أصبحنا نسمع كثيرا، فى سياق ما بات يعرف بحوار الحضارات، عبارات إنسانية عديدة، لعل من أبرزها “التعايش السلمى”، “العيش المشترك”، “قبول الآخر”، “قبول الاختلاف” وغيرها من العبارات التى تدعو إلى عدم التمييز أو الإقصاء. وعلى الرغم من انتشار هذه العبارات والتى هى محل ترحيب، إلا أن بعضها يثير جدل وتساؤلات، ومن ذلك الجدل حول عبارة “قبول الآخر”، فالبعض يطالب بعدم استخدامها واستبدالها بعبارة “قبول الاختلاف”، لأن الآخر يفترض مسبقا أن الطرف الثانى موضع القبول هو مصنف مسبقا على أنه “آخر”، وهى كلمة إقصائية فى حد ذاتها. أما “قبول الاختلاف”، فيعنى أن ما تقبله ليس الشخص وإنما اختلافه الدينى أو العرقى أو الجنسى أو أى اختلاف له صلة بالهوية والاختيارات الشخصية فى إطار الحقوق والحريات. والاختلاف بهذا المعنى دليل على التنوع الذى يجب احترامه والحفاظ عليه والتعايش به ومن خلاله.
وفى الحقيقة أن هذه المطالبة لها وجاهتها، لأن مفهوم “الآخر”، كما أوضحت ذلك أدبيات عدة، مفهوم إشكالى، لأنه أحد أدوات سياسات الهوية، فوجود الآخر، أو بالأحرى إيجاده، عملية أيديولوجية لبناء الهوية الذاتية ورسم حدودها من خلال تمييزها عن طرف أو أطراف أخرى. ومن ثم فإن علاقة الذات بالآخر علاقة عضوية لايمكن الفصل بين طرفيها، فالآخر هو ما ليس نحن، وعندما نصفه فإننا فى الحقيقة نريد أن نقول “من نحن”، وغالبا ما نكون “نحن” الأفضل، أو على الأقل فى موقع يكفل لنا إضفاء ما نريد من صفات على الآخر لإثبات اختلافه عنا. فعندما نصف الآخر، سلبيا، بأنه أقل إيمانا، فهذا معناه أننا الأكثر إيمانا، وعندما نقبله فإننا نفعل ذلك على سبيل “التسامح” لا أكثر. وهذه أيضا مشكلة مفهوم “التسامح” الذى يضع الذات “المتسامحة” فى مرتبة أعلى من الآخر الذى نعطف عليه بتسامحنا.
ولأن مفهوم “الآخر” تعبير عن صورة ذهنية، فإن كلمة “الآخر Other” تحولت فى مجال العلوم الإنسانية من اسم إلى فعل يفيد بأننا ننتج الآخر ونصنعه ضمن عملية أيديولوجية وذهنية، فنجد فى اللغة الإنجليزية شيوع استخدام كلمات دالة على الفعل مثل “Othering”، وهو الفعل الذى يتم من خلاله صناعة وتثبيت الآخرية أو الغيرية Otherness. وهذه هى العملية التى تتم فى إطار معادلة أيديولوجية لا تعنى التعايش والتنوع بقدر ما هى جزء من سياسات الهوية والتى تجد أصولها فى عمليات الإقصاء والسيطرة، وتظل تحمل إرهاصات هذه الدلالات السلبية حتى لو حاولنا معالجتها من خلال إضافة كلمة قبول إلى الآخر. والأجدى، إذن، أن نتحرر من هذه المعادلة برمتها. ولهذا ربما يرفض البعض عبارة “قبول الآخر” ويطالبون باستخدام عبارة “قبول الاختلاف”.
ومع ذلك فإن كلمة “الاختلاف” ليست بريئة تماما، فهى أيضا تخضع للسياقات الثقافية وللتقديرات الأيديولوجية والعقائدية التى تجعلنا نفهم الاختلافات ونحددها وفق معايير متباينة. ومع ذلك، فإن الاختلاف، سواء قبلناه أو لم نقبله هو واقع لا فكاك منه، فالاختلاف انعكاس للتنوع. ولعل السؤال: هل المفروض أن نقبل الاختلاف وكل اختلاف؟ أتصور أن التعبير الأصح هو “احترام الاختلاف”، وليس قبوله بالضرورة. فالقبول يعنى الرضا عن هذا الاختلاف وهذه مرتبة راقية قد لا نضمن حدوثها دائما، كما لا يمكننا الحكم عليها، أى أن نحكم على مدى ومستوى القبول من عدمه على المستوى الشخصى والنفسى. ولكن الاحترام يمكن قياسه بمعايير قانونية واجتماعية مثل عدم التدخل فى شئون الآخرين وعدم الإساءة إلى المختلف عنا، أى أننا نحترم قواعد الاختلاف والتى يجب أن تكون مصانة قانونيا ومقرة اجتماعيا. وهكذا يمكن أن يتعايش المختلفون حتى بدون شرط الرضا عن كل حالات الاختلاف. وهذا ما أقوله دائما: ليس مطلوبا منا أن نحب بعضنا بالضرورة، ولكن واجب علينا أن نحترم بعضا البعض.