من بين القصص الشعبية المتوارثة جيلا بعد جيل, وتحمل فائدة للأطفال والنشء والكبار, أنه في يوم من الأيام جمع أحد الحكماء أولاده جميعا ليعلمهم درسا من دروس الحياة, وقال لهم: ائتوني بحزمة من الحطب, فلما أتوا بالحطب إليه أعطي كل واحد منهم عودا, وقال: اكسروا هذه الأعواد منفردين, فكسروها بسهولة ويسر, فجمع الأحطاب جميعا وجعلها في حزمة واحدة وطلب من كل واحد منهم أن يقوم بكسرها مجتمعة لا منفردة, إلا أنهم- ورغم ما يملكونه من قوة- قد بذلوا جهدا كبيرا فلم يستطيعوا كسرها.. هنا سأل الأب الحكيم أولاده: أتعلمون لماذا استطعتم أن تكسروا الأخشاب المنفردة ولم تستطيعوا كسرها وهي مجتمعة؟, ثم أجاب عن ذلك وقال: في الاتحاد قوة وفي التفرقة ضعف.
لقد صارت عبارته واحدة من أبرز الحكم والأمثال الشعبية التي تدعم قيم الوحدة والتعاون والتآخي والعمل المشترك بين المواطنين علي اختلاف أفكارهم وتنوع انتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية.
واقع الأمر أن لكل مجتمع ثقافته الشعبية, تلك المنظومة التي تكونت عبر سنوات طويلة بفضل عوامل كثيرة وروافد متعددة, منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي, لتصبح أسلوب حياة ومنهجية تفكير وطريقة تعامل, وهي تعد جزءا أصيلا من منظومة القيم الحاكمة للمجتمع والسائدة فيه, تتجلي في الكثير من المظاهر, مثل الحكم والأمثال العامية, تلك المقولات المأثورة التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية وممارساتهم الاجتماعية, وتتوارثها الأجيال الجديدة وترددها بكثير من العفوية والتلقائية, بما تحويه من أفكار إيجابية وأخري سلبية, يعمل بها البعض ويرفضها البعض الآخر, لكنها تظل حاضرة بقوة في الذهنية الجمعية للمواطنين وتحكم تصرفاتهم في كثير من الأحيان كمرجعية رئيسة يؤمنون بها.
فمن بين الحكم والأمثال الشعبية التي تعكس قيما إيجابية, مثل قيم التعددية والتنوع والتسامح والحاجة إلي التعاون البناء والعمل الجماعي والعيش المشترك والتماسك الاجتماعي والترابط الإنساني, إيد لوحدها ما تسأفش, والقفة أم ودنين يشيلوها اتنين, والنبي وصي علي سابع جار, والناس لبعضيها, ومن عاشر القوم أربعين يوما, صار منهم وصاروا منه, واعمل الخير وأرميه البحر, ولا شكر علي واجب, وإللي فات مات, ويا بخت من قدر وعفا, وعفا الله عما سلف, والمسامح كريم.. وغيرها الكثير من أمثال نرددها يوميا.
تتناسب الحكم والأمثال السابقة, بل ربما تتشابه إلي حد بعيد, مع بعض الآيات والقصص التي وردت في التوراة والإنجيل والقرآن وربما في غيرها من الكتب الدينية لأديان ومعتقدات أخري, ما زاد من رسوخها في أذهان البعض ودعم ممارساتهم.. ففي التوراة نقرأ: ارم خبزك علي وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة (سفر الجامعة الأصحاح11 الآية1). وفي الإنجيل: طوبي لصانعي السلام, لأنهم أبناء الله يدعون (إنجيل متي الأصحاح5 الآية9), وفي القرآن: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (سورة الحجرات الآية13).
ورغم ذلك, فهناك بعض الحكم والأمثال الشعبية التي ترفض التنوع وتنكر الآخر المختلف, وتقاوم أي تجديد أو تغيير, بل أن بعضها يدعو للفردية والأنانية, وهي تستند علي ممارسات اجتماعية متنوعة, من ذلك الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح, أنا ومن بعدي الطوفان, إللي يعوزه البيت يحرم علي الجامع, صباح الخير يا جاري أنت في حالك وأنا في حالي, ابعد حبة تزيد المحبة, عشمان حنا يخش الجنة!!.
ما يعني أن منظومة القيم, وبالأخص تلك المعتمدة علي أمثال عامية وحكم شعبية, مسألة تحتاج إلي ضبط ومراجعة بما يتناسب وتطور المجتمع الإنساني ويحقق الخير العام والصالح العام, وإعلاء قيم المواطنة والتنوع والحوار, عبر إخضاع أمثالنا الشعبية إلي فحص وتدقيق وعملية غربلة وفلترة, هدفها تدعيم الحكم والأمثال والمقولات التي تدعم القيم الإنسانية, الإيجابية والمطلوبة, أما الحكم والأمثال التي تنقل معاني سلبية فمن الطبيعي إهمالها, ومن المنطقي إغفالها, حتي يتناساها الناس وتسقط مع الوقت من ذاكرتنا الجمعية, فلا يرددها الكبار ولا يتربي عليها النشء والأطفال.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه علينا بإلحاح هو: هل نمتلك الشجاعة الكافية, فنأخذ زمام المبادرة ونواجه أمثالنا الشعبية, نبقي علي البعض منها ونستبعد البعض الآخر؟! سؤال مهم يبحث عن إجابة, تعكس في حقيقة الأمر مدي رغبتنا في التطوير والإصلاح والتنوير.
يقول الكاتب الصحفي والشاعر المصري المعروف صلاح جاهين, الذي عاش بين سنتي 1930م و1986م, في رباعياته الشهيرة:
لولا اختلاف الرأي يا محترم
لولا الزلطتين ما الوقود انضرم
ولولا فرعين ليف سوا مخاليف
كان بيننا حبل الود كيف اتبرم؟
عجبي!!!!