(1) الحفيد ومسمار النظارة:
ذات يوم سقط المسمار الدقيق الذي يربط ذراع نظارتي, فطلبت من حفيدي وكان عمره ثمانية سنوات, أن يستخدم المفك لإعادة المسمار إلي مكانه. ورغم مهارته في مثل هذه الأعمال, سقط منه المسمار الدقيق فوق سجادة ملونة, فلم نستطع العثور عليه.
في هدوء اصطحبت حفيدي إلي محل إصلاح النظارات, حيث وضع النظاراتي مسمارا آخر.
عندما خرجنا سألت الصغير: هل لاحظت ما الذي كان الرجل يضعه تحت النظارة وهو يقوم بإصلاحها؟ أجاب الصغير: كان يضع مفرشا أبيض وهو يثبت المسمار في مكانه, حتي يجده بسهولة إذا سقط.
قلت له: أنا سعيد لأنك حاولت إصلاح النظارة, وأكثر سعادة لأنك اكتشفت كيف يتفادي صانع النظارات ضياع المسامير الدقيقة إذا سقطت منه.
بعد أسبوعين جاءني حفيدي يقول من تلقاء نفسه: جدي.. أرجو أن تعطيني نظارتك, لأقوم بتثبيت مسماميرها قبل أن ينفصل ذراعها كما حدث منذ أسبوعين.
قلت لنفسي: لقد وجهت الصغير إلي طريقة معالجة الخطأ بأسلوب لا يتعارض مع ثقته بنفسه وشعوره بتقديري له, فدفعه هذا إلي مزيد من الإقدام والخبرة والمهارة.
(2) الحل في الأكياس:
في مكتبة حديقة عرب المحمدي بالقاهرة, وهي أول المكتبات العامة للأطفال التي أنشأها المجلس المصري لكتب الأطفال, قال لي عماد وعمره 10 سنوات: عندما نذهب في رحلة إلي حديقة الحيوانات أو القناطر الخيرية, أجد زملائي يلقون بقشر البيض والبرتقال وأكياس البلاستيك الفارغة وأغلفة الحلوي, علي الحشائش أو في مياه النيل. وقد نصحتهم بأن يمتنعوا عن ذلك لكنهم قالوا لي: هل نظل نمسك هذه النفايات بين أيدينا؟! نحن لا نعرف ماذا نفعل بها.
هنا وقف إسلام, وعمره 11 سنة, وقال: سمعت زميلي يقول إنهم يلقون بالأكياس الفارغة, أما أنا وزملائي, فإننا نضع كل النفايات في هذه الأكياس, ثم نربطها بخيط, ونحملها معنا في حقائبنا إلي أن نجد سلة مهملات أو حتي نعود إلي البيت. ونفعل ذلك حتي في الأتوبيس الذي نذهب به إلي أية رحلة.
قلت لهم: هذا هو الحل السليم والبسيط.. نحن جميعا نحب أن نجد وسائل المواصلات وأماكن الزيارة نظيفة وجميلة, ويجب أن نتركها لمن يأتي بعدنا نظيفة وجميلة أيضا.
(3) امتحان تحت التهديد!!
حكي لي صديق, قال: في عربة مترو متجه إلي حي مصر الجديدة بالقاهرة, كنت أجلس وأمامي أم بجوارها ابنها الصغير, وقد فهمت من حديثها أنه في الرابعة الابتدائية. كانت الأم تراجع مع صغيرها امتحان اللغة العربية, الذي كان قد انتهي منه منذ قليل.. قال له: ماذا كتبت في موضوع التعبير؟ اذكر لي كلمة كلمة. أجاب الصغير: موش فاكر. (لا أتذكر)
هنا انفجرت الأم تقول في تهديد: عندما نصل البيت, ستكتب الموضوع مرة ثانية.. وإذا كذبت, ربنا سيدخلك النار. أجاب الصغير وفي عينيه كل علامات الرعب: حاضر.. سأكتب!!.
ثم عادت الأم تنهال علي ابنها بالأسئلة, والصغير يجيب, ويقسم بالله العظيم بعد كل إجابة أنه صادق, وإن جعله الرعب يتلجلج في الكلام ويكاد يبكي. تمنيت أن أطلب من تلك الأم أن تكتب هي موضوعا, وبعد ساعة أطلب منها أن تعيد كتابة نفس ما كتبت كلمة كلمة, وأن تقسم صادقة علي ذلك.
أما أنت أيها الصغير, الذي وقعت فريسة تلك الأم المريضة بالقلق, فكنت أود أن أسمع منك, كم أنت واثق من نفسك ومن نجاحك, وأنك علي استعداد لأداء امتحان اليوم التالي مهما كانت إجاباتك في امتحان اليوم السابق.
(4) في المتحف علي كرسي متحرك:
قالت السيدة تهاني -الأخصائية بقسم التربية المتحفية بالمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية: عندما كنت أقف في إحدي قاعات المتحف, جذب انتباهي ثلاثة أصدقاء من الشباب الصغير يتأملون المعروضات, بينهم صديق رابع يجلس علي كرسي متحرك, وقد انهمكوا في قراءة البطاقات التي تجاور معروضات المتحف.
عندما بدأت الحديث معهم, قال لي أحدهم: نحن أربعة أصدقاء بالصف الثاني الإعدادي: إبراهيم وعصام وإيهاب وعماد.. وهذه زيارتنا الأولي للمتحف. قلت لهم: بعد أن تكملوا جولتك, ما رأيكم أن تشتركوا معي في الرسم, أو في تشكيل تكوينات مجسمة من الصلصال, تعبرون بها عما أثار إعجابهم من معروضات؟.
تحمسوا لاقتراحي, خاصة إيهاب الجالس علي الكرسي المتحرك, الذي كان بريق الذكاء يطل من عينيه إلي جانب خفة ظله. وتسابقوا في عمل عدة أشكال من الصلصال الملون, وكانت النتيجة رائعة.. علي وجه خاص ما أبدعه إيهاب.
لكن صداقتهم كانت أكثر روعة, فقد رأيت فيها المبادرة بالمساعدة, والمشاركة في المشاعر, والتفاهم والإخلاص, مع نجاحهم في توفير الصحبة التي اندمج فيها زميلهم إيهاب, فجعلوا من زيارتهم للمتحف بهجة لهم جميعا.
(5) لأنها لا تعرف موهبته الحقيقية:
ذهبت الصحفية الشابة إلي مدرسة الروضة, واختارت صبيا عمره أربع سنوات, لتلتقط له صورة تنشرها مع موضوع كتبته عن أساليب معاملة الكبار للأطفال. قالت معلمة الروضة وهي تشير إلي الصبي: من الطبيعي أن تختاريه, فهو جذاب الشكل جدا, لكنه متأخر كثيرا عن بقية الأطفال.. إنه يحب التلوين, لكن خطوطه ليست إلا مجرد شخبط وليست رسوما. قالت الصحفية: لكنه سيتقدم بمضي الوقت.
أضافت المعلمة والصغير لا يزال بينهما, كأنه تمثال من الرخام لا يسمع ولا يفهم: المفروض أن يحدث هذا, لكنني لا أظن أن هذا الولد سوف يتحسن أبدا.
نظر الصبي إلي قلمه الملون الذي في يده, ثم رماه علي الأرض.. ثم جلس وحده بقية اليوم, يهز رأسه رافضا كلما طلب منه أصدقاؤه أن يلعب معهم.
وعندما قال لأمه إنه لا يريد الذهاب بعد ذلك إلي المدرسة, تصورت أنه تشاجر مع طفل آخر.. لكنه لم تلاحظ أنه أصبح لا يستخدم أقلام الألوان التي كان يحبها, أنه أصبح صامتا بعد أن كان يملأ البيت بضحكاته, وبالموسيقي التي كان يعزفها بمهارة علي الأورج الصغير!
بقلم: يعقوب الشاروني
رائد أدب الأفال
[email protected]