انتبهت بل ربما استيقظت من غفوتها على صوت صارخ صادر من شاب في أوائل العشرينيات من عمرة يرتدي “بنطلون جينز” قديم يبدو أنه لم ينل حقه الكاف من النظافة منذ فترة طويلة و”تشيرت” الواضح من بواقي لونه شديد البهتان أنه كان في يوما ما أحمر، قفز الشاب على الرصيف محاولا بيأس شديد بدى واضحا علي ملامح وجهه دفع “التريسكل” بقدمه اليسرى بعيدا عن طريق السيارة صارخا في الوقت نفسه ” حاسبي يا ست”، بالفطرة وقفت بقدمها على دواسة الفرامل لتمنع السيارة من الاصطدام “بالماكينة”المحملة بضائع مختلفة كلها مستوردة من الصين، بعد لحظة بدت وكأنها دهر نجحت في إيقافها قبل سنتيمترات قليلة من الاصطدام “بالتريسكل” الواقف بشكل يعيق المرور على يمين شارع رئيسي بمنطقة فيصل بالجيزة.
نزلت من السيارة جسمها ينتفض بشدة مطلقة وصلات من الاعتذار المتتالية موجهه كلامها للوجوه المجتمعة حول الشاب الجالس على الرصيف ناظرا اليها بغيظ شديد تأملت المحيطين بها لم تتبين أي من ملامحهم ولم تسمع أي كلمة رغم تحرك شفايف كل الموجودين مصدرة كلمات من المؤكد تراوحها بين “تطيب خاطر” وسب ولعن أسلافها.
الشاب وقف وركب “تريسكله” متحركا من المكان مرددا “حسب الله ونعم الوكيل ..حسب الله ونعم الوكيل” انصرف المارة عدا قليل منهم مستمرين في تأملها أحست بضيق شديد تجاههم، عادت إلى مقعد القيادة في سيارتها مازال جسمها يرتعد ثاني حادث كادت ترتكبه في أقل من ساعة، اليوم صباحا أثناء إخراجها السيارة من الجراج اصدمت بسيارة أخرى كانت تقف أمامها، حاولت القيادة والتحرك من المكان المشئوم لكن استمرار ارتعادها رعبها من فكرة حادث ثالث قد يصل بالأمور إلى مالا يحمد عقباه، نظرت حولها وجدت الجميع انصرف باستثناء شخص ينظر لها مبتسما ابتسامة بلهاء مرتديا نظارة عجيبة الشكل تحاشت النظر لعينيه أخرجت الموبايل من حقيبتها واتصلت بصديقها الكاتب، لاتعرف لماذا تظهر صورته هو بالتحديد أمامها في كل مرة تحتاج لمساعدة، ربما لانه لايمل من إخبارها كثيرا أنها تشبهه في مساعدة الناس، وأنه عادة يكون “الأذن الكبرى” يسمع مشاكل أصدقائه ومعارفه يشارك في حل مشاكلهم بالقدر المستطاع، مؤكدا لها أن زملاؤه وزميلاته في الجامعة أطلقوا عليه لقب حائط المبكى.
تعرفت عليه منذ سنوات في ندوة نظمتها الجامعة التي تَدرس في واحدة من كليات القمة بها، أصبحا من بعدها أصدقاء مقربين ربما لايتقابلا كثيرا لكن ظل كل منهما يلجأ للآخر في المواقف الصعبة أو على الاقل في الأوقات التي يحتاج أي منهما لمن يفضفض معه.
“أجيب لك حاجة تشربيها يا …” أحست ان صاحب الابتسامة البلهاء يكاد يدخل برأسه داخل السيارة فقطعت كلامه قبل أن يكمل الجملة قائلة بحدة: “من فضلك لو سمحت” فعاد للوراء وابتعد وإن ظل ينظر إليها من تحت نظارته التي لاتعرف هل هى مائلة من ناحية عينه اليمنى أم أنه عيبا خلقيا يعاني منه مثل معاناته المزمنة من لا إرادية الابتسامة البلهاء.
الابتسامة البلهاء التي كانت آخر مارأته على وجه الوحيد الذي أحبته يوم أن عرفت قرار هجرته، جمعتهما علاقة منذ سنوات جذبها صدقه ووضوحه وخفة ظله كانت مشاعره تجاهها واضحة جدا لكن لم يحاول ولو من بعيد أو بالتلميح مصارحتها بما يجيش قلبه نحوها، بادلته الشعور لكنها لم تجرؤ أبدا على المبادرة، لم تكن في يوم تلك الفتاة المبادرة ليس في الحب فقط ولكن في كل شىء تربت مثل بقية بنات الشارع والحي والمدينة على أن ليس من حقها البدء في أي شىء، وأن البنت لابد وان تكون خجوله لا تخالط الأولاد إلا في الرسميات فقط.
تركها وهاجر دون أن يتكلم ظلت لسنوات تتعجب من موقفه كانت تنظر منه طيلة السنوات التي جمعتهما كلمة واحدة ستقرر بعدها فورا وبلا تردد انتظاره العمر كله لكنه لم يحاول أبدا أن يعبر عن مشاعره وحبه لها، في تلك الفترة كانت قد انهت دراستها الجامعية بتقدير امتياز وعينت معيده في الجامعة، وهو لم يحصل على عمل مناسب أنهى دراسته الجامعية في أحدى جامعات الأقاليم وتنقل من عمل لآخر دون أن يحقق ذاته أو أي نجاح يذكر فقرر ترك مصر باحثا عن النجاح في الغرب بادئا رحلته لأوروبا من مدينة فرانكفوت الأمانية.
أطلق موبايلها صوتا خاصا برسائل “فايسبوك” حرك الصوت العالي نسبيا غريزة الفضول لدى صاحب النظارة المائلة المستمر في الوقوف في نفس مكانه منذ لحظة الحادث، فزاد حملقه عينيه من اتساعها محاولا اختراق المسافة لمعرفة محتواها، نظرت اليه بحدة فارتبك ملوحا بوجهه بعيدا عنها بحركه عنيفة أدت إلى سقوط النظارة من على وجهة فانتفض محاولا بيديه وقدميه إنقاذها من السقوط على الأرض وفي اللحظة الأخيرة نجح التقاطها بطرف أصابع يده اليمنى ضامما كل جسده في وضع أقرب إلى القرفصاء.
الرسالة كانت من صديقها الكاتب يؤكد أن الشوارع شديدة الازدحام وأنه في الطريق اليها، رسائل فايسبوك وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي كانت وسيلة التواصل مع الحبيب المهاجر ظلت تعتبره حبيبها رغم عدم اعترافه، ومع الوقت بات أمر التواصل يخضع لمزاجه بشكل أذى مشاعرها؛ فبعد كل تواصل يجمعهما تصاب بنوبة بكاء شديد بسبب المرارة الناتجة عن قسوته المفرطة لعدم تحقيقه النجاح المأمول في أكثر من دولة أوروبية مختلفة بعد تنقله من دولة لأخرى.
تحدث الرجل ذو النظارة المائلة في موبايله وهو ينظر اليها مكررا كلمة ياحبيبتي أكثر من مرة وبعد ان انتهى من المكالمة قال لها :”دي بنتي” ، البنات السبب الوحيد لاستمراها في تجربة زواج أقل ماتوصف بأنها فاشلة، كان من الطبيعي بعد هجرة الحبيب أن تفكر في الزواج ، جاء النصيب مع شاب تعرفه ضمن أصدقاء العائلة لم يكن مقنعا لكن إصراره على مطاردتها وتواجده بشكل مستمر أمامها ونجاحه في توصيل رسالة أنه يريدها ولن يتنازل عنها أثرت في قرارها؛ فقبلت الزواج سألت نفسها بعد أن أدركت حجم ما ارتكبته في حق نفسها هل مجرد إصرار الشاب على مطاردة فتاة ما كاف لقبولها الزواج منه؟
رغم وجود كثيرون في دائرة معارف العائلة إلا أنه الوحيد الذي حاول الفوز بها، وافقت عليه وانجبت طفلتين، لكن حدث الأمر الطبيعي والمتوقع بعد فترة أصاب العلاقة غير الحميمية من الأساس الفاترة منذ أول لحظة مزيدا من الفتورا، أدركت بسهولة أنه يغير من نجاحها المتتالي في عملها ؛ففي الوقت الذي كانت تسعتد لدراستها العليا كان يناضل من أجل إجبارها على ترك العمل تحت بند التفرغ لتربية البنات، التصادم بينهما مستمر وصل في أكثر من مرة لدرجة الاعتداء بدني أمام البنات نتج عنه حالة من الفرغ طاردت الصغيرتين في احلاهمها، وخرجت هى من التصادم الأخير باصابات بدنية موجعة وقرار نهائي بالانفصال النفسي وأخبرت زوجها ان ما يجمعهما فقط البنات وأن كل منهما يعيش في غرفة منفصلة.
الغريب كان استمرار الرجل ذو النظارة المائلة في وقفته أمامها دون يأس يرسل لها ابتسامته البلهاء سألت نفسها هل يدرك أنها بلهاء بشكل يثير الضحك والسخرية، فكرت ربما يكون الرجل مثلها يشعر بوحدة وصمت مزعج كالضجيح؛ فوجد في مراقبتها تسلية وحنين مفتقده في حياته، حولها بشر كثيرين من أصدقاء وأقارب ومعارف وطلاب الكل يلجأ لها يطلب رأيها في موضوعات تبدو في أحيانا كثيرة شديدة الخصوصية، لم تبخل أبدا بالنصيحة والمساعدة، لكن مايؤرقها دائما أنها لاتجد أبدا من تحكي وتشكو له، لم يكن لها مثل كل بنات حواء ملاذ وحضن وقلب يغمرها بالاحتواء فشل زوجها في دوره الأساسي تجاهها فباتت وحيدة غريبة تائهة، تغير الامر إلى حد ما بعد تعرفها على صديقها الكاتب لكن ظروف عمله وعملها تباعد بين لقائتهما.
تحرك الرجل بنظارته للخلف قليلا بشكل جعلها تراه من مرأة السيارة المجاورة لها ولاحظت عودته حاملا كرسي لاتعرف كيف حصل عليه وجلس في نفس المكان واضعا ساق فوق بتعال لا يتفق مع مكان جلوسه أو مظهره العام، واشغل سيجاره ومد يده ناحية عينه اليمنى محاولا ضبط ميل النظارة نافخا سحابة دخان كثيفة غطت وجهه وإن ظهرت ابتسامته البلهاء الكاشفة عن أسنانه الصفراء غير المنتظمة.
مشهد الرجل ذكرها بصديق الطفولة زميل المرحلتين الابتدائية والإعدادية، ظهر في حياتها مرة اخرى، طلب صداقتها على فايسبوك مذكرا إياها بنفسه قبلت الطلب تواصلا زراها في مكتبها دخن سيجارة وجلس بشكل متطابق مع المشهد الدائر أمام عينيها وإن كان الصديق وسيما وأنيقا وتظهر عليه مظاهر الثراء ملابس “سينيه” ونظارة ذهبية وثقة واضحة جدا في كل حرف يخرج من فمه.
أخبرها أنه يحبها بجنون ومامنعه عن مصارحتها أنها كانت “الألفة” بينما كان هو من أعضاء جمعية النجاح على “الحروكروك”، ذكرها أنه أرسل لها كارت بمناسبة عيد ميلادها على المنزل، أخبرته أن الكارت تسبب في مشكلة مع والدها ولم تنتهي القصة إلا بعد تدخل عمها مقنعا الوالد أن الأمر لا يعدو أكثر من “لعب عيال”، استمرت هى في التفوق والتحقت بكلية من كليات القمة بينما أهله مجموعه في الثانوية العامة لمعهد سنتين فأيقن أنها صعبة المنال وأن الوصول لها مستحيل اختفى تماما وان ظل يتابع أخبارها من بعيد، بدأ حياته العملية ونجح جدا وأصبح رجل أعمال كبير تتخطى أعماله حدود الوطن .
تركها على وعد باستمرار التواصل بعد أن صارحها إنه لم ولن يحب غيرها وأنه لم يتزوح إلا من سنوات قليلة بعد إلحاح الأهل وفقدانه الأمل في الارتباط بها، تواصلا ولكن مع الوقت مثلما ظهر اختفى مرة أخرى.
فجأة فتح صديقها الكاتب باب السيارة وجلس بجوارها قفز الرجل الجالس متابعها منذ الحادث ممسكا بالنظارة لحمايتها من السقوط على الأرض وسألها عن صديقها ” مين دا ؟ مدت يدها أخدت النظارة من على وجهه وأستعدلت الميل بحرص شديد ووضعتها على عينيه مرة قائلة : ” افتكر كدا هاتشوف أحسن ..باي ” انطلقت بالسيارة مبتعدة حاول صديقها تولي القيادة لكنها أخبرته أنها الآن لاتشعر بأي توتر، شكرته على مجيئه وسألته : أوصلك فين البيت ولا المكتب؟