احتفلنا منذ أسبوعين بذكرى حدث تاريخي يحسم نظرة كل مؤمن إلى الحياة والموت بشكل لا مثيل له في كل الفلسفات والديانات التي ظهرت في تاريخ البشر، عندما ينظر إليهما من خلاله: إنه موت وقيامة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. وكالعادة، يتجدد في مثل هذا الموسم الجدل حول الشهادة التاريخية للرسل الذين عايشوا الحدث، وشهدوا للعالم عن حقيقة موت وقيامة المسيح. والغريب أن هذا الجدل في مجمله لا يعطي اهتمامًا كبيرًا لحقيقة هامة أخرى، وهي أن أولئك الذين شهدوا لحقيقة القيامة في فجر المسيحية قد ماتوا جميعًا من أجل إيمانهم بالرب المُقام.. تُرى أي منطق أقنعهم بأن يضحوا بحياتهم بشجاعة وثبات من أجل ما يدعي البعض أنه كان خدعة أو وهمًا؟ يقول »تشارلز كولسن«، المفكر المسيحي الذي رحل عن عالمنا منذ سنوات قليلة: ”بينما يمكن أن يموت البعض من أجل كذبة يعتقدون أنها حقيقة، لا يجرؤ أحد على الإطلاق أن يموت من أجل اعتقاد يعرف أنه كذبة!“
ليس كل مَنْ يموت من أجل معتقداته الدينية “شهيدًا” حسب المفهوم المسيحي.. فأصل الكلمة في اللغة اليونانية لا يرتبط بمجرد الموت قتلا، بل بموت مَنْ يقدم شهادة عن إيمانه تكلفه حياته. منذ عصر الاضطهاد الروماني للمسيحيين الأوائل، وحتى يومنا هذا، لا تعطي الكنيسة لقب شهيد إلا للذين يُقتلون من أجل شهادتهم بأن المسيح رب.. لكن ما هو مفهوم المتطرفين الدينيين، الذين على استعداد أن يموتوا من أجل معتقداتهم سواء في شرقنا العربي، أو في بلاد الشرق الأقصى حيث تسود الهندوسية والبوذية، عن الحياة بعد الموت؟ وماذا يمكن أن نقول عن الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم فيقتلون الأبرياء بلا تمييز، ظنًا منهم أن هذه شهادة تعلن إيمانهم بالله؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة تواجهها بعض التحديات الفكرية والعقائدية.. لكني في نور قيامة المسيح مخلصنا أرى اختلافًا جوهريًا بين صور الاستشهاد المختلفة مقارنة بشهداء الإيمان المسيحي التاريخيين والمعاصرين.
الإرهابي الانتحاري لا يموت بسبب إيمانه فقط، لكنه يَقتل من أجل إيمانه، ويموت بينما يفعل هذا.. الاستعداد للموت في هذه الحالة وسيلة حرب يقتل بها الشخص مَنْ يعتبرهم أعداءً لمجرد أنهم لا يتفقون معه في العقيدة. على الخلاف من ذلك، فالاستعداد للاستشهاد يختلف جذريًا في نوعيته ودوافعه بحسب الفكر المسيحي.. فشهداء المسيحية لم يموتوا وهم يشعرون بالرضا والنشوة لأن موتهم حصد حياة آخرين من أعدائهم؛ بل تحملوا التعذيب والإهانة، وقبلوا الموت من أجل إيمانهم بالمسيح الحي الذي بقيامته أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود. من جانب آخر، يجب التمييز بين موت تلاميذ الديانات الشرقية، ليس بواسطة القتل بل بسبب التفاني في تحقيق ممارسات دينية للوصول لخلاص النفس، وموت المسيحي الذي يضحي بحياته من أجل الشهادة للمسيح.. هنا أيضًا اختلاف جذري بين الموتين. بينما لم ينكر شهداء الكنيسة مسيحهم مقابل إنقاذ حياتهم، فإن الموت في تلك العبادات ليس من أجل الشهادة لحقيقة ما، بل يُنظر إليه في حد ذاته كأحد طرق الخلاص التي يهرب بواسطتها الإنسان من سجن جسده الأرضي.
على العكس من هذا وذاك، الرجاء المسيحي للحياة في المستقبل مؤسس على حقيقة ثابتة في الماضي، ألا وهي قيامة المسيح. عندما واجه شهداؤنا الموت لم يكن رجاؤهم التخلص من شعور بالفراغ الداخلي لم يملأه فهمهم الخاطئ للدين، أو الهروب من حرمان مادي مُلح يصعب تحقيقه على الأرض غُسلت عقولهم بوهم وفرته بعد الموت.. لا، لم يكن لمثل هذه الأمور أي مكان في تفكيرهم؛ بل قبلوا الموت متمسكين بإيمانهم بأن الذي أقام يسوع المسيح من الموت سيقيمهم هم أيضًا لحياة أبدية معه.. »إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم« (١كورنثوس ١٥: ١٧).
بدون قيامة المسيح لا معنى للاستشهاد من أجل الإيمان والمعتقد.. الموت بالنسبة لشهدائنا كان أولاً وأخيرًا شهادة للحقيقة التي أعطتهم الشجاعةوالثبات.. الحقيقة أن القبر فارغ، ويسوع المسيح قد قام. يقول القديس أغسطينوس، بعد أن توقف اضطهاد الرومان للكنيسة في أيامه: ”نحن لا يجب أن نتمنى اختبار ما عاناه الشهداء من آلام الاضطهاد، لكن العالم من خلال تجاربه وإغراءاته يتيح لنا وفرة من الفرص التي يمكن فيها أن نشهد بثبات عن المسيح.. نحن لازلنا نحارب ضد الخطية والموت، والشهادة الأمينة للمسيح في وسط هذا الصراع نربح بها المجازاة التي ينالها الشهداء. عيد القيامة ليس تاريخًا مسجلاً في التقويم السنوي للأيام.. إنه تاج المجد الذي لا يبلى في انتظارنا في قيامة الأموات!“ ويقول الرسول بولس: «فأعرف المسيح، وأعرف القوة التي تجلت في قيامته، وأشاركه في آلامه، وأتشبه به في موته، على رجاء قيامتي من بين الأموات.» (فيلبي ٣ : ١٠ – ١١ الترجمة العربية المشتركة).. تُرى ماذا يمكن أن يحدث في حياتنا كأفراد وككنيسة إذا استطعنا أن نحول احتفالنا بالقيامة لفرصة نشهد فيها بحياتنا للعالم من حولنا عن إيماننا بقيامة المسيح، بينما تكون تحيتنا في هذه الأيام: المسيح قام.. بالحقيقة قام؟