تتشكل الأمم والحضارات من مؤسسات قوية، وعندما نقول دولة مؤسسات فهذا لا يعني فقط المؤسسات السياسية أو القضائية أو التنفيذية التي تشكل منظومة السلطة والحكم ولكن المؤسسات بكافة أنواعها التربوية والتعليمية والعلمية والفنية والترفيهية ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من المؤسسات المتخصصة صغرت أم كبرت. وتعني كلمة المؤسسة ذلك الكيان الوظيفي المؤسس لخدمة غرض معين، والكلمة مشتقة من الأساس أو الأصل. ومن هذه الكلمة يأتي مصطلح “المأسسة” Institutionalization، والذي يعني عملية الغرض منها التأسيس سواء إنشاء أو تطوير مؤسسات جديدة، أوإصلاح وإدماج معايير وتقاليد مؤسسية داخل كيانات قائمة بالفعل. وكلما ارتقت الأطر المؤسسية كلما تحققت الفعالية والاستدامة وارتقت المجتمعات والأمم.
ومقابل هذا المعنى الإيجابي لمصطلح “المأسسة”، نجد المعنى السلبي لمصطلح “الشخصنة”، أى جعل الأمور شخصية، وهو مصطلح متعدد الأبعاد، فقد يعني الانتقادات الشخصية، وعدم الموضوعية في الأحكام، فنقول “علينا أن نبتعد عن شخصنة الأمور”. وقد تعني الشخصنة سلوكيات ومواقف ضد “المأسسة”، أي عندما يلغى شخص أو مجموعة من الأشخاص المعايير المؤسسية لصالح الظهور والمصالح الشخصية، فتضيع الحدود الفاصلة بين الشخص والمؤسسة التي يرأسها أو يديرها. وبدون أي نوع من التجني فإن الكثير من المؤسسات، بما في ذلك مؤسساتالمجتمع المدني، التي من المفترض أنها تدعو إلى الإصلاح المؤسسي، لم تبرأ من مرض الشخصنة، بل إن بعضها قدم صورا فجة عن الشخصنة والتي باتت وكأنها أمر طبيعي وقدري. وعادة ما تفضى “الشخصنة” إلى أن تصبح المؤسسة طاردة للكفاءات ومجهضة للإبداعات، بدلا من أن تكون حاضنة ومنتجة لها.
وتعتبر “الشخصنة” ظاهرة مركبة فهي ليست مجرد نزوع فردي أو نتيجة مباشرة لقدرة أشخاص على الاحتكار والسيطرة، فهي أيضا ظاهرة لها جذورها الثقافية والاجتماعية والسياسية. ففي سياقات معينة لا تحظى المؤسسة بقيمة كبرى في الوعي العام حيث يتم تجاهل القيم والمعايير المؤسسية مع محاولات دائمة للاحتفاء بالأشخاص إما بدافع التملق أو بقناعات فعلية بأن الشخص هو المنقذ والمخلص ومحور كل شئ. وربما يعكس هذا جوهر الثقافة الأبوية التى ترتكز على المفهوم التقليدي للسلطة الأبوية داخل الأسرة، وهكذا يتم النظر إلى المؤسسة وكأنها انعكاس لحالة الأسرة بالمعنى التقليدي. وهذا النمط من التعامل المؤسسى التي تغيب فيه قواعد المساءلة والمشاركة يسفر عن أمراض مؤسسية معروفة لأن غياب التقاليد المؤسسية يفضي إلى الشللية التي تلتف حول الشخصية البارزة والمحورية، أو من ناحية أخرى، أن تصبح المؤسسة ساحة للصراع بين أفراد. وحتى عندما يكون الشخص ناجحا ويعطي قوة دفع للمؤسسة، تظل المشكلة الأكبر أن هذه المؤسسة هشة وعرضة للإنهيار إذا ما رحل الشخص أو تغيرت قناعاته وطريقة أدائه.
وعمليا فإن “الشخصنة” لا تلغي المؤسسات ولكنها تلغي المأسسة كعملية، وبالتالي فإنها تؤدي إلى جمود المؤسسة وتكلسها وربما انهيارها في نهاية الأمر. فالسؤال لا يتعلق بوجود المؤسسات وإنما بفعالياتها ومدى قدرتها أن تكون حاضنة للنبوغ والإبداع واستدامة إنتاج الكفاءات. ولا يمكن إنكار وجود نجاحات في مجتمعاتنا، ولكنها لاتزال ذات طبيعة فردية بالأساس، وهذا يعيد إنتاج المشكلة عندما يترسخ في الوعي أن النبوغ هو ظاهرة فردية. فمثلا في المؤسسات الأكاديمية قد نجد أساتذة محل تقدير يستحقون الإشادة، ولكن قلما نتحدث عن قسم معين داخل أحد الجامعات باعتباره متميزا في مجاله، وذلك على عكس المؤسسات الأكاديمية الغربية حيث تكون القيمة الأكبر للمؤسسة ويستقى المنتمين إليها قيمتهم من مكانة وجودة هذه المؤسسات.
وفي النهاية فإن الحديث عن أهمية “المأسسة لا يتوقف، ولكن الواقع يظل أسير “الشخصنة”، وهذا هو التناقض الذي نعيشه بين لغة تحتفى بالقيم المؤسسية وواقع لا يعبأ بها. والحل يتطلب إرادة ووعي بقيمة المأسسة. وعلينا أن نتذكر دائما أن النبوغ والنجاح الفردي هو نتاج واقع مؤسسي، إلا فيما ندر، وأن الأمم والحضارات ترتقي وتتماسك وتتواصل بالمؤسسات وليس الأفراد. والنظم القوية هي تلك ترتكز على مؤسسات حية وفعالة قادرة على إنتاج وإعادة إنتاج الكفاءات والنجاحات.