أسئلة طرحناها على خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بمناطق آثار جنوب سيناء
في البداية يشير الدكتور ريحان إلى أصل التسمية بالأنباط تسميتهم بالأنباط لسببين، الأول لاستنباطهم ما في باطن الأرض والثاني لكثرة النبط عندهم وهو الماء، وقد توصلوا إلى أعظم نظم مائية لتوفير المياه العذبة وزراعة أراضيهم كما استنبطوا خيرات الأرض واستخرجوا النحاس من سيناء ونبغوا فى صناعة الفخار وهناك نوع من الفخار الرقيق المتميز برع فيه الأنباط.
ويوضح الدكتور ريحان أن الأنباط مجموعة من القبائل العربية جاءت من جنوب الجزيرة العربية وظهروا لأول مرة فى القرن السادس ق.م كقبائل بدوية فى الصحراء الواقعة شرق الأردن ثم استمروا كذلك حتى القرن الرابع ق.م رحلًا يعيشون فى خيام ويتكلمون العربية ويكرهون الخمر ولا يهتمون كثيرًا بالزراعة و عاشوا فى شمال الجزيرة العربية وجنوب بلاد الشام واتخذوا البتراء (بالأردن الآن) عاصمة لهم فى القرن الرابع قبل الميلاد وفى القرن الرابع قبل الميلاد ورّد الأنباط لمصر القار الذي كان يستخدم فى عمليات التحنيط وفى القرن الثالث قبل الميلاد تركوا حياة الرعي واتبعوا حياة الاستقرار وعملوا فى الزراعة والتجارة.
ويتابع الدكتور ريحان بأن الأنباط تحولوا من حياة البداوة إلى الحياة الزراعية نتيجة علاقاتهم التجارية التى استلزمت استقرار وعمل مخازن وعمل سفن وبذلك تحولت مجموعة من القبائل إلى مملكة متقدمة فى الزراعة والتجارة والفنون فى الشرق الأدنى وبنهاية القرن الثانى قبل الميلاد أصبح لهم نشاط بحري وقوة بحرية عظيمة وكان لهم سفن خاصة بهم بالإضافة لاستئجار سفن أخرى ومن القرن الأول قبل الميلاد أسس الأنباط جيشًا وكان لهم شبكة طرق تتوفر فيها مصادر المياه وبنهاية القرن الأول قبل الميلاد كان لهم إنجازات عظيمة فى مجال البناء –النحت – إنتاج الفخار – استخراج المعادن وتمتع الأنباط خلال القرن الأول قبل الميلاد بعلاقات تجارية مع البطالمة فى مصر وكانوا يعاملون باحترام شديد.
إلي أي مدي تمتعت مملكة “الأنباط” بالحرية والأمن بسيناء
من جانبه يؤكد الدكتور عبد الرحيم ريحان أن الأنباط تمتعوا بالحرية والاستقلال لأنهم كانوا يستغنون عن سائر العالم وقتهم بصهاريج مياه منقورة فى الصخور يملؤوها من ماء المطر فى الشتاء الناتج عن السيول ويوصلون هذه الصهاريج بعضها ببعض عن طريق أقنية نقبت فى الصخر، وهذه الصهاريج مربعة الشكل لها فوهات ضيقة حتى إذا امتلأت أحكموا سد هذه الفوهات، وكانوا يخفونها عن الأنظار بعلامات لا يعرفها سواهم ليستحيل على الأعداء أن يعثروا عليها فيموتوا عطشًا
ويضيف الدكتور ريحان أن الأنباط صنعوا أوانى خزفية تتميز برقتها التى لا تتجاوز رقة قشرة البيضة مما يشهد بتفوق صناعتها واحترم الأنباط الموت فأقاموا النصب التذكارية وحرموا تدنيس القبور بلعن كل من يفعل ذلك كما اهتموا بتغطية قبور العامة وصيانتها بالألواح وحفرها فى صفحات المنحدرات الجرفية لئلا يصل إليها من يدنسها ووجدت مقابر عديدة للأنباط بسيناء معظمها فى وادى فيران ودهب وهى مقابر محفورة فى منحدرات الجبال
وعن علاقتهم بسيناء رغم أن عاصمتهم البتراء بالأردن ينوه الدكتور ريحان إلى أن الأنباط تحكموا لتأمين الطريق التجارى من البتراء مخترقة النقب إلى غزة أو العريش واستغلوا الأرض الزراعية وطوّروا النظام المائى فأنشئوا الآبار والأحواض والسدود والصهاريج المائية وأن الوجود النبطى فى سيناء امتداداً زمنيًا لوجود الأنباط فى النقب وكانت بداية العمران النبطى فى النقب فى القرن الثالث ق م وذلك من خلال النقوش والبقايا الأثرية ومركز صناعة الفخار ومئات وحدات العملة، واستقر الأنباط بسيناء شرق قناة السويس وجنوب غرب أيلة والمنطقة الجبلية الجنوبية ولأن النشاط البحرى للأنباط بدأ بنهاية القرن الثانى قبل الميلاد وأصبحت لهم قوة بحرية عظيمة، ومن القرن الأول قبل الميلاد أصبح لهم شبكة طرق وحققوا إنجازات فى مجال استخراج المعادن لذا فمن المرجح أن تكون علاقتهم بسيناء بدأت منذ القرن الأول قبل الميلاد وحتى نهاية دولتهم رسميًا على يد الإمبراطور الرومانى تراجان عام 106مسناء فاروق, جنوب سيناء, خليج العقبة, الأنباط, سور خارجى
ميناء دهب شاهد على التواصل الحضاري عبر خليج العقبة
و يلفت خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان أن الأنباط تركوا آثارًا عديدة بسيناء ومنها الفرضة البحرية لميناء دهب البحرى بمدينة دهب بمحافظة جنوب سيناء ويوضح أن الفرضة البحرية تعنى المبنى الذى يخدم الميناء وبه مخازن البضائع والمكاتب الإدارية ومبيت العمال
ويشير الدكتور ريحان إلى طريق للأنباط بسيناء يبدأ من أيلة (مدينة العقبة الآن) على رأس خليج العقبة إلى ميناء دهب ومنها يتوغل إلى داخل سيناء برًا إلى وادى فيران مارًا بجبل موسى ومن وادى فيران إلى وادى المكتّب (سمى كذلك لكثرة الكتابات به نبطية ويونانية ) – سرابيت الخادم – وادى النصب – وادى غرندل – رأس سدر – عيون موسى إلى ميناء القلزم (السويس) ثم برًا حتى نهر النيل ومنه للإسكندرية ومنها لأوروبا.
وكان هذا ضمن شبكة طرق للأنباط بين المحيط الهندى والبحر المتوسط، فكانت بضاعة الهند تأتى إلى اليمن عن طريق عدن وكان أهل اليمن ينقلونها مع محاصيلهم إلى الحجاز وكان الأنباط ينقلونها من الحجاز إلى البتراء ومن هناك تتفرع إلى مصر بطريق البتراء وقد أطلق نعوم بك شقير على الطريق المار بسيناء طريق البتراء لأنها الطريق التى اتخذها الأنباط أسياد البتراء.
ويوضح الدكتور ريحان أن الأنباط كانت لهم جالية ومعبد فى إيطاليا وكانوا يجلبون القار من البحر الميت والعطور من حضرموت والتوابل من الهند والحرير من الصين والقطن من الهند وسيلان والأخشاب من أفريقيا لتعبر سيناء إلى مواطن تصديرها.
ويصف الدكتور ريحان الفرضة البحرية بدهب بأن تخطيطها مستطيل غير منتظم الأضلاع وأضلاعه كالآتي: الشمالي 40.50م ، الجنوبي 32.20م، الشرقي 55م، الغربي 46.20م، ولها سور خارجي يقع مدخله فى الناحية الشرقية المشرفة على الخليج وهو محاط ببرجين دفاعيين من داخل السور،كان يستخدم الجزء الشمالي مكاتب إدارية وعددها 23 حجرة لخدمة حركة تسيير ونقل البضائع من وإلى الميناء، والجزء الجنوبي مخازن للبضائع وعددها 24 حجرة، حيث تم العثور على لقي أثرية تشمل جرار تخزين وسبائك نحاسية، كما يوجد 12 حجرة بالجهة الغربية استخدمت كمبيت لبعض العاملين بالميناء، ويتوسط المبنى فنار لإرشاد السفن حيث عثر بجواره على المحرقة التي يتم فيها حرق الأخشاب المستخدمة فى الفنار .
نقوش الأنباط بسيناء تهدي سلام وأمان لكل من استقر على أرضها
و أكد خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بمناطق آثار جنوب سيناء، أن الأنباط تركوا مئات النقوش الصخرية والمخربشات في معظم أودية سيناء من شمالها إلى جنوبها كما وجد بها مناظر للحيوانات التي دجّنوها أو التى كانوا يصطادونها وصور لجمال وفرسان ومناظر صيد وطيور مختلفة، ولقد استعمل الأنباط الجمال منذ القرن الرابع قبل الميلاد وذلك قبل تربية ومعرفة الخيول وكان لديهم عشرة آلاف فارس وكان لديهم رماة سهام مهرة
ويشير الدكتور ريحان إلى أن أعمال المسح الأثري بمناطق جنوب سيناء كشف عن العديد من هذه النقوش الصخرية والمخربشات بأودية سيناء ومنها وادى طويبة 5كم من جزيرة فرعون بطابا ووادى هوارة ووادى أم سدرة وهى التى تقع على الطريق المار من البتراء إلى غزة أو العريش مخترقًا صحراء النقب ،ووادى عرادة الذى به مجموعة من أجمل الرسومات لطيور وحيوانات مختلفة، وهضبة الدفادف – وادى السراة – الشجيراء – وادى سلاف – وادى حضرة وهى فى الطريق من دهب إلى سانت كاترين ثم وادى فيران ووادى أجلة ووادى المكتّب قرب وادى فيران، ووادى حبران ووادى إسلا فى الطريق من طور سيناء إلى سانت كاترين.
وينوه الدكتور ريحان إلى أن العلماء الأوروبيون الذين زاروا سيناء منذ القرن الثامن عشر الميلادى شاهدوا بعض هذه النقوش وظنوا أنها عبارة عن آثار تركها بنو إسرائيل فى أول محاولة لهم لإنشاء كتابة حتى اكتشف عالم الآثار البريطانى بترى فى بدايات القرن العشرين أن هذه النقوش لا علاقة لها ببنى إسرائيل ولا قصة الخروج وتوالت الدراسات بعد ذلك لعلماء إنجليز وفرنسيون وألمان لتثبت أنها نقوش الأنباط وأن هذه النقوش أضافت مزيد من الأسماء لقائمة الأعلام النبطية وعبارات متكررة تعنى سلام – بركة وهذا يعنى أن هذه المنطقة أرض سيناء هي أرض السلام والأمان لكل من عاش فيها أو عبرها فى طرق التجارة أو التجأ إليها فى أى وقت حيث كانت حضن الأمان للرهبان المتوحدين الأوائل الذين لجئوا إليها هروبًا من الاضطهاد الروماني منذ القرن الرابع الميلادي.