خصصت مجلة ناشيونال جيوغرافك أحد أعدادها لموضوع البلاستيك ومخاطره على الكوكب والكائنات الحية، وفي افتتاحية العدد تم ذكر تعبير “حياة الاستهلاك والرمي” والذى ظهر عام 1995 في مجلة لايف Life الأمريكية كإعلان عن بزوغ نمط جديد من الحياة يقوم على الاستهلاك والتخلص مما يتم استهلاكه، وهذا النمط الجديد أسهمت في ظهوره تشكله المنتجات البلاستيكية سهلة الاستخدام والمعدة لأن تكون نفايات. وتذكر المجلة المجلة أن البشر يستخدمون تريليونات من أكياس البلاستيك كل عام، لا تتجاوز “دورة حياتها” 15 دقيقة. وذلك ليس سوى مصدر واحد من مصادر التلوث البلاستيكى، إذا يمثل رأس جبل جليدى يكاد يُغرق محيطاتنا. وفي الحقيقة أن الإحصاءات والمعلومات عن هذا النوع من التلوث مرعبة، ومع ذلك فإن انتاج واستهلاك البلاستيك عملية مستمرة ومتواصلة، قد توجد محاولات هنا وهناك للحد منه ولكن تيار البلاستيك الكاسح لا يتوقف وأكوامه تتراكم وقطعه الصغير تتناثر وتنتشر لتغذو الكوكب بلا رحمة وبلا قابلية للتحلل.
وفي الحقيقة أن البلاستيك مُنتَج مدهش لأنه بات يُستخدم في كل شئ تقريبا بداية من أكياس التسوق وحتى هياكل الطائرات، وهذه خطورته لأنه مادة قد يصعب الاستغناء عنها. ونظرا لقوته هذه فإن معركة مواجهة زحفه من قبل أنصار البيئة والصحة العامة تبدو حتى الآن وكأنها معركة خاسرة، وربما تكون التكتيتات الأفضل هى الحد منه من خلال ترشيد عمليات الاستهلاك ومن ثم الحد من تحوله إلى نفايات. ولا شك أن الكثير منا يتأذى عندما يرى أكوام البلاستيك في شوارع المدن وعلى جوانب الطرق والحقول، وكذلك عندما نرى زجاجات البلاستيك وهي تطفو على سطح الماء في البحر والمصارف المائية، وهذا لا شئ مقابل نفايات البلاستيك الهائلة التي لا ندركها. وقد لا نشعر فقط بالاستياء، بل بالعجز وعدم القدرة على وقف هذا التيار الجارف، ويزداد هذا الإحساس عندما نجد أنفسنا داخل دوامة البلاستيك كمستهلكين وبالتالي كملوثين. فما الذي يمكن فعله؟
تقدم لنا مجلة ناشيونال جيوغرافيك ستة نصائح، هي: أولا: الاستغناء عن أكياس البلاستيك، أى أنه يمكننا أن نستخدم “شنط” مخصصة للتسوق نضع فيها ما نشتريه قد تكون مصنوعة من القماش أو الورق أو من مواد طبيعية، بدلا من كميات الأكياس التي تتراكم ونتخلص منها سريعا. وفي الواقع أننا بهذا لا نبتكر طريقة جديدة للتسوق، لأن هذا ما اعتدناه في السابق قبل هجوم أكياس البلاستيك الكاسح. ثانيا: تفادي “مصاصات الشرب” إلا لضرورة طبية كما يمكن استخدام مصصات ورقية. ثالثا: التوقف عن استخدام زجاجات المياه البلاستيكية. وقد يبدو هذا الأمر صعب حيث أنه يتطلب تدخلا من الدولة لوضع سياسات لتنظيم إنتاج وتوزيع هذه العبوات، ولكن هناك تجارب نعرفها جيدا في الكثير من المطاعم والفنادق حيث يتم استخدام عبوات مصنوعة من الزجاج، وهي تجارب يمكن تعميمها بشرط توافر مثل هذه العبوات الزجاجية. رابعا: تفادي العبوات البلاستيكية، ولعل المثل التوضيحي هنا إمكانية استخدام الصابون الصلب بدلا من الصابون السائل، وكذلك إمكانية الابتعاد عن المنتجات المعبأة في عبوات بلاستيكية مادام هناك بدائل في عبوات زجاجية أو ورقية أو معدنية. خامسا: تدوير البلاستيك كلما أمكن، وهذه مهمة قد يكون لمنظمات البيئة ومنظمات المجتمع المدني التنموي دورا مهما في إنجازها. عدم إلقاء النفايات إلا فى الأماكن المخصصة لها، وهذه أيضا مسألة وعى وتنظيم وتحتاج إلى دور فعال من أجهزة الدولة المعنية.
من المؤكد أن هذه النصائح تسهم في الحد من خطر التلوث بالبلاستيك، ولكن تنفيذها يتطلب وعى وتنظيم وسياسات، وهذا لن يتحقق إلى بمشاركة كل الأطراف المعنية بداية من أجهزة الدولة المعنية إلى مؤسسات المجتمع المدني مرورا بالإعلام والمؤسسات التربوية والدينية. وهنا تحضرني مسألة كنت قد تحدثت عنها من قبل حول الدور التنموي للخطاب الدينى. هل تجديد الخطاب الدينى لا يستدعى أن يكون له دور فعال فى مثل هذه الأمور؟ إن المؤسسات الدينية معنية بأمور الدين، وهذا مفهوم، ولكن الارتباط بقضايا الصالح العام لابد وأن يكون مهمة في صميم الدين والأخلاق، وهو الأمر الذي يتطلب تطوير خطابات وأدوات هذه المؤسسات للاسهام في مثل هذه الأمور الحيوية، وهكذا في تصوري يكون تجديد الخطاب الديني.
قد يكون التلوث البلاستيكي أحد أبرز مظاهر “حياة الاستهلاك والرمي”، ولكن البلاستيك في هذه الحالة يعكس مشكلة أعمق في تعاملنا مع أنفسنا ومع الكوكب الذي نعيش عليه وبه، فقد أصبح الإنسان الكائن الوحيد الذي يقدس الاستهلاك ولا يعبأ بالتلوث، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك لنقول أن “حياة الاستهلاك والرمي” باتت تشكل إطارا للعلاقات بين البشر أنفسهم في حضارتنا المعاصرة، وكأنها علاقات بلاستيكية نستهلكها ثم نرميها، لتخلف تلوثا نفسيا واجتماعيا بات يحاصرنا ويسبب الشقاء للكثير من البشر.