في تذكار احتفالنا بصوم آباؤنا الرسل الأطهار، أباء الكنيسة الذين تمتعوا بمعية الرب لسنوات طويلة والذين فتنوا المسكونة كلها بكرازتهم البسيطة السلمية والتي غيرت وجه العالم كله في سنوات قليلة وكلفتهم حياتهم في أغلب الحالات.. اتذكر مقابلات الرب يسوع الأولى مع تلاميذه ومواقف اختياره لهم، ومن أعظم هذه المقابلات مقابلة الرب لنثنائيل، فقد التقى الرب يسوع مع اندراوس وسمعان بطرس اخيه ثم دعى أيضا فيلبس، وفيلبس دعى نثنائيل قائلاً “قد وجدنا المسيا” إلا أن نثنائيل تعجب وقال” أمن الناصرة يمكن أن يخرج شيئا صالح ؟” فأجابه فيلبس تعال وانظر.. وعندما قبل نثنائيل الدعوة تقابل مع يسوع وعندها قال له الرب: “قبل أن يدعوك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك..” وهنا تغير فكر نثنائيل واستجاب لدعوة يسوع وقال “أنت ابن الله أنت ملك اسرائيل” (يو 1: 49) فقد أدرك أن يسوع يعرف الغيب وأمن أنه الإله الحقيقي. هنا أجابه يسوع “الأن أمنت .. سوف ترى أعظم من هذا” ( يو 1: 50) ..
ماذا تعلمنا هذه المقابلة الغريبة التي بدأت بفكر معترض أو رافض من جهة نثنائيل؟!
• هذه القصة هي قصتنا جميعاً فغالباً ما تبدأ علاقتنا بالرب بعلاقة سطحية ربما نكون فيها معاندين أو رافضين لرؤية الرب، ولكن نثنائيل يعلمنا أن الانسان الحكيم والأمين على خلاص نفسه لا يعاند، فعناد الانسان يحرمه من بركات عظيمة، وارتباط الانسان بذهن رافض غير مقبول يجعلنا نخسر الكثير.. فماذا لو رفض نثنائيل أن يذهب ليرى يسوع؟! لكن نثنائيل استطاع أن يتخلى عن فكره الشخصي وعقله الرافض.
• الجيد في نثنائيل إنه فيما هو ذاهب لمقابلة الرب وهو يحمل داخله تساؤلات كثيرة إلا أنه كان أيضا يحمل في قلبه نوعاً من تسليم المشيئة لله، وعندما رأى في يسوع اهتماماً خاصاً به ومعرفة حقيقية فاحصة لشخصه وحباً حقيقياً له، تأثر التلميذ ولم يكابر أو يعاند.. وقام يعدل فكره الأول “أمن الناصرة يمكن أن يخرج شيئا صالحاً”.. ويعلن إيمانه.. فيجيبه يسوع : “سوف ترى أعظم من هذا”
• الانسان يحتاج أن يتنازل عن فكره وعن عناده. وأن يذهب ليقابل الرب.. وإن قبله إلها وملكاً على قلبه.. حينئذ يستطيع أن يرى أعظم من هذا، فيقضي كل عمره تلميذاً للرب وكارزاً باسمه، ويختبر عظائم الرب في حياته.
• هذه القصة هي قصة كثيرين تغيرت حياتهم بمقابلة الرب وبالتنازل عن عنادهم فاختبروا جميعاً كيف أن الرب يقودهم في حياة مجيدة لم يكونوا يعرفونها فيرى الانسان ماهو أعظم من هذا.
• في مرات كثيرة يرفض البعض فرص الدخول إلى الكنيسة – بيت الرب – أو الاهتمام بقراءة أو دراسة الكتاب المقدس، ويفضل البعض الانشغال الزائد بالعالم وهمومه فنخسر الكثير، نحن نستطيع أن نختبر أعمال الرب في حياتنا وقيادته لنا من مجد إلى مجد، فقط عندما نتنازل عن فكرنا الشخصي وشهواتنا العالمية ونسرع لمقابلة الرب وعندها سنرى ما هو أعظم من كل شهوات العالم واهتماماته.
• هكذا اختبر الرب جميع رجاله على مر الزمان فهكذا فعل نحميا عندما تخلى عن مكانته في أرض السبي كساقي للملك وذهب ليرمم أسوار أورشليم المتهدمة.. فقد أراه الرب ما هو أعظم من هذا، فشاهد نحميا بناء الأسوار وعودة الشعب بقلب تائب إلى الرب.
• هكذا عاش بولس الرسول الذي تنازل عن عناده وقبل دعوة الرب على أبواب مدينة دمشق.. وقبل الرب مخلصاً حقيقياً فرأى ما هو أعظم من هذا إذ صار رسولاً للأمم وكرز في كل العالم في كل مكان وأمام ملوك وأباطرة وحكام وربحهم للرب وجعلهم له شعباً مجتمعاً وصيرهم أبناء لله بعمادهم باسم الثالوث.
• هكذا عاش مارجرجس وكل الشهداء إذ قبلوا الإيمان وثبتوا عليه ورفضوا كل محاولات لإغرائهم فخسروا حياتهم على الأرض. لكنهم رأوا ما هو أعظم من هذا إذ صارت دمائهم بذاراً للإيمان فأقبل الجميع معترفين بالإيمان بسبب شهادتهم، أما هم فربحوا الأكاليل السماوية، وصاروا أمثلة للمؤمنين في كل زمان وصاروا شفعاء لنا في السماء فطلبتهم مقبولة أمام الرب الذي بذلوا حياتهم من أجله، وصارت كرامتهم متقدمة في السماء.
• هكذا فعل الأنبا انطونيوس الكبير إذ قبل نداء الرب له “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع كل مالك وتعال اتبعني” فاستمع بقلب منفتح وأطاع الكلمة وتخلى عن العالم فباع كل ما له، لكنه استحق أن ينال وعد الرب “سوف ترى ما هو أعظم من هذا”، فصار أباً للرهبنة في كل العالم وشاع ذكره وعطرت سيرته في المسكونة كلها، وسار على خطاه الآلاف من الرهبان في كل زمان، الذين حملوا الإيمان والفضيلة ككنز حفظوه للكنيسة على مدى الأجيال بجهادهم وعرقهم ودموعهم.. وصاروا أمثلة للرعية كي يحبوا الرب ويتبعوا وصاياه. أيضا قدموا للعالم أمثلة رائعة للفضيلة وصارت حياتهم أمثلة حية للوصية الكتابية المعاشة.
• نحن نحتاج أن نتنازل عن عنادنا ونطيع الدعوة للقاء الرب، ونؤمن به ملكاً على قلوبنا فنرى كيف تتحول حياتنا من مجد إلى مجد ..
لتكن كلمات الرب يسوع لنثنائيل “سوف ترى ما هو أعظم من هذا” دستوراً لحياتنا فنقبل كل تعب أو خسارة ونتخلي عن عنادنا وكبرياءنا، ولتكن هذه الكلمات هي إيماننا عند كل موقف واثقين أن الرب سيعوضنا بما هو أعظم. وليصير وعد الرب هذا أعظم تعزية لنا في كل الصعوبات التي نجتازها في الحياة . واثقين أننا ما دُمنا مع الرب فسنرى بالرجاء ما هو أعظم في رحلة حياتنا.