نتفق جمعينا على قيمة “الإبداع”، ولكننا كثيرا ما نختلف في تقدير ذلك الشئ الذي نسميه “إبداعا”، فما يراه البعض بأنه شئ متميز وجديد، قد يراه آخرون بوصفه “بدعة” تضر أكثر مما تنفع.
وهذا الاختلاف ناجم عن أن مفهوم “الإبداع” ليس له تعريف واضح ومحدد، فهو يُستخدم بشكل واسع وبدلالات متعددة في الخطابات الشعبية والأيديولوجية والعلمية.
وقدر هذا المفهوم أن يكون في مركز الصراع الدائر بين المواقف الثقافية والفكرية المناصرة للتجديد والتغيير وتلك التي تشك فى كل ما هو جديد أو غير مألوف.
وفي السياق العربي، فإن الإبداع ككلمة وليس كمصطلح تنطوي على إلتباس وربما تناقض. يعرف المعجم الكبير كلمة “بدع” من خلال معنيين رئيسيين وهما: أولا: “إيجاد الشئ على غير مثال”، وثانيا: “الانقطاع والكلال”، أى العجز والتعب. ومن المعنى الأول تأتي كلمة “إبداع” والتي تعنى “إنشاء شىء إبتدا لا إحتذاء”، حيث يأتى المبدع بشىء ما جديد غير معروف للسلف. ولكن هذا المعنى ذاته إشكالي في الثقافة العربية لأنه يحمل ما يبعث على الخوف من الإبداع كعملية خلاقة، حيث يُشتق منه لفظ “بِدعة” أي “الأمر المُحدث”، وعند الفقهاء: “المُحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والمُحدِثون، ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي”.
وفي الحديث” “إياكم ومُحدثات الأمور، فإن كل مُحدثة بدعة”. وكلنا يعلم الدعوات التقليدية في المساجد والتى تقول ان “كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”. وهذا هو أحد مستويات التعريف بمصطلح الإبداع، ولا يخفى فيه الأثر الأيديولوجي على دلالات المصطلح. أما في الخطاب العام فإن كلمة إبداع يجري استخدامها بمعنى فضفاض بالتناوت مع كلمات أخرى مثل الذكاء والعبقرية والنبوغ والتفرد إلخ. وفي كل الأحوال يجري الإشارة إلى ظواهر فردية، وأحيانا إلى توصيفات جماعية لجماعة أو حتى شعب ما ولو على سبيل التنميط.
ومن المنظور العلمي، حظيت ظواهر الإبداع باهتمام عدد من فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية وخاصة علمي النفس والاجتماع. وربما يكون علم النفس هو أكثر العلوم اهتماما بهذه الظواهر، وخاصة عندما يجري النظر إلى ظواهر الإبداع بوصفها ظواهر فردية ترتبط بقدرات خاصة للشخص المبدع، في حين أن العوامل الأخرى فإما أن تكون محفزات أو مثبطات للطاقة الإبداعية للفرد. وبهذا المعنى فإن المبدع هو شخص متميز وغير عادي (هذا في حين أن السياقات الأيديولوجية غير العلمية قد تتعامل معه كشخص مارق). وتمدنا أفرع معرفية أخرى مثل التاريخ، والأنثربولوجيا وعلم الفلوكور بمعطيات حول إبداعات جماعية لشعوب وجماعات وثقافات، بما في ذلك ما يعرف بالشعوب والثقافات البدائية، ولكن غالبا ما لا يصنف الأمر على أنه دراسة في الإبداع.
ومع تعدد الدلالات والمواقف فإن الظواهر الإبداعية لا تتحدد بتعريفها بقدر ما تتحدد بقوة الاعتراف بها، وقد يكون هذا الاعتراف عام أو خاص، طويل أو قصير المدى. والمقصود بذلك أن بعض الظواهر الإبداعية فى الفن أو الأدب أو العلوم أو الرياضة قد تحظى باعتراف عام، وغالبا ما يكون للإعلام والتسويق والجوائز أدوارا هامة فى التعريف بالظاهرة الإبداعية والتعبئة من أجل توسيع دائرة الاعتراف بها، ولأن الظاهرة تستقى قيمتها من قوة الاعتراف بها، فإن الكثير من أنماط الاعتراف العام غالبا ما تكون قصيرة المدى نظرا لارتباطها بالحشد والتسويق. هذا في حين يكون الاعتراف الخاص، أي من قبل مجموعة مهتمة أو متخصصة، أكثر موضوعية فى تقدير قيمة الظواهر الإبداعية، ولذا فإن الاعتراف الخاص كثيرا ما يكون طويل المدى، لأنه يرتبط بانجازات فعلية يفهمها ويقدرها أهل الاختصاص، إن لم تكن هناك منافسات وتحيزات تستهدف النيل من أصحاب الأعمال الإبداعية، وكثير من الأعمال الإبداعية فى كافة المجالات يعرفها أهل الاختصاص ولكنها تظل غير مرئية في المجال العام.
وعليه فمن منظور الواقع المُعاش، يمكن إلقاء الضوء على عاملين أساسيين يؤثران على القدرات الإبداعية فى المجتمع: أولا: الجمود الفكري والمؤسسي والذي يتمثل فى الخوف من الإبداع من قبل الاتجاهات المحافظة من ناحية، وكبته من قبل الاتجاهات المعادية للانفتاح والتغيير من ناحية أخرى؛ ثانيا: تشوش الاعتراف بالظواهر الإبداعية، فنتيجة لسيطرة منطق الاستعراض والتسويق، أصبحت قيمة الكثير من الأعمال الإبداعية تأتي من خارجها، أي من عالم صناعة الإبداع والمبدعين وليس من العمل الإبداعي ذاته. وللاسف فمع تحكم هذه العوامل تتراجع جودة الأعمال الإبداعية وتتآكل القدرة على الإبداع.