براءة ملاك
في البهو الضيق للجريدة، مررت به وإذا ملامح الرجل تجذبني إلى العودة لأدقق النظر مرة أخرى، رجل في أوائل الخمسينيات من عمره، لوجهه نصيب كبير من اسمه، يدعى “ملاك” يحمل وجهًا ملائكيًا، يعكس طيبة القلب والبراءة التي لا يمكن إنكارها مهما حاولت ذلك.. سألته هل تنتظرني؟ لم ينطق! وأجاب عنه رجل يصاحبه، قائلا: نعم.. رافقتهما حيث الصندوق الأسود - غرفة افتح قلبك - التي تجرعت جدرانها بحكايات البشر ولا تزال عطشى للمزيد..
بدأ الرجل المرافق يتحدث وملاك صامت في استسلام ووجهه نحو الأرض، طلبت منه التوقف ليبدأ ملاك الحديث بنفسه عن نفسه، كنت أود الإنصات للبراءة التي تسكن ملامحه فقال: أنا عندي صرع جاني وأنا طفل بعد ما صدمتني عربية وبعد ما كنت في مدرسة عادية نقلوني مدرسة فكرية لذوي الاحتياجات الخاصة وكانوا كل مدة يعملوا لي مقياس ذكاء والنتيجة أن عقلي ينمو بمقدار نصف نمو عمري الحقيقي يعني أنا دلوقت عندي 26 سنة، فضلت عايش مع والدي ووالدتي لغاية لما أمي أتوفت، بعدها بوقت بسيط قرر والدي يتجوز! وقال أنه محتاج حد يعوله ويسنده وماينفعش يعيش لوحده لأنه عنده حالات دوار متكررة ومش هايقدر على رعايتي، ووقتها أخويا ووالدي قرروا أني لازم أتجوز وطبعا ظروفي مش زي أي حد عادي وسني كبير، وإللي هاتاخدني هاتعيش معايا وهي عارفة كدة، دورنا ولقينا بنت الحلال ظروفها المادية صعبة جداً ويتيمة وعندها تأخر شبهي، حتى علاجنا نفس العلاج، واتجوزنا.. والدي كان عنده محل تصليح أحذية استلمه أخويا الكبير إللي معايا دلوقت، وأنا كنت بأروح أقعد معاه وهو بيشتغل فأبويا سجلني في التأمينات علشان يضمن مستقبلي ويكون لي معاش، لما المحل وقف حاله لابقينا عارفين ندفع التأمينات ولا نشتغل وأخويا بيساعدني في العلاج.
تدخل أخيه في الحوار قائلا: حاليا أنا عيان ومش قادر على الشغل والمحل إيجار يعني حتى مانقدرش نتصرف فيه، والحمل تقل علي ماقدرش أجيب له العلاج هو ومراته كل واحد فيهم علاجه يكلف 400 جنيه يعني 800 جنيه في الشهر.
لم أسأل عن دور الوالد الذي تعلل بالدوار، وذهب ليكمل حياته مع شابة وترك ابنه، لم أسأل عن الأهل والأحباب لأنهم غالبا في ظل هذه الظروف الخاصة يتنحون ويتوارون يختبئون عن الأعين حتى لا يتحملون مسئولية من لا مسئولية له على ذاته.
عم جمال صديق المآسي
هنا في ذات المساحة كتبنا عنه مرات ومرات ومرات لم أعد أعرف عددها فوضعت بدلا منها علامة الاستفهام مرات تتشابك كلماتها وتتقاطع مع تلك الكلمات التي لاتجدد حروفاً جديدة لتقسم بتاريخ العناء، إنه يستحق الرعاية، إنه عم جمال صديق المآسي الذي يخرج من أزمة ليدخل في أخرى ومن مصيبة إلى كارثة، ذلك الرجل الذي كاد أن يفارق الحياة عدة مرات بسبب جلطات في القلب ثم جلطة بالمخ، ثم أوشك على الإصابة بفشل كلوي ثم تقرحات وصديد في أماكن متعددة من أنحاء جسده، ذلك الرجل الذي رفض الأطباء إجراء جراحة لقلبه خشية ألا يحتمل الجراحة عم جمال لايتعدي 54 عام، لديه فتق مضاعف في البطن، دخل العناية المركزة عدة مرات وترحمنا على حاله وكدنا نرتب لجنازته لكن ترتيبات الله تختلف عن ترتيباتنا وتجلت رحمته في الرجل..
عاد عم جمال إلى الحياة مرة أخرى وتعافى بقوة الله وليس بقوة العلاج، بعد أن أصيب بشلل نصفي كان يأتي إلى الجريدة مصطحباً ابنته شاكرا الله على نعمة الصحة التي لم يتوقعها.. كان معنا الأسبوع الماضي وسألته: يا عم جمال أخبار صحتك إيه؟ قال لي: بمب وفي صباح اليوم التالي اتصلت ابنته بي لتخبرني بنقله إلي قصر العيني بعدما تورم جسده بشكل مرعب وارتفعت نسبه الكرياتينين فيه إلى 8 والمفترض أن النسبة الطبيعية لاتتعدى 1 هذه المرة قرر الأطباء حاجته للغسيل الكلوي بشكل دائم وإجراء جراحة في عنقه حتى توضع فيها خراطيم الغسيل ، وما أن بدأ الغسيل حتى أصيب بجلطة قلبية جديدة يوم الأربعاء الماضي.. والتي تتطلب استعجال جراحة القلب التي تم تأجيلها منذ سنوات بالرغم من أن كفاءة عضلة القلب لاتتعدى 30% وهو ما يمثل خطورة على حياته وربما لا يحتمل الجراحة لكن الأطباء نصحوا هذه المرة بضرورة إجراء الجراحة وهو عكس ما حدث في المرة السابقة.
انقذوا عم جمال الذي لامورد له ولاسند، ثلاث بنات وولد وزوجة بائسة، انقذوا الأمل بداخله، فلا يمكنني أبداً نسيان رد فعله في المرة السابقة بعدما تعافى وكان قد استخدم كرسياً متحركاً لفترة طويلة كما أنه فقد النطق لفترة طويلة أيضا، وذات صباح فوجئت به مترجلاً إلى مكتبي بصحبة ابنته يشكر الله على تعافيه وعودته للحركة حاملاً الكرسي المتحرك وقائلا لي: ربما يستفيد به من يحتاج إليه، الان أما أنا فالله يحملني.. نعم الله يحملك يا عم جمال ويحمل كل من يرعاك ويحمل الأمل في صدرك إلى النفس الأخير بصبر وشكر ورجاء.
شكر خاص
يتقدم باب افتح قلبك بجزيل الشكر والامتنان لمن قاموا بتوفير ألبان الأطفال للأسر المحتاجة لها وبكميات تكفي لشهر ونصف الشهر تقريباً وإذ يتطلع الباب إلى مزيد من الرعاية لأولئك الذين يحيون على السوائل بسبب ظروفهم الجسدية والعقلية التي خلفها لهم ضمور المخ خاصة فيما يتعلق بجلسات التخاطب لبعضهم، ومنهم حالة مريم التي نشرنا عنها الأسبوع الماضي تحت عنوان “النعمة مجانية والغضب أناني.”
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة