عرفت مصر فكرة الأسواق التجارية منذ أقدم العصور, خاصة في مدينة أسوان (التي اشتق اسمها من كلمة سوق), حيث كانت قوافل التجار من كل دول العالم تقصدها باستمرار, خاصة قارة أفريقيا, وتوضح الكثير من الرسومات والنقوش المدونة علي المعابد الفرعونية القديمة, الكثير من تفاصيل حركة البيع والشراء في مصر الفرعونية.
أما سوق العتبة الخضراء العتيقة, أو سوق المرور كما كان يطلق عليها وقتها, فتأسست في نهاية القرن التاسع عشر, حيث أنشئت بديلا عن سوق أخري للخضر والفاكهة, كانت تحمل نفس الاسم الحالي لها سوق الخضار, لكن ألغيت السوق القديمة فيما بعد, وبنيت محلها مجموعة من المحال التجارية المتفرقة ومنها السوق الأثرية وهي واحدة من اثنتين فقط في مصر -أما السوق الأخري فمازالت قائمة في منطقة باب اللوق بوسط القاهرة, أيضا شيدت السوق بحيث يكون لها أكثر من مدخل, منها مدخل ميدان العتبة, والآخر من الجهة الخلفية لشارع الأزهر وذلك لتسهيل حركة مرور الزائرين لها, وكان معظمهم من الأجانب, وكانت محلاتها تتميز بواجهاتها الخشبية القديمة, ذات الشكل الاستثنائي الأنيق, والتي اختفي معظمها بمرور الزمن, وذلك بفعل التعديات التي لحقت بواجهات تلك المحال التجارية, لكنها اختفت اليوم إلي الأبد خلف ألسنة اللهب التي نشبت مؤخرا بالمكان, وتسبب الحريق في تهدم الكثير من معالم جدران المبني التاريخي, ذي الطراز المعماري المميز, كما هو مدون في سجلات الجهاز القومي للتنسيق الحضاري, وأيضا تم تسجيله كأحد الآثار المصرية العريقة, ضمن ملفات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية, وكذلك بأرشيف المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي.. لكن ما هي قصة السوق؟ وأسباب اختيار المكان؟ قمنا بزيارة ميدانية للموقع للتعرف لكن علي ما تبقي من أشهر معالمه التراثية, وللوقوف علي حال السوق الآن..
* بداية الفكرة
في أواخر القرن التاسع عشر, حوالي عام 1886, رأي الخديوي توفيق, بن إسماعيل باشا وسادس حكام مصر من أسرة محمد علي (خلال الفترة من 15 نوفمبر عام 1852 إلي 7 يناير عام 1892), أن القاهرة الخديوية بحاجة ملحة إلي إنشاء سوق تجارية عصرية كبري, توافق في تصميمها خط تنظيم شوارع المحروسة آنذاك, وتواكب عمارتها نفس طراز الأسواق الأوروبية القديمة, وفي نفس الوقت تقدم خدمة مميزة لأهالي المحروسة, من المصريين والأجانب المقيمين في مصر وقتها بكثرة, ولتوفر لهم كل ما يحتاجونه من سلع ومنتجات غذائية غير متوفرة, ووافدة من مختلف الأسواق العالمية, فبدأ بالبحث في الوثائق المحفوظة بالديوان الملكية العامة, حتي عثر علي خريطة المهندس المعماري الإنجليزي جران بك, التي أعدت أثناء تخطيط القاهرة الخديوية في عهد الخديوي إسماعيل باشا, حيث وجدت ساحة فضاء مناسبة في منطقة العتبة الخضراء لإقامة السوق فيها, وكانت علي وجه التحديد تقع في المنطقة الفاصلة بين القاهرة الفاطمية, والمملوكية, والقاهرة الخديوية, بقلب العاصمة التجاري, بجوار حي الأزبكية, التي كانت في ذلك العصر أكبر منطقة ترفيهية وثقافية في منطقة الشرق الأوسط كلها, وكانت تضم في ذاك الحين الكثير من الأماكن التاريخية الحيوية, مثل دار الأوبرا, والمسرح القومي والسيرك القومي, بالإضافة إلي عددا كبيرا من الحدائق والمتنزهات العامة والملاعب الرياضية, وأطلق علي السوق اسم سوق القاهرة Marche De Cair, وبمرور الوقت اشتهرت بالسلع والمنتجات الموجودة بداخلها, فعرفت باسم سوق الخضار, وهو الاسم الحالي لها حتي اليوم.
* التصميم الهندسي:
علمت شركة إخوان سوارس وكانت واحدة من الشركات اليهودية السفاردية التي هاجرت من ليفورنو في إيطاليا, واستقرت في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر, وتركت بصماتها الواضحة في النشاط الاقتصادي والتجاري في تلك الفترة-برغبة الخديوي توفيق لبناء تلك السوق, فسارعت بإعداد مخطط هندسي له, حتي يكون لها الأولوية في إنشائه قبل الإعلان الرسمي عنه, وتقدمت به الشركة إلي توفيق باشا, لكن نظارة الأشغال العمومية آنذاك, التي تم تكليفها رسميا من الخديوي توفيق بتنفيذ جميع أعمال التخطيط الهندسي للمشروع الجديد, بالتعاون مع نظارة ديوان عموم الأوقاف برئاسة محمود سامي البارودي باشا, رفضت عرض الشركة, وكلف محمد مرعشلي باشا وزير الأشغال العمومية في الوزارة الثانية للخديوي المهندس المعماري الإنجليزي جران بك, مدير عموم المدن والمباني الأميرية في تلك الفترة, كما أوكل محمود سامي البارودي باشا تلك المهمة إلي فرانس باشا نائب رئيس مصلحة الأوقاف العامة, ليتولي كلاهما إنجاز المهمة معا, والقيام بإعداد تصور شامل لإنشاء سوق عصرية, واعتمدت نظارة الأشغال في ميزانيتها المالية مبلغ 51 ألف جنيه, لتغطية كل تكاليف مشروع الإنشاء, بالإضافة إلي منحها مبلغا سنويا آخر قدره 425 جنيها, تم تخصيص جزء منه لجميع أعمال الصيانة والتجديد والإصلاح, بالإضافة إلي تكاليف النظافـة العامة للسوق, وتطهير أرضيات الشوارع الداخلية المحيطة بـه وتعقيمها ورشها, وذلك بهدف الحفاظ علي الصحة العامة لرواد السوق والعاملين بها, وأعلن مشروع تأسيس سوق الخديوي توفيق نهائيا للجماهير, ونشرت الصحف الصادرة في تلك الفترة إعلان الدولة عن عقد مسابقة كبري لأفضل تخطيط هندسي شامل للموقع, وقام منكريـف بك وكيل نظارة الأوقاف بدراسة كل المشاريع الهندسية المقدمة للإعداد, وأسند مهمة البناء للمقاول الإنجليزي شـنتونـز بك الذي أنجز بناءه في وقت قياسي للغاية.
* عرقلة المشروع:
واجه تنفيذ المشروع في بداياته مشكلة كبيرة, تمثلت في المغالاة من جانب أصحاب العشعش والبنايات في المنطقة, في المقابل المادي الذي وضعوه, كشرط أساسي للتنازل عن أراضيهم التي كانوا يشغلونها, مما جعل فكرة المشروع وشق شوارع للسوق كادت أن تتوقف للأبد لولا تدخل الحكومة, التي أصدرت قرارا رسميا بإزالتها, ونقل قاطنيها إلي أماكن أخري. يقول الكاتب الفرنسي جان لوك أرنو, الذي زار الكثير من المواقع والمعالم التاريخية في مصر, وكتب عن التغير التدريجي الذي شهدته تلك الأماكن الأثرية علي مدار أكثر من ثلاثة قرون زمنية, تحت عنوان من تدابير الخديوي إلي الشركات الخاصة, خلال الفترة من عام 1886 إلي عام 1907, وبينما كان يجري بناء سوق العتبة الخضراء في مراحله الأخيرة, وضعت الإدارة المسئولة علي إنشاء السوق مشروعا لشق شارع بطول 80 مترا, يمتد ما بين الواجهة الشمالية للسوق وشارع الموسكي التجاري العريق, أما الطرف الجنوبي من المنطقة, فكانت تشغله الكثير من العشعش المتفرقة في المكان, وكانت غير مأهولة, وفي طرفه الشمالي عند شارع الموسكي توجد عدة بنايات أخري قديمة, وقام أصحاب العشعش بطلب مبالغ خرافية من الحكومة لنزع الملكية, وكذلك قام أصحاب البنايات الأخري بالمنطقة طلبوا مبالغ خيالية, وكانت المبالغ المطلوبة كفيلة بإنهاء الفكرة من الأساس, وتوقف إنشاء تلك السوق الحضارية, إلا أن الحكومة المصرية تنبهت بعد إقامة السوق, والإنتهاء من جميع أعماله وافتتاحه رسميا, وبالتحديد عام 1895, بتغيير القانون الذي وضع أسسه وقواعده الخديوي إسماعيل باشا, وقررت أنها لن تقوم بدفع مبالغ ما دامت المنطقة هي في الأساس منفعة عامة للمواطنين.
* الطراز المعماري:
تطل واجهات السوق الأربع علي عدة شوارع متفرعة من ميدان العتبة الخضراء, هي شارع الأزهر, وشارع محمد علي, وشارع العطار, وشارع مرجان, وعلي جانبي المدخل الرئيس توجد ثلاثة مداخل فرعية أخري, تتفرع بدورها إلي عدة حارات صغيرة, ويتوج المدخل الرئيسي للسوق بدرع, علي جانبيه فرعان من النبات, تم وضعهما بشكل تنسيقي رائع, ووضعت نفس الزخارف النباتية أيضا علي مدخل كل وكالة مستقلة داخل السوق, وكانت تمثل شعارات مالك كل وحدة في الداخل, وكانت توضع غالبا في زوايا المباني المنتشرة بالمكان, وترجع تلك العناصر الفنية إلي الكثير من التأثيرات الأوروبية, التي تركت آثارا واضحة علي فنون العمارة في مصر في تلك الفترة التاريخية, فيلاحظ في شكله مدي تداخل في الطرازات المعمارية المختلفة من حول العالم, وهو يعتبر نموذجا مجسما لفن الروكوكو, الذي راعي الخبراء المعماريون الأجانب المكلفون بأعمال البناء تنفيذها علي أرض الواقع, ومن أشهر القصور الأثرية التي كانت مبانيها تضم مثل هذه الزخارف المعمارية علي يد معماريين إيطاليين جاءوا خصيصا لتشييد تلك المعالم التراثية النادرة علي مستوي العالم كله علي الإطلاق, كلا من قصر السكاكيني في حي الظاهر, وقصر الزعفران بمنطقة العباسية.
وفيما يتعلق بالتصميم المعماري لموقع سوق الخضار, فقد راعي فيه المهندسان المعماريان كل من المقاول الإنجليزي شـنتونـز بك, والمهندس المعماري الإنجليزي جران بك, أن يكون تصميما عصريا مناسبا لحدود منطقة العتبة الخضراء بشكل عام, كأحد الشوارع التجارية الكبري في القاهرة وضغط الكثافة السكانية في المنطقة, حيث تم تغطية المكان بأسـقف مسلحة, لحمايته من عوامل الجو وارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف, واهتم المهندس المعماري جران بك أيضا بتوفير الإضاءة والتهوية المناسبة له, بهدف حماية السوق من عوامل الرطوبة وتآكل البنايات, وقام بتوصيل المياه والغاز لها, وتبليط أرضية السوق وتسقيف شوارعها, بالإضافة إلي تخصيص أماكن مناسبة في الداخل لدورات المياه, إلي جانب الحجرات المخصصة للقومسيونجية والوسطاء بين العميل والتاجر, ومكاتب الإدارة الخاصة بكل وكالة علي حدي, وأحيطت بدرابزين حديدي كبير وضع في الدخل, أما شكل مبني السوق من الداخل, فكان يتكون من شارعين رئيسين يتوسطان المبني, ويعلوه سقف معدني مخروطي يبرز منه فانوس ضخم لتوفير الإضاءة العامة للسوق, بالإضافة إلي توزيع فوانيس أخري خاصة بكل وكالة منفصلة عن الأخري, ويغطي كل شارع في السوق سقف كبير محمول علي قوائم معدنية ترتكز علي الجدران الحجرية الأساسية الحاملة للمبني العام, ويتفرع من الشارعين الرئيسين بالسوق عدد 12 حارة يعلوها أسقف مقببة, تم وضع عدة نوافذ للتهوية, منتشرة في أرجاء المكان, ومعقودة بعقود نصف دائرية لإضاءة هذه الحارات في الصباح, ولضمان توفير تهوية السوق من الداخل, وكان يضم عددا كبيرا من المحلات يصل عددها إلي نحو 220 محلا تجاريا كبيرا, من خلال جولتنا بتلك المحلات, تبين أنها صارت فيما بعد مملوكة لوزارة الأوقاف, التي قامت بتأجيرها إلي أصحاب الأنشطة التجارية المختلفة, تتنوع أنشطتها التجارية بين بيع اللحوم المستوردة والدواجن, والسلع والمنتجات الغذائية, وأكثرها اليوم يبيع الأجهزة الإلكترونية, وهي السلع الأكثر رواجا بالسوق.
* مراسم الافتتاح:
أعلنت الجريدة الرسمية عن افتتاح الخديوي توفيق الثاني سوق العتبة الخضراء الجديدة يوم 15 سبتمبر عام 1889, وفي نفس السنة كانت مصر قد شاركت في المعرض الزراعي الدولي, الذي أقيم في باريس قبل الافتتاح بشهور قليلة, وضمن فاعليات المعرض دار نقاش بين مجموعة من الخبراء المعماريين, واقترح فريق منهم فكرة تأسيس وكالات مستقلة داخل السوق الناشئة علي غرار الوكالات المنتشرة في الأسواق الأوروبية الحديثة, وبعد عودة الوفد المصري من فرنسا تقدموا بالفكرة إلي محمد مرعشلي باشا وزير الأشغال العمومية, محمود سامي البارودي وزير ديوان عموم الأوقاف, اللذين قاما بدورهما بعرضها علي توقيق باشا, فأعجب بها للغاية, وأصدر قرارا بالبدء في تنفيذها, وبالفعل تم تكليف فريق العمل بإعدادها, فأنجزت سريعا قبل شهور قليلة من مراسم الافتتاح الرسمي للسوق الجديدة, هذا ولم يكن لمبني سوق الخديوي توفيق الجديد أية منافذ في الجهتين الشرقية والشمالية, الأمر الذي كان يعوق حركة الوصول إليه بسهولة من الزائرين له, لذلك قام فريق العمل المكلف بأعمال المشروع بفتح طريق بديل يشبه الممر الطويل, يصل بين الواجهتين الداخليتين وشارع الموسكي من الخارج, وتشير بعض المصادر التاريخية إلي أن موقع السوق كان يضم قديما مقبرة تاريخية كبيرة, عرفت وقتها باسم ترب المناصرة, وكانت تستقبل الموتي, لكن تغير حال المنطقة بشكل تدريجي, وباتت اليوم تستقبل الشباب المقبلين علي الدخول لدنيا جديدة, وبدء الحياة الزوجية, وصارت اليوم تسكنها العديد من العائلات والأسر البسيطة.
* كلمة أخيرة:
ظلت السوق القديمة صامدة أمام عوامل الزمن, رغم ما أصاب المنطقة من حالة ترد عام, بفعل الحرائق المتكررة التي كانت تشهدها بين الحين والآخر المنطقة التجارية الأضخم في مصر, وزحام حي الموسكي والعتبة وما حولها, حتي أنك حين تتجول بالمكان اليوم, تجد الحارات الضيقة المؤدية إلي شوارع جانبية تكاد تتكدس بسبب انتشار العديد من البيوت العشوائية, وتلاصق المحال التجارية بجوار بعضها البعض, بشكل غير مريح لا يتيح للمارة التنقل بسهولة, كما تفرعت منها عدة سويقات أخري صغيرة, مثل سوق اللحوم المستوردة والدواجن, وسوق الفاكهة والخضار, وسوق الأدوات الكهربائية ومستلزماتها, وسوق أخري لبيع الهواتف المحمولة, والأدوات المنزلية إلي آخره, ومعظم هذه المنتجات مهربة أو مغشوشة وليست أصلية, ومع ذلك فأن البيع والشراء متواصلان حتي الساعات الأولي من الصباح, وفي المناسبات والأعياد لا تتوقف حركة السوق نهائيا, والمحال لا تغلق أبوابها, بل يتوافد عليها الزبائن من كل أنحاء الجمهورية, لأنها تبيع بأسعار تناسب جميع الفئات والطبقات الاجتماعية, وفي فترة التسعينيات من القرن الماضي تقدم نواب مجلس الشعب باقتراح للحكومة لحل هذه المشكلة, يقتضي بضرورة نقل سوق العتبة إلي مكان آخر خارج حدود القاهرة المتكدسة, لكن وجه الاقتراح برفض شديد من جانب التجار, نظرا لارتباط الزبائن بالمنطقة, وللأسف تاهت الكثير من معالم السوق العريقة وسط العشوائية التي أحاطت بالمنطقة كلها, وانتشار الباعة الجائلين الوافدين من كل محافظات الجمهورية في كل مكان علي الأرصفة, بسبب شهرة السوق, واقترابه من قلب العاصمة.
** مصادر الدراسة:
* موسوعة وصف مصر- جمال حمدان
* الخطط التوفيقية- علي باشا مبارك
* القاهرة إقامة مدينة حديثة- (خلال الفترة من عام 1886 إلي عام 1907)- جان لوك أرنو
* صحيفة الوقائع المصرية- عدد الأول من سبتمبر عام 1889