قدسوا صوما
الصوم هو الوسيلة لضبط الأهواء والشهوات, حتي تنسجم حياة المسيحي مع روح الله الذي يقوده في طاعة وخضوع
(القمص بيشوي كامل)
ناد بصوت عال. لا تمسك. ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم, وبيت يعقوب بخطاياهم. وإياي يطلبون يوما فيوما, ويسرون بمعرفة طرقي كأمة عملت برا, ولم تترك قضاء إلهها. يسألونني عن أحكام البر. يسرون بالتقرب إلي الله. يقولون: لماذا صمنا ولم تنظر, ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟ ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرة, وبكل أشغالكم تسخرون. ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون, ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء. أمثل هذا يكون صوم اختاره؟ يوما يذلل الإنسان فيه نفسه, يحني كالأسلة رأسه, ويفرش تحته مسحا ورمادا. هل تسمي هذا صوما ويوما مقبولا للرب؟ أليس هذا صوما اختاره: حل قيود الشر. فك عقد النير, وإطلاق المسحوقين أحرارا, وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك, وأن تدخل المساكين التائهين إلي بيتك؟ إذا رأيت عريانا أن تكسوه, وأن لا تتغاضي عن لحمك. حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك, وتنبت صحتك سريعا, ويسير برك أمامك, ومجد الرب يجمع ساقتك. حينئذ تدعو فيجيب الرب. تستغيث فيقول: هأنذا. إن نزعت من وسطك النير والإيماء بالأصبح وكلام الإثم. وأنفقت نفسك للجائع, وأشبعت النفس الذليلة, يشرق في الظلمة نورك, ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر. ويقودك الرب علي الدوام, ويشبع في الجدوب نفسك, وينشط عظامك فتصير كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه (إش58:1-11).
من خلال قراءتنا السابقة يوضح لنا إشعياء النبي مبادئ روحية مهمة:
* كيف يمثل الصوم ركنا أساسيا من أركان الحياة الروحية.
* إن أخطر ما يهدد فضيلة الصوم هو خطية الرياء.
فالصوم أو الخطوة الروحية الرابعة هو ممارسة تعبدية, ولكن يجب أن تخلو من الرياء. وفي هذا الأصحاح يشرح لنا كيف يمكن أن تتسلل هذه الخطية إلي حياة الإنسان دون أن يدري. تأمل معي في العدد الثاني من هذا الأصحاح إذ يقول: وإياي يطلبون يوما فيوما.., يصلون.. ولكنها صلاة ظاهرة من الشفتين أو من اللسان, ولا تتعدي ذلك, ويبقي قلب الإنسان كما هو لا يتغير, لذلك عندما ينتهي من الصلاة تجده يتصرف تصرفات غير مقبولة وغير لائقة ولا تتماشي مع صلاته مطلقا.
ربما تسألني الآن, كيف للخطية أن تتسلل لحياة الإنسان دون أن يدري؟
أجيبك: إن لخطية الرياء مظاهر عدة دعنا نسردها سويا..
1- مظهر من مظاهر الرياء هو ادعاء المعرفة العقلانية:
تشعر وأنت جالس مع الشخص أنه موسوعة, ولكن ليست موسوعة اتضاع, ولكن موسوعة كبرياء, يفتخر بذاته وبما حصله من معارف, ونقرأ في (مت23:13): ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون, وكانت طائفة الكتبة والفريسيين هم من قمة طوائف اليهود, فكلمة: فريسي معناها: مفرز, بينما كان الكتبة أشخاصا متميزين جدا (الكتبة هم الناسخون).. وبالرغم من كل ذلك كانوا بعيدين عن الطريق الروحي كثيرا, وقد وبخهم السيد المسيح مرات عديدة.
2- مظهر آخر وهو إظهار الغيرة ونسميه أحيانا ناموسي:
ناموسي بمعني حرفي أي يحيا بالحرف, والحياة المسيحية عندما تتعمق فيها تجدها تعتمد علي القلب والروح, ولا تعتمد علي الحرف, ومن يحيا بالحرف لا يمكنه أن يدرك المسيح. لذلك قال ربنا يسوع المسيح: ما جئت لأنقض بل لأكمل (مت5:17), فالمقصود هو أن يكمل الفهم, فتقرأ العهد القديم بروح العهد الجديد, وتتحول الوصية في حياتك إلي شهادة عملية عن علاقتك بالله.
3- صورة أخري من صور الرياء, أن الإنسان يتظاهر أنه قريب من الله:
يسر بالتقرب إلي الله من خلال طقوس وممارسات معينة.. يتظاهر أنه قريب من الله وحقيقته من الداخل غير ذلك, تصور معي إنسانا يقضي يومه صائما ويمارس ممارسات روحية, ثم بعد فترة الصوم يغضب بشدة ويسقط في خطايا عديدة. فماذا استفاد إذن من صومه؟ فترة الصوم هي فترة تساعد الإنسان في نموه الروحي, وليست مجرد الامتناع عن الطعام.
والآن دعني أسألك: لماذا الصوم الذي تحدث عنه إشعياء النبي في هذا الأصحاح كان مرفوضا؟
* هناك ثلاثة أسباب واضحة في الأعداد (3, 4, 5):
1- أن هذا الصوم كان غير منضبط:
هو صوم يسر صاحبه لا يسر الله, فهو صوم لا يسير بنظام بل يستعرض فيه الإسنان إمكانياته وقدراته.
2- أن هذا الصوم كان بلا صمت:
الصوم ليس عن الطعام فقط, بل أيضا عن الكلام, فهذا الصوم المرفوض ليس فيه صمت بل فيه خصومة مع الغير, وفيه إدانة للآخرين.
3- أيضا هذا الصوم مرفوض لأنه بلا تذلل:
هو شكل بلا جوهر فهو مجرد منظر داخلي, لذا تحرص الكنيسة أن ترتب لنا في الأصوام قداسات لأوقات متأخرة لتساعد الإنسان في ممارساته الروحية.
والآن يا عزيزي, حان لنا أن نفكر سويا كيف نصوم, وكيف ننال بركات هذا الصوم؟
في فترة الصوم المقدس, احرص أن تقدم لنفسك ثلاثة أنواع من الأغذية الروحية: غذاء روحي.. غذاء ذهني.. وغذاء نسكي..
1- الغذاء الروحي:
وهو ما تقدمه لنا الكنيسة في كل أشكال العبادة, وممارسة الأسرار, جيد أن تتقابل مع أب اعترافك قبل الصوم, وتضع خطة للصوم, ولا تتكاسل في تنفيذها.
2- الغذاء الذهني:
الذي يعتمد أساسا علي القراءات الإنجيلية, والكنيسة تعلمنا في فترة الصوم المقدس أن نقرأ النبوات. ويمكنك أن تأخذ سفرا واحدا مثل: إشعياء, إرميا, أو تأخذ مجموعة أسفار مثل: أسفار الأنبياء الصغار, لكن يجب أن تقرأ يوميا, وليست قراءة فقط, بل ادرس.. وافهم.. وعش. وقراءة النبوات مفيدة جدا إذ تكشف مقاصد الله في حياتك.
3- الغذاء النسكي:
نسكياتك مهمة جدا في الصوم, الانقطاع شيء مهم لتقوية الإرادة. أيضا الطعام النباتي هو طعام هادئ الطاقة وهو طعام صحي ومفيد للإنسان.
أيضا الميطانيات (سجدات التوبة) من القلب وليس بالجسد, وهي مرتبطة بالصوات, فيها الصلاة القصيرة: ياربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ.
احرص أثناء سجودك في الميطانيات أن ترشم ذاتك بعلامة الصليب. يمكنك أن تبدأ بـ12 ميطانية في أول يوم, وتزداد تدريجيا كل يوم مع الصوم, وتقدمها بروح الصلاة.
هذه الميطانيات هي وسيلة مساعدة لتركيز الذهن, فيها تعب وبذل, وهذا التعب يذكرك بأتعاب المسيح من أجلك.
أيضا فترات الاعتكاف هي جزء مهم من نسكياتك خلال الصوم, ويستفاد منها كفترات تأمل وقراءة وصلاة أو ترنيم وتسبيح.
فترة الصوم يا إخوتي تحكمها الآية التي تقول: كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء (1كو9:25), وأيضا ينطبق عليها الآية: الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج (مز126:5), الذين يزرعون بدموع التوبة في فترة الصوم, يحصدون بالابتهاج في القيامة.
* وللصوم بركات كثيرة:
1- استجابة الصلوات: لأنك عندما تحيا حياة الصوم, تشعر بالانسحاق والخشوع وتخرج صلواتك من داخلك عميقة وتدخل فيها روح الإيمان, صلوات مرفوعة من قلب نقي.
2- بركة أخري من بركات الصوم: أن يصير الرب لذة للإنسان, فأنت تصوم عن الطعام لكي تتحول لذة الطعام في داخلك إلي لذة للرب, ويكون المسيح هو لذتك, وكما يقول معلمنا داود النبي في أحد مزاميره: تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك (مز37:4).
3- بركة أخري من بركات الصوم: أن الإنسان يشعر بارتفاعه, وكما يقول داود النبي: ليت لي جناحا كالحمامة فأطير وأستريح! (مز55:6). يرتفع فوق الماديات, وحتي فوق احتياجات الجسد, ويشعر أن رباطات الأرض تصير ضعيفة, ويشعر أنه يقترب من السماء ويحيا بهذه الروح.
4- أيضا من بركات الصوم: أن الإنسان ينال الصحة الجسدية, الطعام النباتي يمنح الإنسان شكلا من الطاقة الهادئة, فلا يكون الطعام مثيرا في جسده أو في حياته فيعطيه صحة جسدية, ويقول إشعياء النبي في هذا الأصحاح: تنبت صحتك سريعا (إش58:8).
5- أيضا في الصوم ينال الإنسان استنارة, ولا أقصد للعين الجسدية, ولكن العين القلبية, عندما يقرأ الإنجيل يفهم أكثر, وعندما يشارك في التسبيح يعيش أكثر, وعندما يمارس ميطانيات يتمتع أكثر.