عندما نقارن بين المجالين العام والخاص، فإن أول ما يأتي إلى الأذهان هو مفهوم “الملكية”، أى إذا ما كان هذا المجال يخضع للملكية العامة أم أنه مملوك لشخص أو جماعة بعينها وبالتالي لا يحق لأحد دخوله إلا بموافقة مالكه أو مالكيه. ومن المعروف والمتعارف عليه أن المجال العام ملك الدولة، وغالبا ما يتم استخدام تغبير “ملك الحكومة” لأن الوعي العام لا يميز بين الدولة والحكومة. وإذا كنا نهتم بما نملكه، أى المجال الخاص، فإن الاهتمام بالمجال العام يتراجع بدرجة ملفتة. ولعل التحولات التي شهدها مجتمعنا أفضت إلى انتهاك صارخ للمجال العام وتدني الوعي والإحساس به به فصار بلا قيمة. ويمكن أن نشير سريعا إلى حالة هذا المجال وأهميته.
إذا عدنا بالزمن لنتذكر عندما كنا أطفال نلعب في الشارع سواء في الريف أو في بعض المدن، ويأتي شخص يطلب منا مغادرة المكان كنا نعترض بكل ثقة بأننا نلعب في “أرض الحكومة”. فقد كان هناك إحساس بالمجال العام والأرض بشكل عام متاحة إلا عندما تحاط بسور أو سياج يعلن نهاية الحيز العام وبداية الحيز الخاص. وفي المجتمعات الريفية والصحراوية لم تكن هذه القسمة بين العام والخاص مطروحة كما هو الحال في المدن، فالمجال عام ومفتوح دائما والحيز الخاص يقتصر على البيوت، وحتى البيوت لم تكن حيزا خاصا بالكامل، فقد كانت مقسمة ما بين الخاص والعام ارتباطا بالتقسيم الجنسي والنوعي بين مجال للرجال وآخر للنساء، وربما لازالت “المندرة” في الريف أو “الديوان” في الصعيد تعبيرا عن ذلك الجزء من المنزل الذي يحمل سمات المجال العام بوصفه حيزا رجاليا. وإجمالا فإن الوعي بالعام والخاص كان مرتبطا بالتقسيم الجنسي وربما أكثر من ارتباطه بالملكية. ولنقل أن امتلاك حقل أو مزرعة أو حديقة لم يكن يمنع أحد من الاقتراب منها، بل الاستفادة منها أحيانا، إن الأسوار وإن وجدت فهي فقط لحفظ ملكية الأرض وليس بالضرورة لمنع الناس من الدخول. وكانت الحالة الوحيدة التي ينقلب فيها المجال العام بأسره إلى مجال خاص هو وجود شخص غريب، وهنا ينشط الحس الجمعي بخصوصية المكان.
ولكن هذا المشهد ليس له وجود في المجتمعات الحضرية، وربما الريفية، في ضوء التحولات التي شهدها المجتمع. والمسألة لا تتعلق فقط بالتقلص الكمي للمجال العام، ولكن أيضا بالكيفية التي يتقلص بها، إن المعادلة بين المجالين العام والخاص لم تعد كما كانت في السابق، فالمنطق الخاص أصبح القاعدة وليس الاستثناء، بمعنى أن المجال العام ذاته أصبح حيزا بلا هوية، فلا هو عام ولا هو خاص. فمن ناحية أولى، ينغلق المجال العام بشكل متواتر إما لأسباب مادية، كأن تتقاضى الدولة رسوما على دخول الحدائق العامة، أو لدواعي أمنية. وأصبح الحيز العام مسلحا بالحواجز ولافتات ممنوع الوقوف أو ممنوع الانتظار، ليس فقط لأسباب تنظيمية، وإنما لأسباب أخرى غير منطقية. ومن ناحية أخرى، يخضع المجال العام لعمليات واسعة من الاستيلاء الرسمي وغير الرسمي وتحويله عنوة إلى ملكية خاصة جماعية أو فردية كحال الشواطئ، أو بوضع عبارة “مخصص لـ” مثل بعض الأماكن العامة التي يتم حجزها لحساب فئة أو مؤسسة، وحتى أرصفة الشوارع التي يتم الاستيلاء عليها من أصحاب المقاهي والمحلات التجارية والباعة الجائلين والسياس وحراس العمارات .. وهكذا تضيق المساحات العامة بالإهمال والاستيلاء والتعدي والتواطوء والصمت.
إن إعادة الاعتبار للمجال العام هو أحد الشروط الهامة لإعادة الاعتبار لقيمة الإنسان المواطن، فالمجال العام ليس مجرد مساحة مكانية، وإنما مساحة إنسانية للتواصل والتعايش، والمواطنة تتطلب تنمية الإحساس بوجود مجال مشترك يربط بين المواطنين. إن المجال العام هو وسيلة لإعمال قيم الحق والجمال، فهو يعمق إحساس الفرد بأن له حق في بلده، وهو أداة لنشر الجمال من خلال المساحات المفتوحة وخاصة إذا ما أضفى عليها لمسات جمالية، إنه ضد القبح الذى تنشره الأنانية الفردية والفئوية.. إن المجال العام حق.