هناك دائما تطلعات للأفضل على المستوى الفردي والاجتماعي والسياسي، وهذه التطلعات تعني أن هناك واقع نريد تغييره أو تجاوزه نحو الأفضل. والأفضل نراه في صورة مصالح شخصية أو قيم اجتماعية، أي أن نكون في وضع مادي أو اجتماعي أو نفسي أفضل لنا أو لآخرين نحبهم، ومن الناحية الاجتماعية أن نكون في مناخ يحترم القيم التى نفضلها. ولا شك أن الطموح والرغبة في الوصول إلى أوضاع مثالية أمور لا تفارق خيال البشر، وهي رغبات مشروعة، ولكنها تصبح مشكلة عندما يتحول الأمر إلى رغبة دائمة في الهروب من الواقع، أو يكون التطلع مجرد رغبة محمومة في الوصول والامتلاك بنهم وأنانية وبدون أي اعتبارات اجتماعية أو أخلاقية. إن معادلة الواقع والمأمول محورية في حياة البشر، إن لم تكن قصة حياتهم، وبالتالى فالكلام عنها يحتل جانب كبيرا من التفكير، فتُقال بعبارات النقد والشكوى والاستياء من واقع الحال، وبعبارات الحلم والخيال وبالذكرى والحنين لما نتمناه. ولكن هناك وجه آخر لمعادلة الواقع والمثال، ذلك المتعلق بالفكر والتحليل، أي عندما نسأل: ما هى مشكلات الواقع الذي نريد تغييره أو تركه؟ وماذا ينبغي أن يكون؟ وبالتالى نسأل السؤال العملي وهو: كيف يمكن التحول من الوضع الحالي إلى الوضع الذي نفترض أنه الأفضل؟ وإذا أخطأنا فى الاجابة عن التساؤلات التشخيصية أو وضعنا افتراضات غير صحيحة، فسوف ينعكس هذه الخطأ عن الاجابة عن السؤال العملي (كيف؟). والمسألة ببساطة مثل حالات تشخيص المرض، فالخطأ في التشخيص يؤدي حتما إلى خطأ في العلاج.
أقول هذا لأن هناك شئ مزعج يحدث كثيرا في النقاشات الفكرية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمناقشة أمور تكون موضع تحيزات فكرية ومواقف مسبقة، مثل قضايا الثقافة والقيم. وهذا الأمر بالمزعج بالتحديد هو ما يمكن أن نسميه “المراوغة باسم القيم”، أو الإيهام بأننا أفضل من غيرنا، وهو الأمر الذى يعنى إنكار واقعنا من خلال إحلال ما ينبغى أن يكون محل ما هو كائن بالفعل. يحدث هذا الخلط، بشكل عفوي أو عمدي، عند المقارنة بين القيم سواء قيم مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية. فعندما نناقش موضوع القيم يلجأ البعض إلى مناورة دفاعية عن الذات، فيفترض المدافع عن الهوية بأننا نجسد قيما مطلقة، وينكر تماما حال هذه القيمفى الواقع العملي، فيدافع عن الذات وكأنها متكاملة وخالية من العيوب، وتكتمل “المراوغة” بالتعامل مع الواقع الغربي بانتقائية من أجل إثبات كيف أنها أقل مرتبة من قيمنا “المجردة”.
ومن منظور التفكير الموضوعي والحوار البناء، فإن هذا النمط من التفكير يفسد القدرة على التشخيص والتحليل، وكثيرا ما يؤدي إلى غلق باب الحوار الموضوعي حيث تسيطر سلطة الافتراضات الذهنية والانحيازات المسبقة فيختفى الواقع، وباختفائه يختفى المأمول بإعتبار أنه واقع متحقق وهو ليس كذلك. والمراوغة الفكرية لا ترتبط بالضرورة بمستوى التعليم أو التحصيل الفكري، فكثيرا ممن هم أقل تعليما لديهم عقول منفتحة على النقد والتحليل، وكثير من كان لهم حظ من التعليم والتحصيل الفكري يفتقرون إلى التفكير العلمي والموضوعي. بل أكثر من ذلك، فإن هذه الفئة الأخيرة هي الأكثر قدرة على المرواغة والمناورة باسم الدفاع عن القيم والهوية.
وللأسف فإن الخلط بين الواقع والمثال يشكل تحديا كبيرا لمن يعملون في التخطيط من أجل الإصلاح الثقافي، فجزء كبير من الجهد يتم استهلاكه في جدل عبثي حول الذات والآخر، وكلما احتدم الجدل، كل ابتعد الحوار عن مشكلات الواقع الفعلية، ويتحول الأمر إلى معركة في حلبة الافتراضات الذهنية والانحيازات. ولا أقول أن الأمر يتعلق بمواقف شخصية، وإنما بأنماط تفكير يغيب عنها التفكير العلمي والنقدي، وهي قضية كبرى تتعلق بنظم التعليم والخطاب الثقافى السائد.
Attachments area