تمثل التعددية أو التنوع سمة أساسية من سمات الحياة, فالمجتمع البشري الإنساني ومنذ بدء الخليقة يتميز بأنه يذخر بالتنوعات ويموج بالاختلافات, وبالطبع فإن المقصود هنا ليس الخلافات والصراعات والتناحرات بين المواطنين بعضهما لبعض, وإنما الاختلاف الطبيعي بين البشر, حيث يأتي التنوع علي عدة مستويات منها الدين والمذهب العقائدي داخل الدين الواحد واللون والجنس أو النوع الإنساني والمستوي الاقتصادي ـ الاجتماعي والانتماء الفكري والأيديولوجي, إلي آخره.
والتعددية في جوهرها ظاهرة صحية وسليمة, هي ضرورة حياتية وحاجة بشرية, والظن هنا أنه لا غني عنها في المجتمعات الحديثة, الناهضة والمتمدنة, حيث تمثل التعددية حالة مجتمعية من حالات الغني والثراء تؤثر إيجابا علي الإنتاج الفكري والثقافي للشعوب بشقيه المادي ـ الحضاري والمعنوي ـ الروحي, خاصة وأن التعددية ترتبط بالإبداع والابتكاروالقدرة علي التجديد والتحديث والتطوير.
وثقافة التعددية والتنوع ليست ثقافة مناهضة لوحدة المجتمع وتجانسه, كما أنها ليست ضد تماسكه وقدرة أبنائه علي العيش المشترك, الإيجابي والفعال.
ذلك أن التعددية لا تعني الفرقة والانقسام, إنما تعني التنوع الخلاق الذي يشبه لوحة فسيفساء جذابة وجميلة نتمتع بالنظر إليها, تتكون من أجزاء صغيرة تشكل في المجمل لوحة فنية بديعة, ما يعبر عنه بحالة التعددية في إطار الوحدة, أو الوحدة الحاضنة للتنوع, دون تعارض ودون خلاف.
ولعل أبلغ مثال علي ذلك من تاريخنا الحديث ثورة المصريين في سنة 1919م التي نحتفل هذا العام بمرور مائة عام علي اندلاعها (1919 ـ 2019م), من حيث إنها جمعت أطياف الشعب المصري علي قلب واحد في إطار من الوحدة والتكاتف والاندماج والتكامل, فقد التف الجميع حول شعار الدين لله والوطن للجميع, كما برز شعار آخر يقول عاش الهلال مع الصليب للتعبير عن الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط, وكان للمصريين آنذاك هدف مشترك هو الاستقلال التام أو الموت الزؤام, فقد اشترك في تلك الثورة الرجل والمرأة.. المسلم والمسيحي.. الأفندية من الطلاب والموظفين مع العمال والفلاحين.. الشباب والكبار.. الأغنياء والبسطاء.. من القاهرة والأقاليم.
كما شهد تاريخنا الحديث والمعاصر الكثير من المعارك الفكرية التي تعلقت في حقيقتها بحق الاختلاف وحرية الرأي والتعبير, حيث وقف البعض إلي جانب هذا الحق مؤيدا لتلك الحرية, بينما أنكرها البعض الآخر, أذكر هنا أنه عندما خرج المفكر المصري والمصلح الاجتماعي قاسم أمين (1863 ـ 1908م), المعروف بمحرر المرأة, علي المصريين بكتابيه الشهرين تحرير المرأة ـ 1899م و المرأة الجديدة ـ 1900م, أنه ظهرت كتابات كثيرة تناولت قاسم أمين وكتابيه بالكثير من النقد والتجريح والإساءة لشخصه.
ولكن في المقابل كان هناك من فكر في الرد علي الفكر, بالفكر وعلي الرأي بالرأي, وعمل علي مواجهة الحجة بالحجة, دون سباب ودون تجريح, ولعله ذات الأمر الذي حدث مع الدكتور طه حسين (1889 ـ 1973م) حين وضع كتابه في الشعر الجاهلي في عشرينيات القرن العشرين, إذ وقف الرجل بين فريقين أحدهما أيد حريته في البحث والتفكير وحقه في المناقشة والاجتهاد, بينما كان هناك فريق آخر أنكر عليه تلك الحرية وذلك الحق.
إن الإيمان بثقافة التعددية والتنوع, في الانتماءات والأفكار والآراء, يساعد كثيرا علي تحقيق مساحة أكبر من قبول الآخر واحترامه وتقديره, وقبول الآخر وهنا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تتخلي عن آرائك ومعتقداتك, وإنما هو إيمان حقيقي واعتقاد صادق بحق الآخر ـ المختلف عنك ـ في الوجود والتعبير عن ذاته وطرح آرائه دون اتهام بالعمالة أو التخوين أو التكفير, أو حتي اتهامه بغياب المعلومات أو نقصها والافتقاد إليها.
وقد يكون من الصالح لنا الإيمان بأن لا أحد منا يمتلك الحقيقة المطلقة, وأننا جميعا نسعي ونجتهد, وأن الحقائق التي نصل إليها هي حقائق نسبية ترتبط بما يتوفر لدينا من معطيات ومعلومات, وأنه دائما يبقي لكل منا إسهامه ودوره دون تهميش أو استبعاد لأي من مكونات الجماعة الوطنية.
يقول الشاعر الكبير صلاح جاهين (1930 ـ 1986م) في واحدة من رباعياته الشهيرة: لولا اختلاف الرأي يا متحرم.. لولا الزلطتين ما لوقود انضرم.. ولولا فرعين ليف سوا مخاليف.. كان بينا حبل الود كيف اتبرم؟ عجبي!!!.
ويقول المفكر المصري قاسم أمين في كتابه (كلمات) الصادر بالقاهرة سنة 1908م عقب وفاته مباشرة الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي ونشر كل مذهب وترويج كل فكر, ومن الأقوال المتوارثة بيننا جيلا بعد جيل قلنا الاختلاف في الرأي لا يفسد للود للقضية, وهو قول شهير ينسبه البعض لأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد بينما ينسبه آخرون لأمير الشعراء أحمد شوقي.
ويبقي الوطن مصر من وراء القصد.
Ramy [email protected]