قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها727
عجيب أمر منطقتنا العربية -والعالم الثالث الذي تنتمي إليه-فقد برعت بامتياز في تحطيم كل النظريات السياسية والاقتصادية التي ظهرت لتبشر الشعوب بالحرية والعدالة وتداول السلطة وتوزيع الثروة والرفاهية والسعادة… قالوا لنا إن الحكم الملكي يأتي بفئة تسمو علي شعبها وتتسيد عليه وتستأثر بثرواته وتحتكر السلطة وتتوارثها جيلا بعد جيل بينما الحكم الجمهوري هو حكم الشعب للشعب يأتي بحاكم منتخب من الشعب يشعر بآلامه وآماله ويعمل من أجل إسعاده وما يلبث أن يترك منصبه ليخلفه غيره عن طريق صندوق الانتخاب… قالوا لنا إن الحكم الملكي لايعرف الديموقراطية وينزع إلي التسلط وفرض ولايته علي رعيته التي يكفيها أنها تعيش في مملكته وتسبح بحمده, بينما الحكم الجمهوري يرسخ أن الشعب يعيش علي أرضه ويتسيد علي وطنه ويمتلك ثرواته وله الكلمة العليا في كل التشريعات والقوانين والقرارات التي تنظم حياته ومجتمعه… قالوا لنا إن الحكم الملكي يقترن بديمومة الملك والسلطة, بينما الحكم الجمهوري يقترن بزوال وتداول السلطة… قالوا لنا إن النظام الرأسمالي يفتح الباب علي مصراعيه لتكريس المصلحة الفردية علي حساب المصلحة العامة ويسمح بخلق أباطرة أثرياء يتحكمون في مصائر الشعب العامل ويزداد في ظله الأثرياء ثراء والفقراء فقرا وبؤسا,بينما النظام الاشتراكي يضع الحدود العادلة لمنع توحش رأس المال ويضمن مشاركة الشعب العامل في الملكية وصناعة القرار والتمتع بكامل الحقوق في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي .
هذه مجرد عينة من النظريات السياسية والاقتصادية التي تعلمناها وآمنا بها, لكن هل تلك النظريات ثبت أنها حية وفعالة وناجحة في منطقتنا العربية؟…إن النظرة إلي ما ذاقته شعوب هذه المنطقة عبر قرن من الزمان- وخاصة في العقدين الأخيرين- تدحض جميع النظريات وتهدم كل ما تعلمناه وتثبت أن أي نظام سياسي أو اقتصادي غير منزه عن أن يفسد أو يضل الطريق أو يتسلط علي شعبه ما لم توضع له الحدود الكفيلة بإخضاعه للرقابة والمساءلة والتغيير, ويأتي علي رأس هذه الحدود كل ما يضمن تداول السلطة سلميا ويحرم ديمومتها قهرا.
فليس خافيا علي شعوبنا أن واقعنا يشهد بأن الأنظمة الملكية الباقية في منطقتنا تتسم بالاستقرار وتعمل من أجل تقدم واستقرار ورفاهية شعوبها. صحيح أن في ظل هذه الأنظمة الملكية تتفاوت درجات ترسيخ الديموقراطية لكن مستويات المعيشة والخدمات وخطط التنمية ومؤشرات الاستقرار والتطور ترتفع وتتجه إلي الأفضل… فماذا فعلت الأنظمة الجمهورية علي الجانب الآخر؟… إن المشهد بائس وكئيب حيث في سائر تلك الأنظمة استولت قوة مسلحة علي السلطة زاعمة الثورة علي الواقع السائد الفاسد ووعدت الشعب بفجر جديد من الإصلاح والحرية والعدالة وبعدما استقرت السلطة في يدها وامتلكت مقاليد الأمورتنكرت لكل وعودها وتذرعت بحماية الثورة لتكرس التسلط والدكتاتورية وخنق الحريات والفساد علاوة علي تصفية كل المعارضين والتخلص من المطالبين بالديموقراطية وتداول السلطة, واستمرأت المكوث في السلطة علي الدوام بمحو أي تشريع يضع حدودا زمنية قصوي للبقاء في الحكم مع إنتاج سيناريوهات زائفة لإعادة انتخابها مرات ومرات ومرات!!.
أما عن الاشتراكية وملكية الشعب لثرواته واشتراكه في إدارة موارده وتمتعه بقطف ثمار استثماراته,فسرعان ما تحول الحلم الجميل إلي كابوس مزعج ,حيث تم الاستيلاء علي الثروات والموارد والممتلكات بواسطة الزمرة الحاكمة وترك الشعب يعاني الحرمان واليأس وتدني مستوي المعيشة… وفي ظل خنق الحريات والتنكيل بالمعارضين سكتت أصوات الاحتجاج والغضب, لكن ما سكتت عنه الحناجر خوفا من البطش أخذ يعتمل في الصدور ويتراكم في النفوس التي تحولت عبر السنين إلي أوعية ضغط مملوءة بالغضب والقهر, فما لبثت أن انفجرت وتحدت كل الأغلالا التي قيدتها بها سلطة غاشمة ادعت في يوم من الأيام أنها جاءت لتكسر أغلالا وتحرر شعوبا!!!
ألا ترون أننا نعيش هذا السيناريو البغيض في منطقتنا وأنه يتكرر يوما بعد يوم؟… رأيناه في الإطاحة بصدام العراق… رأيناه في الإطاحة بزين العابدين بن علي في تونس… رأيناه في الإطاحة بقذافي ليبيا… رأيناه في الإطاحة بمبارك مصر… رأيناه في الإطاحة ببوتفليقة الجزائر..وأخيرا رأيناه في الإطاحة بالبشير في السودان… ولعل الأيام القادمة تحمل لنا حلقات أخري في هذا السيناريو طالما أن المستأثرين بالسلطة لايتعظون ولايستمدون عبرة من سابقيهم… وهذا في الحقيقة أمر عجيب جد عجيب, لأن القاسم المشترك بينهم جميعا أنهم ليسوا ملوكا لكنهم جعلوا من أنفسهم ملوكا وأعطوا لأنفسهم حقوقا إلهية أزلية في الحكم بل ورتبوا لذريتهم وراثة الحكم من بعدهم!!!
إذا كان أولو الأمر منا لم يعوا هذا الدرس… هل نعي نحن الشعوب هذا الدرس؟… درس ديمومة السلطة؟!!