يكثر الحديث عن التعايش أو العيش المشترك، بمعنى قدرة البشر العيش والتواصل بشكل سلمى رغم إختلافاتهم والسبب، كما هو شائع، يعود إلى انتشار خطابات الكراهية واستشراء العنف بفعلصراعات الهوية سواء كانت هوية جنسية أو دينية أو قومية أو غيرها من الهويات. وفى حين تتزايد جهود المطالبين بالعيش المشترك والسلم الاجتماعى والحد من الطاقة السلبية والتدميرية لصراع الهويات، فإن هذه الجهود، مع الأسف، تبدو عاجزة أمام عوامل أكثر قوة تعمل على تنشيط الطاقة السلبية والتدميرية للهويات إما بسبب مصالح سياسية أو طبقية أو بسبب الجهل وثقافة الكراهية والخوف من الاختلاف.
وفى الواقع أن صراعات الهوية التى تفسد مبدأ التعايش هى حقيقية ووهمية فى الوقت ذاته، حقيقية لأنها تظهر فى الوعى والممارسات العنيفة، ووهمية لأنها تظهر وكأنها أصل المشكلة فى حين أنها تعبير عن خلل سياسى واجتماعى وثقافى. وعليه فإن العلاج بالتعايش يتطلب تحديد جذور المشكلات والاختلالات. ولا شك أن الفقر والعوامل الاقتصادية والاجتماعية تلعب دورا محوريا فى تحديد مدى تماسك المجتمعات ومدى قدرة أعضائها على التعايش.ولن أخوض فى مجمل هذه العوامل، ولكن ما أود الإشارة إليه، كمثال، هو أحد الجوانب الهامة التى تشكل أحد العوامل الحاسمة فى تحقيق التعايش من عدمه، وأقصد بذلك الديناميات السكانية والتخطيط العمرانى.
لقد شهد المجتمع المصرى على مدار العقود الماضية تحولات هائلة من منظور التركيب والتوزيع السكانى وعمليات التحضر والنزوح من الريف إلى المدن، والتحولات العمرانية التى طالت الريف والحضر. فإلى أى حد خلقت هذه التحولات بيئة مواتية للتعايش والتواصل؟ يمكن القول أن هذه التحولات جاءت سلبية إلى حد بعيد وستكون كذلك فى المستقبل إذا ما استمرت على حالها. فقد شهدت المدن فى منتصف القرن الماضى مساحات مشتركة حتى وإن كانت متفاوتةطبقيا، ولكنها كانت مساحات جيدة للتواصل والتعايش، هذا مع استمرار أنماط من الفصل الجغرافى الدينى بين المسلمين والمسيحيين فى الريف والحضر فى إطار حالة من الاستقرار التقليدى، أى التجاور وليس التعايش. وبمرور الوقت، تغيرتالأوضاع وأصبحنا أمام ظواهر ديموجرافية وعمرانية لا تساعد بأى حال على العيش المشترك، لأنها مؤسسة على الاقصاء والاستبعاد، وأقصد بذلك العشوائيات والتجمعات السكنية الراقية، فكلاهما نموذج لإفشال فرص العيش المشترك.
فمن ناحية، تعد العشوائيات بيئة معادية للتعايش السلمى لأسباب معروفة للجميع، بداية من تأثيرات الفقر والجهل والتدهور القيمى، وانتهاء بالتعصب الدينى والعصبيات العائلية مرورا بغياب قيمة القانون واستشراء الانتهازية والفردانية المدمرة بسبب غياب دور فاعل للدولة ومؤسساتها التربوية والخدمية والأمنية، وقد أصبحت العشوائية ظاهرة اجتماعية وثقافية قادرة على غزو محيطها الحضرى وإصابته بوباء العشوائية. وبالمقابل، هناك وتيرة متسارعة فى إنشاء تجمعات سكنية جديدة تتبارى فى المتاجرة بأنماط الحياة الراقية وكأنها أرض الخلاص من الزحف العشوائى. وهذه البؤر اللامعة قد تكون مساحات للعيش الراقى، ولكنها ليست بالضرورة مساحات للعيش المشترك، فهى أيضا تتميز بالفرادنية وإنت كانت فردانية آمنة محاطة بأسوارها المادية والنفسية. وإذا نظرنا إلى الصورة فى عموميتها، أى التشكيل السكانى والحضرى بعشوائياته وتجمعاته السكنية الراقية، فمن السهل إكتشاف أنها صورة بلا إطار للتعايش ولا للعيش المشترك. فهى صورة تجمع مساحات متنافرة من حيث أنماط الحياة وأساليب التنشئة والتعليم، وآليات إنفاذ القانون وتوفير الخدمات، إنها صورة مهزوزة اجتماعيا وثقافيا، ولذا فهى تنبئ بالخطر لا أكثر.
إن خطاب التعايش والعيش المشترك لا يمكن أن يكون فعالا طالما ظل خطابا أخلاقيا منفصل عن الواقع السياسى والاجتماعى. فثمة شروط مسبقة للتعايش والعيش المشترك، شروط تتحمل مسئوليتها الدولة بالأساس، شروط يتحقق من خلالها الحد الأدنى من التجانس من خلال التنشئة والتعليم والمساواة أمام القانون. ولكن إذا ظلت معادلة ما يسمى بالتطوير قائمة على الإقصاء العشوائى من ناحية، والعزل الإستهلاكى من ناحية أخرى، فإن أى كلام عن التعايش والعيش المشترك لن يكون له معنى من الأساس. كما أن على مستخدمى مفهوم التعايش التحرر من الأفكار التقليدية عنالتصالح والاستقرار، فهو ليس حالة من توازن “اللاسلم واللاحرب” فى ظل أوضاع مختلة، وإنما هو جزء لا يتجزأ من منظومة متكاملة عمادها المساواة وإحقاق الحق واحترام الكرامة الإنسانية.