الأمير إسماعيل بك شيرين،آخر وزير للحربية والبحرية في مصر قبل قيام ثورة23يوليو عام 1952،هو أمير من أمراء أسرة محمد علي باشا،مؤسس مصر الحديثة،وأحد أحفاده،وهو ابن عم الملك فؤاد الأول ملك مصر والسودان.خدم بالجيش المصرى فى أواخر العهد الملكى،فساهم فى الكثير من الحروب فى عصره،وتشعبت إنجازاته السياسية،وظل يناضل فى سبيل وطنه فى أى ميدان أُتيح له أن يناضل فيه،حتى بعد تركه الخدمة بالجيش ومغادرته لمصر فى سنة1952. فكان العقيد شيرين بحق نموذجاً للوطنية المصرية الخالصة،قدم كل ما أمكنه لبلده بنبل وحب وإخلاص،ولم يعلن عن نفسه،أويتفاخر بما قدمه،أوحتى يزايد على حبه لوطنه.ليثبت بهذا أن وراء كل قصة فى التاريخ يظل دائماً هناك الأبطال المجهولون فى كل العصور،الذين تطوعوا لخدمة الوطن بدون مقابل.والعقيد إسماعيل بك شيرين واحداً من هؤلاء الأبطال النبلاء المجهولين أوالمنسيين،الذين يستحقون أن نقف عندهم،لنتذكرهم بكل تقدير وإجلال.ومع ذلك تظل حياة آخر وزير حربية في العصر الملكى،فصلاً منسياً حين نقلب فى صفحات تاريخنا الحديث،لكن سيذكر له التاريخ الدور البارز الذى لعبه فى حل الكثير من القضايا والنزاعات السياسية الحاسمة فى تاريخ مصر الحديث،سواء فى عهد الملك فاروق الأول،أوفى فترة حكم كلاً من الرئيس الراحل السادات،والرئيس الأسبق حسنى مبارك…
وبمناسبة مرور ما يقرب من ربع قرن على رحيل العقيد إسماعيل بك شيرين،نستعرض فى السطور التالية جزءاً من حياة هذا الجندي الوطنى المجهول..
*حياته:
ولد الأمير إسماعيل بك شيرين فى17أكتوبر سنة1920بمحافظة الإسكندرية،وتلقي تعليمه في جامعة كامبريدج البريطانيةUniversity of Cambridge(هي أقدم ثانى جامعة إنجليزية على مستوى العالم بعد جامعة أوكسفورد)حيث درس الإقتصاد السياسي.وبعد تخرجه مباشرة إشتغل فترة من الزمن كمحاسب في البنك الأهلي.ثم إستقال ليتم تعيينه سكرتيراً في مجلس الوزراء، وحصل علي رتبة البكوية،ثم انتدب للعمل في وزارة الدفاع العام كضابط إتصال بالجيش المصرى.وفى أواخر الأربعينيات تزوج العقيد إسماعيل بك من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق،(التى لقبت آنذاك بأجمل نساء الأرض لجمالها الفاتن والمميز،وتهافت عليها الملوك والأمراء)بعد طلاقها من شاه إيران محمد رضا بهلوى عام1945،وإنجابها منه ابنتها الأميرة شاهيناز(وهو الطلاق الذى تسبب فى حدوث أزمة سياسية كبرى بين مصر وإيران فى منتصف أربعينيات القرن الماضى،خاصة بعد إصرار شقيقها الملك فاروق على الطلاق،ورفضه عودتها إلى إيران)،وكان زواجهما فى28مارس عام1949،وأعلنت الصحف وقتها عن عقد قران العقيد إسماعيل بك شيرين وزير الحربية والبحرية من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق،وتصدر الخبر صفحات معظم الصحف والمجلات التى كانت تصدر فى هذه الفترة،فكان الحدث البارز الذى تصدر غلاف مجلة”المصور”فنشرت فى عددها الصادر بتاريخ29مارس من نفس العام (1949)خبر عقد قرانهما..وكان الأمير إسماعيل قد أنجب منها طفلين هما،الأميرة نادية(19 ديسمبرعام1950-أكتوبر عام2009)،ويذكر أنها تزوجت من الفنان يوسف شعبان،وبدأت القصة بينهما حين التقت به فى إحدى حفلات التخرج الخاصة بالجامعة الأمريكية التى درست فيها،ونشأت بينهما قصة حب قوية.ورفضت الأميرة فوزية الفكرة فى البداية،ولكن إصرار ابنتها وحبها ليوسف كان هو الغالب،وتم الزواج،وفى يوم العبور العظيم6أكتوبر1973،رزقا بطفلة فأطلقا عليها اسم”سيناء أوسايناى أوكما يلقبوها بساى”،إلا أن الإنفصال بينهما حدث سريعاً جداً، وكانت الأميرة نادية تتنقل مع والدتها وابنتها،فيما بين فيلا الأميرة فوزية فى الإسكندرية وفيلتها الخاصة بسويسرا،حتى رحيلها منذ عشر سنوات،والأمير حسين شيرين(1955-2016)،الذى إستقر مع والدته الأميرة فوزية فى العاصمة السويسرية جنيف،حتى وفاته منذ ثلاث سنوات اثر أزمة قلبية.وشيع أحفاد عائلة الملك الجثمان.حيث تقدم الجنازة الأمير عباس حلمى حفيد الخديو إسماعيل،بمشاركة عدداً من المواطنين والبسطاء،الذين حملوا نعش حفيد الملك فؤاد الأول ملك مصر الأسبق،بعد وصول جثمانه من العاصمة السويسرية إلى القاهرة بعد ظهر يوم الأحد الموافق20ينايرعام2016.وأدوا عليه صلاة الجنازة بمسجد السيدة نفيسة،ودفن بمقابر الأمير شيرين بمنطقة الغفير بمصر.
*عضويته فى مباحثات الهدنة مع إسرائيل:
ظل العقيد إسماعيل بك شيرين فى منصبه كضابط إتصال بالجيش المصرى فى وزارة الدفاع العام.حتى إختاره الملك فاروق الأول عضواً ضمن أعضاء الوفد المصرى المكلف بإجراء مباحثات الهدنة الموقعة بين إسرائيل ومجموعة من الدول العربية المجاورة لها وهى، مصر، ولبنان،والأردن،وسورية،لوضع حداً نهائياً للأعمال العدائية الرسمية للحرب العربية-الإسرائيلية التى إندلعت فى عام1948.على إثر احتلال فلسطين والمجازر التي ارتكبتها المجموعات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين،الأمر الذي أدى إلى تهجيرهم.وتكون الوفد المصرى من خمسة أعضاء هم،الرائد محمود رياض،وكان مديراً للمخابرات الحربية فى غزة منذ أغسطس عام 1948،والعقيد محمد إبراهيم سيف الدين والعقيد محمد كامل الرحماني،والقائمقام(أى العقيد) إسماعيل بك شيرين،والمستشار السياسي محمد موسى.ففي السادس من يناير عام1949،أعلن الدبلوماسي الأمريكي دكتور رالف بنش Ralph Bunche(وهو بروفيسور بجامعة هارفارد الأمريكية،عمل وسيطاً للسلام لدى الأمم المتحدة في حرب فلسطين،أثناء فترة الصراع بين العرب واليهود فى عام1948.وبسبب عمله هذا حصل على جائزة نوبل للسلام فى عام1950 ، ليصبح بذلك أول أمريكي من أصل أفريقي وأول فرد من فئة الملونين في التاريخ يحصل على هذه الجائزة.فقال كارل فون أوسيتسكي عند تقديمه لجائزة نوبل للسلام إلى رالف بنش:”لقد ذكرت أنت نفسك أنك متفائل لا شفاء له من تفاؤله.ولقد قلت إنك مقتنع بأن الوساطة لإنهاء الأزمة فى فلسطين سوف تكلل بالنجاح.لكن الدرب أمامك طويل.وإننا ندعو لك بالنجاح في تحقيق النصر الدائم لمُثل السلام،ذلك الأساس الذي لزام علينا جميعاً أن نقيم فوقه مستقبل البشرية بأكملها”)أن مصر وافقت بشكل نهائى على البدء فى إجراء مباحثات مع إسرائيل بشأن الهدنة.وبالفعل سافر الوفد المصرى إلى جزيرة رودس اليونانية،المقرر عقد مباحثات الهدنة فيها وبدأت الفاعليات في يوم12يناير.واستطاع أعضاء الوفد المصرى فى فترة وجيزة للغاية،إقناع إسرائيل بالموافقة على الإفراج عن لواء مصري أسير كان محاصر في الفالوجة وقتها،لكنها سرعان ما تراجع الجانب الإسرائيلى عن موقفه وألغى الإتفاق مع مصر.وفي نهاية الشهر تعثرت المحادثات.وطالبت إسرائيل بأن تسحب مصر جميع قواتها الحربية المرابضة فى منطقة فلسطين الإنتدابية السابقة.إلا أن الوفد المصرى أصر على إنسحاب القوات العربية إلى المواقع التي كانت تحتلها منذ14أكتوبر عام1948،وذلك وفقا لقرارى مجلس الأمن رقم1070المؤرخين فى4،16نوفمبر عام1948،وأن تنسحب القوات الإسرائيلية إلى مواقع شمال طريق المجدل-الخليل.وفى الثانى عشر من فبراير عام1949،كانت الأزمة بين الجانبين قد وصلت إلى ذروتها وهددت إسرائيل بالتخلي عن هذه الإتفاقيات وإنهائها بدون رجعة،فبقيت المفاوضات لمدة12يوماً بين مد وجزر،وناشدت الولايات المتحدة الطرفين بضرورة إستمرار الإتفاقيات حتى النهاية أملاً فى إستكمال مسيرة السلام الدائم،وإنهاء الحرب الدائرة بين إسرائيل من جانب،والدول العربية الأخرى من جانب آخر.
*نجاح المفاوضات:
الحقيقة أن نائب الوسيط الدولى البروفيسور رالف بنش كان قد لعب دوراً سياسياً كبيراً فى تلك الفترة.من أجل استمرار مسيرة السلام للوصول إلى إتفاق نهائى بين الجانبين.فذكر فى حوار له متحدثاً عن هذه الفترة العصيبة:”هناك أناس في العالم يسّلمون قبل الأوان بأن الحرب أمراً لا مفر منه.ومن بين هؤلاء دعاة ما يسمى”بالحرب الوقائية”!!،الذين يكمن في تسليمهم بضرورة قيام الحرب محض رغبتهم في أن يختاروا هم بأنفسهم توقيت بدء الحرب.وإن القول بأن الحرب نفسها يمكن أن تدرأ الحرب،هو مجرد تلاعب رخيص بالكلمات،وشكل من أشكال الترويج للحرب والدمار الشامل وتدمير نفوس البشر.ويتعين أن يكون هدف جميع من يؤمنون بالسلام السعي دون مواربة إلى استنفاد جميع السبل الشريفة في إطار الجهد المبذول لإنقاذ عملية السلام الدائم، ودعمها بكل السبل الممكنة مهما كلفنا ذلك من جهد..”،وبالفعل أجريت إتفاقيات الهدنة بنجاح، فاستمرت عدة أشهر،وخلال الفترة من24فبراير إلى20يوليو عام1949.كان قد تم التوقيع على إتفاقيات الهدنة الأربعة.التى جرى فيها تحديد الخط الأخضر،ووقعت كل دولة من الدول العربية الأربع المذكورة على الإتفاقيات الخاصة بها مع إسرائيل بشكل منفصل.فيما رفضت العراق التوقيع على تلك الهدنة.ووقع مندوبو الدول المتعاقدة على البنود المتفق عليها ، بحضور نائب الوسيط بفلسطي،ورئيس أركان حرب هيئة الإشراف على الهدنة التابعة للأمم المتحدة،وقام كلاً من العقيد محمد كامل الرحماني،والعقيد محمد إبراهيم سيف الدين، بالتوقيع على الإتفاقية نيابة عن الحكومة المصرية،وبالنيابة عن حكومة إسرائيل وقع كلاً من،رالتر إيبان وإلياس ساسون، ويجيل يارن .
*نتائج المفاوضات:
كان من أبرز النقاط التى تم الإتفاق عليها فى تلك المباحثات ما يلى:أنه لا يمكن تفسير خط الهدنة على أنه حدود سياسية أوإقليمية،وأنه وضع دون المساس بحقوق ومطالب ومواقف أي من الطرفين في الهدنة فيما يتعلق بالتسوية النهائية للقضية الفلسطينية.وأيضاً رسم خط الهدنة، الذى عرف سياسياً”بالخط الأخضر”(ويمثل رسم هذا الخط على أرض الواقع تقسيماً لأرض فلسطين إلى ثلاثة أجزاء،وهي إسرائيل والتي مثلت الجزء الأكبر بنسبة78%من مساحة أرض فلسطين التاريخية،والضفة الغربية وقطاع غزة بنسبة22%،فيما قامت إسرائيل لاحقاً باحتلالهما عام1967،كما أنه وضع حدوداً رسمية بين إسرائيل والدول العربية،وبقي داخله عدد من البلدان العربية والمدن التي سكنها اليهود والعرب،كما بقي بداخله الجزء الغربي من مدينة القدس، حيث مر الخط في وسط المدينة)في معظمه على طول الحدود الدولية لعام1922بين مصر وفلسطين الانتدابية،باستثناء البحر الأبيض المتوسط،حيث ظلت مصر تسيطر على قطاع من الأراضي على طول الساحل،الذي أصبح يعرف باسم قطاع غزة.كما سُمح للقوات المصرية المحاصرة في جيب الفالوجة بالعودة إلى مصر بأسلحتها كاملة،وتم تسليم هذه المنطقة إلى السيطرة العسكرية الإسرائيلية.فكان من المقرر تجريد منطقة على جانبي الحدود المحيطة بعوجة الحفير من السلاح،وأصبحت مقراً دائماً للجنة الهدنة الثنائية.وبذلك نجح أول اتفاق إسرائيلي-عربي فى التاريخ الحديث،أفضى إلى إنهاء الحرب بين الجانبين.وحلت تلك الإتفاقية التى وافق عليها الطرفان محل الإتفاقية المصرية الإسرائيلية العامة لوقف القتال،وذلك طبقاً للمادة الثانية عشرة من نص إتفاقية الهدنة..هذا ويذكر أنه بعد عودة أعضاء الوفد المصرى من اليونان،ونجاحهم فى أداء مهمتهم السياسية على أكمل وجه أنعم الملك فاروق الأول على إسماعيل بك شيرين برتبة ببكاشي،وذلك فى بداية الخمسينيات من القرن الماضى.ثم منحه رتبة قائمقام،تقديراً لمجمل المجهودات الوطنية التى أداها بكفاءة لخدمة البلاد فى هذه الفترة فى إطار دعم أسس للسلام.
*نائباً لرئيس نادى الزمالك:
هذا وتشير المصادر التاريخية إلى أن الأمير إسماعيل بك شيرين شغل منصب رئيس نادى فاروق الأول(نادى الزمالك حالياً،وقد تغير إلى هذا الاسم بعد قيام ثورة23 يوليو عام1952) ، وذلك فى أوائل الأربعينيات من القرن الماضى،وتحديداً فى سنة1942.وكان وقتها الفريق أول محمد حيدر باشا وزيراً للحربية في عهد الملك فاروق(11فبراير سنة1920-18مارس سنة 1965)،(ويذكر أنه أصبح وزيراً للدفاع والبحرية في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. وهو أيضاً خال المشير عبد الحكيم عامر)هو رئيس النادى(ويعتبر محمد حيدر باشا الرئيس الرابع لنادي الزمالك الرياضي،ويعد أيضاً أطول من جلس على كرسي الرئيس في تاريخ النادي لمدة30عاماً متتالية)فقام بعد توليه رئاسة النادى مباشرة بتشكيل أعضاء مجلس إدارة جديد، وعين يوسف محمد سكرتيراً عاماً،وكلاً من محمد متولي،ومحفوظ ندا،وسيد علي،وأحمد عوني، ومندور محمد أعضاء هذا المجلس.كما أنه استحدث منصب جديد لأول مرة فى تاريخ النادى الرياضى هو نصب نائب رئيس النادى،وشغله العقيد إسماعيل بك شيرين.
*دوره فى قضية طابا:
فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى شعر إسماعيل بك أن عرش الملك فاروق يترنح بقوة، فمن خلال موقعه بالجيش المصرى كضابط إتصال،ثم كوزير للحربية فى نهاية العصر الملكى، كان يرى بوضوح تام التذمر داخل الجيش،ولعله لمس بعض تحركات الضباط الأحرار، وإعدادهم لقيام حركة ثورية ضد الملك.وكان اقتناعه كاملاً بأن شيئاً ما سوف يحدث،ويؤثر سلباً على الملك فاروق الأول،ولأن ولائه للملك كان كبيراً جداً،فكان من القلائل الذين حاولوا لفت انتباه الملك إلى خطورة هذا الأمر،إلا أن الملك لم يستمع إليه،حتى قامت فعلاً حركة الضباط الأحرار فى23يوليو عام1952،وتم عزل الملك فاروق عن الحكم،وخرج من مصر فى 26يوليو عام1952،وبعد خروجه من مصر كان إسماعيل بك وزوجته الأميرة فوزية قد تركا البلاد أيضاً،واستقرا في جنيف بسويسرا..وبعد مرور ما يقرب من37سنة على مغادرته لمصر مع أسرته،كانت قضية الصراع على ملكية أرض طابا بين مصر وإسرائيل،قد أثيرت من جديد على الساحة السياسية.ذلك أنه بعد استرداد مصر لسيناء من الإحتلال الإسرائيلي بعد إنتصارات أكتوبر1973،كان من المفترض أن يتم تنفيذ المرحلة الأخيرة من مراحل الإنسحاب الإسرائيلى المتفق عليه رسمياً بين الجانبين،إلا أنه في أواخر عام1981أثار الجانب الإسرائيلي مشكلات مفتعلة لعرقلة تنفيذ هذه المرحلة،وكانت الأزمة المثارة حول وضع14علامة حدودية بين مصر وأسرائيل،أهمها على الإطلاق العلامة91الواقعة في طابا،لتستمر سيطرتها على جزء من أرض سيناء.
إحالة القضية إلى المحكمة الدولية للفصل فى النزاع بين الطرفين،وكانت إجراءات التحكيم الدولى بين مصر وإسرائيل على ملكية المنطقة،قد بدأت بالفعل،وكان مقر المحكمة الموضوعة أمامها القضية فى العاصمة السويسرية جنيف،واستعد الفريق المصرى المكلف بهذا الأمر فتقدم بما لديه من وثائق وخرائط،فضلاً عن الحجج والدفوع والزيارات الميدانية إلى المنطقة،بما يدعم الحق المصرى.لكن المحكمة الدولية لم تكتف بذلك كدليل لإثبات ملكية طابا لمصر،وفتحت باب الإستماع لشهادة الشهود،وكان على كل طرف أن يدفع بشهوده ليؤكد موقفه،هنا نذكر الموقف التاريخى النبيل للعقيد إسماعيل بك شيرين،الذى بمجرد أن علم بالأمر،تقدم من تلقاء نفسه إلى فريق التحكيم المصرى عارضاً أن يدلى بشهادته أمام المحكمة الدولية،لكى يثبت بما لديه من وثائق مصرية الأرض محل النزاع،ولم يكن أعضاء الوفد المصري آنذاك،يعلم شيئاً عن أوراق ووثائق آخر وزير حربية في عهد الملك فاروق،وأصيب الوفد بالدهشة.وتلخصت شهادته فى أنه أثناء فترة خدمته بالجيش المصرى،كان قائداً للكتيبة المصرية فى طابا،وأن لديه فى أوراقه الشخصية،خطابات خاصة ومستندات رسمية بعث بها إلى زوجته وأسرته من هناك،ولديه أيضاً ردود على تلك الخطابات أرسلت إليه فى طابا،وأن أختام البريد والطوابع تؤكد ذلك،ورحب الفريق المصرى به شاهداً،وقبلت به المحكمة شاهداً، فأدى دوره بأمانة وأدلى بشهادته التى زادت من اقتناع المحكمة بأحقية مصر فى ملكية الأرض. وبذلك يمكننا التأكيد بأن العقيد شيرين كان أحد الأسباب الرئيسية التى ساهمت فى صدور حكماً عادلاً لصالح مصر،وعودة جزءاً أصيلاً من تراب هذا الوطن الغالى،ففى يوم29سبتمبر سنة 1988تم الإعلان عن حكم هيئة التحكيم الدولى المكلفة بحسم النزاع حول ملكية أرض طابا بين الجانبين المصرى والإسرائيلى وأخيراً صدر الحكم التاريخى في صالح مصر،مؤكداً أن طابا مصرية خالصة،وفي19مارس سنة1989كان الإحتفال التاريخي برفع علم مصر على تلك البقعة من الوطن،معلناً السيادة المصرية على منطقة طابا كاملة،وإثبات حق مصر في أرضها.
*رحيله:
أخيراً وبعد حياة حافلة بالعديد من الإنجازات والإسهامات الوطنية التى سجلها التاريخ لهذا الرجل الوطنى،توفى العقيد إسماعيل بك شيرين فى صباح الرابع عشر من يونيو عام1994 ، وذلك عن عمر يناهز74عاماً،ونقل جثمانه إلى مصر فى صمت تام.حيث دفن بمدافن آل شيرين بمنطقة الغفير،على شارع صلاح سالم.دون أن يلتفت أحداً إلى إنجازاته وإسهاماته الوطنية التى قدمها لهذا البلد.بينما توفيت الأميرة فوزية فى عام 2013.ومضى كل منهما فى طريقه شامخاً وصامتاً.
*كلمة أخيرة:
هكذا فإن هذا الرجل،الذى ربما لم ينتبه أحداً إلى وجوده بسويسرا،ونسى تماماً منذ إستبعاده من عمله ومن بلده بعد قيام ثورة23يوليو عام1952،باعتباره من أفراد العهد الملكى البائد!!،وربما أيضاً لم يكن أحداً يعلم بسابق خدمته فى طابا.لكنه ظل حتى النهاية مصرياً،محباً ومخلصاً لبلده، وضابطاً وفياً من ضباط الجيش المصرى العريق،وإنساناً نزيهاً لا يكتم شهادة الحق،حتى لو لم تطلب منه.فلم يمنعه الخلاف السياسى مع النظام الحاكم آنذاك،عن أداء واجبه الوطنى،وأدى دوره بوطنية خالصة فى موقف حاسم وفارق،ولم ينتظر إسماعيل بك وقتها جزاءً،ولا طلب مقابلاً،ولا سعى لنيل أى شىء،معنوياً أومادياً،فعلى الرغم من هذا الموقف النبيل الذى قام به العقيد إسماعيل بك فى تلك الفترة العصيبة من تاريخ مصر الحديث،وبالرغم من خصوصية الخطابات والأوراق التى كانت فى حوزته،ولم يبخل بها على الوطن.إلا أنه لم يذكر أحداً دوره المهم في استرداد طابا وقتها،ولو بكلمة شكر.وفى25أبريل الماضى أيضاً إحتفلت مصر بمرور ثلاثون عاماً على رفع العلم على طابا،ولم يشير أحداً إلى الدور التاريخى الذى لعبه هذا الرجل فى ثمانينيات القرن الماضى…لكن سيظل العقيد إسماعيل بك شيرين،يقدم للأجيال التالية درساً فى معنى الوطنية الخالصة،باعتباره الجندي النبيل المجهول الذي حمل سلاحه للدفاع عن بلده فى كل الأحوال،دون أن يطلب من أحد أن يرد له الجميل أوحتى يذكره..إنها صفة الجنود النبلاء الذين يخوضون المعارك فى سبيل وطنهم،ولا يطلبون من أحد أن يذكر مآثرهم.والعقيد إسماعيل شيرين واحداً من هؤلاء الأبطال النبلاء،يستحق أن نقف عنده طويلاً،بالإحترام والتقدير.
**مراجع :
* مذكرات وكيل الديوان الملكي حسن باشا يوسف
* يوميات محمد حسنين هيكل
* “موسوعة مقاتل من الصحراء”
* وثائق اللجنة القومية لقضية طابا لإعداد مشارطة التحكيم
* مجلة “المصور” – عدد 28 مارس عام 1949
* صحيفة “الأهرام” – 15 يونيو عام 1994