نبدأ بالكلمات الرائعة للشاعر والفيلسوف الألماني جوتة:في قلب الإنسان ألف باب مغلق,فإذا دخل الحب أحدها فتحها جميعا,نستطيع أن نعرف قلب الإنسان من تصرفاته مع الآخرين سواء إذا أظهر ذلك بالحب والحنان والشفقة أو بالبغض والقسوة والعنف,فقلب الإنسان هو سر غامض ويستطيع أن يبدل الإنسان من حالة لأخري,فعندما نتقابل مع شخص ما يتصرف بعنف وبدون رحمة,نطلق عليه إنسانا بلا قلب,ولكن إذا وجدنا فردا يتعامل برقة وحنان وغفران نقول له:قلبك كبير لذلك يحثنا السيد المسيح له المجد قائلا:تعلموا مني,فأني وديع ومتواضع القلب.
لاتستطيع الكتب قراءة قلب الإنسان ولا تصنيفه,لأنه متدفق ومتغير,واشتعال أحاسيسه وانفعالاته ورغباته لايمكن أن تنحصر في قالب مكتوب أو مقولة,لأن القلب لديه أفكار لايمكن أن يستوعبها أو يفهمها العقل,ويعبر القديس أنطونيوس الكبير عن صراع القلب قائلا:الناسك المتعبد في الصحراء ينجو من ثلاث تجارب:العينين,واللسان,والأذن,ولكن تظل أمامه معركة واحدة تصارعه ألا وهي معركة القلب,نحن نعلم بأن أول تجربة للإنسان تأتيه من العينين ورغباتهما ومطامعهما,ثم ثورة الكلام,وأخيرا فضولية الاستماع,لكن في الصحراء نجد الأفق مكشوفا,ولا توجد فرصة الحوار,وتنطفيء الأخبار والضوضاء,لكن القلب يظل مشغولا ومرتبكا بأمور كثيرة,كما لو كان في وسط المدينة,لأن التخيلات من الممكن إيقادها وشحنها بآلاف الصور,والرغبات تقتحم النفس,لذلك فالمعركة الكبيرة هي صراع مع القلب,فيجب عليه الاستعداد الدائم في كل مكان وزمان,سواء في المدينة أو في الصحراء.
دعونا نتأمل هذه النصيحة:جاهد في أن تصبح حارسا لقلبك,حتي لا تسمح لأي فكرة تقتحمه إلا بعد أن نسألها,من ينكر بأن الأفكار تهب علينا كعواصف من الرياح,ونستطيع أن نشبههم بالزوار غير المتوقعين وهم قادرون علي قلب نظام عقولنا وقلوبنا,وكما يقول المثل اللاتيني:التفكير الحر هو شيء رائع,ولكن التفكير بالطريقة الصحيحة أكثر روعة لذلك لابد من وجود حارس أو رقيب علي القلب ليصطفي الأفكار الحسنة عن تلك الرديئة,فالقلب هو نبع الحنان والدفء,كل شخص منا يحتاج لهذا حتي يستطيع أن يتألق في حياته وعمله ويعطي أكثر وينتج أفضل,فالحنان هو لغة القلب التي يفهمها جميع البشر ويحتاجون إليها,لأن النفس البشرية مخلوقة بدافع حب الله لها,ولكي تحب وتكون محبوبة,وما أجمل هذه المناجاة للكاتب الفرنسي Leonce de Grandmaison :يارب,امنحني قلب طفل نقيا وصافيا كمياه النبع,أعطني قلبا بسيطا لا ينغلق علي أحزانه الشخصية,قلبا شهما في التضحية بذاته,يفهم الآخرين بسهولة,قلبا أمينا وسخيا لاينسي أي خير قدم له ولا يحتفظ بضغينة لأي شخص صنع معه شرا,امنحني قلبا عذبا ومتواضعا,يحب دون أن ينتظر محبة الآخرين وسعيدا بأن يذوب في قلوب أخري.
هذه الصلاة تعبر عن ضمير نقي وصاف,لأنه ليس المقصود بالقلب هو الأحاسيس العادية والمشاعر الغامضة,لأن قلب الطفل يظل مفتوحا لله والآخرين,كما نتعلم من قلب الأم,القلب الطيب,فلم يجد الله وسيلة أفضل من الأم يعبر بها عن حنانه ورحمته وحبه لخلائقه,يستطيع كل شخص منا أن يجد الحنان في قلبه,وعليه إذا أن يمنحه للآخرين حتي يساعدهم علي تأدية رسالتهم في الحياة,كل واحد منا مسئول عن الدفء الذي يوفره للآخر,بدلا من أن يتركه ينغلق علي ذاته بسبب ما يلقاه من برودة وجفاء وسوء معاملة,مما يجعله يفكر في عمل الشر.
أما نحن في الحقيقة لا ينقصنا مكان في المنزل,ولكن قلوبنا منغلقة,لأن دنيا الله واسعة وشاسعة,لكن ينقصها أن نفتح قلوبنا لاستقبال الآخرين,ولا نتركها منغلقة علي المادة والمال الأنانية,نحن نعيش في عالم ملئ بما يحزننا كل يوم ويطاردنا,ولن نجد عزاء أو سلاما إلا في شيئين:في حجرة قلبنا حيث يوجد الله,وفي أعمال الخير,حيث نجد هناك الله أيضا,إذا لا نتعب أنفسنا في البحث عن الله في السموات البعيدة,لأنه يحب السكني في مكانين:قلب الإنسان أي الضمير الذي يحرك كل شخص منا وفيه يتحدث الله مع الشخص سرا,والمكان الآخر هو الأشخاص الذين نصنع معهم الخير,وكما نقرأ في القول المأثور:من أراد أن يكون قلب الله مفتوحا أمامه,لايغلق قلبه لمن يتوسل إليهإذا تأملنا فيما تفعله الأم تجاه أبنائها وزوجها,نجزم بأن هذه التصرفات نابعة من القلب قبل العقل,لأنها تقوم بأشياء وتضحيات لايصدقها العقل ولايتخيلها,وكما يقول الفيلسوف الفرنسي باسكال في هذا الصدد:القلب يمتلك أفكاره,والتي لا يدركها العقل لذلك يجب علي الإنسان أن يفتح أمامه طريقا آخر مختلفا عن العقل المبني علي التفكير المنطقي,وليس المقصود بهذا عدم التفكير ولكن السعي وراء طريق الحب الذي يذهب أبعد من العقل,وكما تقول الكاتبة الفرنسيةGeorge Sand :العقل يبحث,ولكن القلب يجد,وهذا يعني أن ننكر بأن القلب يصاب أحيانا بالأوهام والخيالات كما يحدث مع العقل ذاته,لأنه الإنسان هو خليقة محدودة تتعرض لهذه الصراعات اليومية,وعندما سألوا أحد الحكماء:ما الفرق بين القلب والعقل؟أجابهم:العقل ينصح بالأنفع,بينما القلب ينصح بالأنبل.