به, ويقول مع داود النبي:
معك لا أريد شيئا علي الأرض (مز73:25).
ويقول معه في نفس المزمور: وأما أنا فخير لي الالتصاق بالرب.
إن وصلت إلي هذا المستوي الروحي تكون قد عرفت الله.. أقصد تكون قد عرفته بعض المعرفة.
إن معرفة الله هي معرفة ذوقوا وانظروا (مز34:8).
يبقي السؤال المهم في هذا الموضوع, وهو:
كيف يمكننا أن نعرف الله, هنا؟
عفوا, أتراني فتحت معك الآن الباب الرئيسي, الذي بلا شك ليس مجاله في هذا المقال؟
أستأذنك أيها القارئ المحبوب أن أختم حديثي معك الآن, وإلي لقاء لتكملته إن أحبت نعمة الرب وعشنا..