تشير تجارب الدول الأخري, أن العنصر البشري لايزال هو الأهم في تنمية عادة القراءة عند الأطفال, وذلك عن طريق تعميق وعي الأسرة بدورها الأساسي في هذا المجال, مع تقديم القدوة المستمرة للأبناء, متضافرة في هذا مع تنظيم مجتمعي متكامل, يهيئ للأسرة الأدوات الأساسية والضرورية للتعامل بنجاح مع أبنائها, خطوة خطوة منذ الميلاد, وهو ما يجعل الكتاب جزءا لصيقا بحياة الأطفال, ونذكر هنا تجربة شخصية, حدثت في لندن عام 2012, مع ابنة أخي, وهي مهندسة مصرية متزوجة من طبيب مصري وتعيش في لندن, كانت عندئذ أما لابن حديث الولادة, بعد أن وضعت طفلها بأسبوع, وجدت أمينة المكتبة العامة في الحي الذي تعيش فيه, تزورها في البيت, لكي تقدم لها بطاقة اشتراك بالمكتبة. قالت لها الأم: أشكرك.. لكن أنا وزوجي مشتركان في المكتبة, لأننا نعد دراستنا لدرجة الدكتوراه. أجابت أمينة المكتبة: لكنه ليس اشتراكا لك ولزوجك يا سيدتي, إنه اشتراك للطفل الجديد, قالت لها الأم ضاحكة في دهشة: ابني لا يزيد عمره عن أسبوع! أجابت أمينة المكتبة: أعرف ذلك, فقد عرفت اسمه وعنوانه من سجلات مواليد المدينة, ويقضي النظام في هذه المكتبة, أن نقدم بطاقة اشتراك لكل مولود جديد في دائرة المكتبة, لكي تأتي الأم, أسبوعيا, لتستعير له من القسم الخاص بحديثي الولادة, الكتب التي تقترب من الألعاب ويتعامل معها الطفل بحواسه, وهي كتب تناسب مرحلة نمو الطفل وإدراكه, واعتماده علي حواسه في اكتساب الخبرة, لكي يتطور عقل الطفل ومدركاته التطور السليم منذ أسابيعه وشهوره الأولي, وذلك في ضوء ما تم اكتشافه من أن هذه الشهور الأولي هي أفضل سنوات العمر في سرعة اكتساب مختلف الخبرات, وعلي وجه خاص من الكتب والقصص والوسائل المعتمدة علي اللمس والنظر والرائحة والأصوات والألوان, وكلما تقدم العمر بالطفل, زاد ارتباطه بالكتب, وبذلك تصبح جزءا دائما من حياته.
- تقول الأم: ذهبت إلي المكتبة, واستعرت سبعة كتب (بعـدد أيام الأسبوع), ليـس فيها كلمات, صفحاتها مصنوعة من خامات غير الورق مثل القماش والفوم والبلاستيك, تصدر منها روائح جميلة مختلفة, ولها ملامس مختلفة أو بارزة, وبها لوحات تتجسم وأجزاء تتحرك, وكلما أمسكت الأم بأصابع الطفل ليضغط علي أماكن معينة, تصدر أصواتا أو موسيقي أو أضواء. وتضيف: وبعد أسبوع آخر, زارتني ضيفة أخري, وجلست معي تنقل لي خبراتها حول كيفية احتضان الطفل عند التعامل معه بمثل هذه الوسائل, وطلبت مني أن أقضي مع ابني كل يوم ما بين ربع ساعة إلي نصف ساعة, نلعب ونحن نتعامل بتلك الكتب, علي أن أحدثه علي نحو دائم عما يقع علي حواسه, وأن أجعل كل حواسه تشارك في التعرف علي ما أحدثه عنه. وتكمل الأم: وكم وجدت استجابة قوية من طفلي الرضيع وأنا ألعب معه بهذه الوسائل, فبعد ستة أشهر, كان صغيري هو الذي يبدي من الأصوات ما ينبهني إلي فترة تفاعلي معه بتلك الكتب, بل بدأ يحاول إمساك الكتب بنفسه, وجذبها ناحيته, والضغط علي أجزاء منها بأصابعه ليسمع الموسيقي ويري الأضواء, لقد نجحت تلك الكتب في أن تصبح جزءا مهما من حياته اليومية.
* وتضيف: لقد هيأ المجتمع وجود المكتبة, ووجود الكتب والوسائل التي تناسب الرضيع والحضين, وتم تدريب من ستقوم بزيارة كل أم وإرشادها إلي كيفية التعامل مع أطفالها بتلك الوسائل, ثم أصبحت بقية المسئولية ملقاة علي الأم في استمرار الاهتمام باستعارة الكتب, وفي تقديمها للأبناء بطريقة تفاعلية ولو لمدة دقائق كل يوم, وأن تشاركهم بجدية في الاهتمام بالكتب, ثم تؤكد الأم قائلة: أعتقد أنني لن أبذل مجهودا فيما بعد لربط حياة ابني بالقراءة والكتب, فقد تأصلت فيه علي نحو طبيعي تشربته حواسه, عادة القراءة وحب الكتاب منذ ميلاده, بل لست أخشي أن يصرفه أي شيء آخر عن اهتمامه بالكتب, التي أصبحت تستفيد من عناصر التكنولوجيا الحديثة في جذب اهتمامه وإثارة حبه لها.
إن هذا الأسلوب في التربية الذي تم التوصل إليه نتيجة التنبه بقوة إلي أهمية سلامة تنشئة الأطفال منذ مولدهم, التنشئة التي تساعد علي نموهم وتقدمهم السليم في القرن 21, عن طريق من ينشرون كتب الأطفال والمكتبات والعاملين فيها, قد تم إكماله عن طريق نظم وأساليب التعليم في دور الحضانة والروضة والمدرسة الابتدائية.
يعقوب الشاروني
Email: [email protected]