هناك فى هذه العائلة السليلة الأصل والنسب من نسل الشرفاء الملكى ولد الطفل دانيال على فراشه الوثير بالأقمطة المذهبة مترفاً بالطعام الفاخر. هذا ندركه من أمر نبوخذنصر لرئيس خصيانه “بأن يحضر من بنى اسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء فتياناً لا عيب فيهم” (دا ٣ : ١ ) وقد أخطأ نبوخذنصر فى تقديره للأمور لأنه أبداً ما كانت هذه الأمور تمثل القيمة الحقيقية للإنسان. لم يكن نسب وغنى دانيال يحسب شيئا جوار استقامة ذلك الفتى المسنود والمؤيد بالقوة السماوية. فكم من فتيان استاقوهم مع دانيال والفتية الثلاثة من الشرفاء ومن النسل الملكى طواهم التاريخ فى طى النسيان لا لأن الكتاب لم يذكرهم وإنما لأن دانيال وأصحابه تفوقوا عليهم عشرة أضعاف. فجبار البأس جدعون كانت عشيرته هى الذلى فى منسى وهو الأصغر فى بيت أبيه، وداود النبى والملك يصلى ويقول “من أنا يا سيدى الرب وما هو بيتى حتى أوصلتنى إلى ها هنا” ( ١صم ١٨ : ٧) فليس الفتى من قال “كان أبى” إنما من قال “هأنذا”.
صحيح أن دانيال كان من نسل الشرفاء ولكن هناك سر حقيقى وراء تألقه فى سماء بابل كانت هناك جذور من ذهب متأصلة فى حياته ارتوت فى تربة مقدسة مباركة. ونحن يدفعنا الفضول المقدس لمعرفة هذا السر الذى نجده بين طيات قصة حياته التى تشير بوضوح إليه، فحين أمر داريوس الملك “كل من يطلب طلبة حتى ثلاثين يوما من إله أو انسان إلا منه يطرح فى جب الأسود نجد دانيال “ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة فى عليته نحو أورشليم فجثا على ركبتيه ثلاث مرات فى اليوم وصلى وحمد قدام إلهه” (دا ١٠ : ٦ ) ولأن الكتاب يقول “كما كان يفعل قبل ذلك” فهذا معناه أنه لم يفعل هذا على سبيل التحدى ولكن كان هذا لعشرة روحية قديمة مؤكد أنها بدأت فى أورشليم، بدأت واستمرت معه، فليس من المعقول أنه وجد فى مدرسة نبوخذ نصر الأممية من يعلمه الصلاة والصلاة نحو أورشليم بالذات كمركز روحانى وإنها الموضع الذى ينبغى فيه السجود، ولكن هذا ما تعلمه فى بيت الأحباب فكان إليها حنينه وكانت فى غربته نبع تأملاته وتعزياته “إن نسيتك يا اورشليم تنسى يمينى ليلتصق لسانى بحنكى إن لم أذكرك” (مز ٥ : ١٣٧ ) .
ماذا لو أن كل ميراث دانيال من أبويه كان محصوراً فيما ذخروا له من مركز أو مال؟ ماذا حتى لو كانت كل أورشليم فى قبضته حين جاءت جيوش بابل وجردوه من الكل؟ ولكن لأنه إرث لا يفسده صدأ ولا يأكله سوس كان ميراثه ثابتاً، لقد استطاعوا أن ينتزعوه من وسط اسرته جسداً فقط، ولكن ما استطاعوا أن ينزعوا روحه ونفسه البارة عن التقوى والاستقامة. وهكذا لم يفن ميراث آبائه الحى.
إن المسؤولية ملقاة على الوالدين الذين ننهض بالتذكرة ذهنهم النقى أن هؤلاء الأولاد الذين اقتبلوهم وتسلموهم من الله كوزنة هم صفحات بيضاء وإلى أن يبلغوا العمر الذى تنضج فيه الإرادة الحرة لاختيار الطريق فإن البيت هو الأساس وهو المسؤول الأول.
أغلب شكاوى الوالدين تأتى حينما يصل الأبناء سن المراهقة غير عالمين أن هذه ما هى إلا أعراض لأمراض بدأت الاصابة بها فى الطفولة حين انصرف الوالدان عن الإهتمام بالصلاة مع أطفالهم وسيطر على فكرهم قلق وهم العالم الحاضر ماذا نأكل وماذا نلبس، وعوض سرد سير القديسين كقدوات مباركة راحوا يسردون فى سيرة الناس بالحق والباطل ويتشرب الاطفال هذا النهم الفضولى لسماع اخبار الناس، وعوض سماع العظات يسمعون الأفلام والمسلسلات ويهتمون بالمظاهر، إلى آخره من الأمور الخانقة المعطلة لكلمة الله وهكذا ماذا ينتظر الوالدان من ابن كهذا ؟ هل يرجون منه ملاكا؟! يقول الحكيم فى أمثاله”رب الولد فى طريقه فمتى شاخ ايضا لا يحيد عنه” (ام٦:٢٢ ).