بينما كانت الأفلام السينمائية تداعب خيال طفولتنا, بمصباح علاء الدين, وخاتم سليمان, وفانوس إسماعيل ياسين, لتحقق أحلامنا البسيطة آنذاك, كان هناك علي الشاطئ الآخر من يستعد لأيام قادمة يسيطر فيها علي كل أحلامنا, ويسلبنا كل أمانينا ولحظاتنا الحلوة وقصص الحب الجميلة!..
كان هناك من يستعد لقنوات تليفزيونية تخترق الحدود بدون تصريح, وشبكات إنترنت تفتح أسوار العالم, وتطبيقات لا تنتظر تصاريح من السلطات أو من موظف جالس خلف مكتب علي مقعد مكسور سعيد بهواء قادم من مروحة سقف متسخة.
أفكار لا تمر علي رقابة, ولا تخضع لمقصات أو مقاصل تمنع أو تقطع مشاهد تتناسب أو لا تناسب معايير صارت بالية ومضحكة وجزءا من تاريخ لا يذكره أحد أو يتذكره.
هي حركة التاريخ التي لم ننتبه إليها كثيرا, حركة الأرض التي كنا أقل منها سرعة, أو لم نكن نحاول اللحاق بها بتعبير أدق.
قمنا فجأة من غفلتنا لنجد أن الدنيا قد تغيرت, وأن هناك أطفالا كبروا فجأة, وأنهم ثاروا علي المصباح والخاتم والفانوس, لم تعد ترضيهم تلك الأحلام الساذجة, ولم يعد يضحكهم إسماعيل ياسين, ولم تعد تطربهم الست كما أنهم ليسوا من أجيال موسيقار الأجيال!..
لا يعرفون الصحف الورقية ولا يصادقون الكتاب ولا يعرفون فائدة لطابع البريد ولم يركبوا طائرة بتذكرة ذات أوراق ملوثة بالكربون الأحمر إذا ضاعت, ضاعت معها رحلاتهم وأحلامهم.
هم لا يحفظون أسماء البرامج التليفزيونية, ولا يعرفون مواعيد عرضها, ولا يشاهدون مسلسل الثامنة, لا يكترثون لما يسمي بنشرة أخبار التاسعة, أو أحداث 24 ساعة.
عالم آخر يتحدث ويحب ويأكل ويلعب ويراسل ويشتري ويبيع عبر جهاز صغير في كف يده, وأحيانا شريط علي معصمه وقريبا مجرد عصا بلاستيكية معلقة في رقبته..!
كل هذا ونحن لا نريد أن نقتنع بأن زمن المصابيح والخواتم والفوانيس قد مر وولي, وصار وكان, وأنه لم يعد من الأفعال حاضرا, لانزال نحاول ترقيع الثوب, رغم من أن الأثواب الممزقة صارت أغلي من المرتقة, وأن المرتقة صارت أجمل من ثيابنا المهندمة!
وقف هذا الرجل الذي لا يعرف له عمر يتابع المشهد, ليس من كبار السن, وليس من جيل الوسط وليس من هؤلاء الشباب, وبالطبع ليس طفلا, كان ينتظر وهو وصغير اللحظة التي سيجد فيها مصباح علاء الدين أو السمكة التي في داخلها خاتم سليمان, وكان لا يشك لحظة في أن إسماعيل ياسين كان يمكنه التصرف بشكل أفضل في اختيار طلباته السبعة من عفريت النبي سليمان عليه السلام, بل أنه كان يعد الطلبات كلما شاهد الفيلم ليتأكد أنها سبعة.
المشهد مؤلم تماما صراع كبير علي ماض ولي وصراخ بكلمات وعبارات لم يعد يفهمها أحد وإصرار علي استخدام نفس الطرق القديمة التقليدية, وتكوين مجموعات بنفس الأساليب البالية والصراع علي أشده للاستيلاء علي مكان يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة!
يبدو أننا مصرون علي المشي وليس الجري بينما تتسارع حركة الأرض, لا نريد أن نصدق أن الأرض تتحرك وتجري وأننا من بطء تحركنا, دارت ولحقت بنا عدة مرات, ولم تعد ترانا أن تلتفت لنا.
الأطفال الذين كبروا فجأة لا يكترثون بنا كثيرا نظموا عالمهم الخاص يعيشون فيه بعيدا عنا في انتظار رحيلنا عنهم ينتظرون أيامهم بدون مصابيح وخواتم وفوانيس أيام تنتهي فيها أوراقنا وذكرياتنا وأفلامنا وأقلامنا ومواعيدنا الثابتة كلها.
وقف يتابع المشهد الذي نحاول فيه ترقيع الحياة أملا في أن تعود كما كانت يوما, وهو يدرك أن دور المسنين ستمتلئ به وبنا قريبا, وسنبحث بين المجهول عن الفانوس القديم أو المصباح الصدئ أو الخاتم القادم من أعماق البحر, ولن يجده إلا من لم يحاول البحث عنه, وأدرك أن الماضي لا يعود وأنه لا جدوي من إصلاحه وترميمه.
افتحوا العيون وشاهدوا الحاضر جيدا تخلوا عن المقارنة لا تحكموا الحاضر بالماضي لا تحاولوا الوقوف أمام حركة الأرض, فهي تدور في اتجاه واحد فقط, ولا يمكن للأمس أن يعود وأن يحكم ويتحكم, ما كان يصلح هناك لا يصلح هنا, وما كان يصلح لهم لا يصلح لنا.
لم تعد تصلح المصابيح والفوانيس السحرية للإنارة في عصر لمبات الليد ووحدات الطاقة الشمسية, ولن تعلق الشاشات علي جدران المنازل الحديثة, كما لم يعد أحد ينادي علي عناوين الصحف في الطرقات.
وقف يصرخ ولم يستمع له أحد:
من كتبوا التاريخ لم يكتبوه لنعيد تكراره, بل كتبوه لتحذيرنا من تكراره..
د.وليد حيدر
كاتب صحفي
[email protected]