لو تتجول في بعض أحياء القاهرة القديمة، أو الحديثة نسبياً، ستجد كثيراً من المدارس الحكومية وقد حملت اسم “نهضة مصر” أو “النهضة” بتنويعات مختلفة تدل جميعها على معاني “النهضة”، ترجع هذهِ المدارس إلى حقبة زمنية كانت فيها “نهضة مصر” هدفاً واضحاً لدى المصريين، وظل ذلك الاسم ملفتاً بالنسبة لي كثيراً حيث كنت أعتبر أن اسم “النهضة” هو اسم جاف..ولا أشعر نحوه بالميل.
سنوات كثيرة مرت، وصار ما صار في بلادنا في السنوات القليلة الماضية، والتي تركت آثاراً أطول بكثير من عدد أشهرها، وظبطت نفسي متلبسةً أكثر من مرة باستخدام لفظ أو مصطلح “النهضة” وأنا أفكر في حال بلادنا؛ فانتبهت للمعنى العميق الذي يحمله، وبأنه لفظ يليق بأوقات “الهمة” وبالبدايات التي يسعى أصحابها لأن تكون قوية، وإذا اقترن باسم مصر، تصبح الدلالة واضحة: فهو سعي محدد ينبئ بالصعود نحو القمة..وهي مكانة تليق بمصر.
“نهضة مصر” المصطلح الذي كنت أستثقله على روحي وأذني، صار هو المحبب إلى قلبي؛ أو ليس هذا ما نحن بحاجة إليه الآن؟ أخذاً في الاعتبار وجود الخلافات السياسية، والمنافسات الاقتصادية، والمشاحنات الأيدلوجية،لكن أليس من المفترض أن كل ذلك في سعيه يستهدف نهضة هذا البلد؟ برغم التيه الذي تورثه سنين الاضطرابات، ألا يليق بهذا البلد أن تصبح “نهضته” هدفاً جلياً واضحاً على قائمة أولويات أبنائه؟ أليس من المفترض أن يكون الوطن من وراء القصد أولاً وأخيراً؟
في بدايات القرن الماضي، كانت الهوية المصرية مثاراً للنقاش الساخن والممتد لفترات طويلة، لأسباب تتعلق بميلاد الدولة المصرية في العصر الحديث وانفصالها عن التاج العثماني، وميلاد معالمها بعد قرون من التبعية، كانت النقاشات قوية وعميقة ومتنوعة، ثريةً ومخلصة، نقاشات عظيمة تليق بعظمة المحروسة؛ ليست صدفةً إذن ميراثنا الثري من مطلع ذلك القرن، ألا يليق بنا الآن أن نعيد إحياء نهضتنا؟ أن ننقب عن كنوزنا المدفونة؟ أن نورث أبنائنا ما يفخرون به حين يشبون عن الطوق؟ صحيح أنه ما من تاجٍ نسعى للانفصال عنه الآن، لكننا في حاجة قوية للانفصال عن سلبيات ماضي قريب كاد أن يورثنا ضعفاً لا يليق بنا، وأعتقد أن التمسك بالهوية المصرية هو طوق نجاة حقيقي وقوي وصلب.
للتمسك بالهوية المصرية علينا أولاً أن نعيد إحياء كل ما يتعلق بها: فنون، ثقافة، صناعات، عادات، وأن نعيد إنتاجه بما يناسب العصر مترجماً لمناهج دراسية، وخطاب إعلامي، ونشاط عمل أهلي، ومنتج فني متنوع؛ سينفض ذلك التراب عن معدننا الأصيل، عن عاداتنا وتقاليدنا الحميدة، سَيُعلِم أبنائنا أن جذورهم تمتد في عمق هذهِ الأرض وفي عمق التاريخ حقاً لا مجازاً، وسينعكس ذلك بالتأكيد على نمط العلاقات الاجتماعية، على رؤية المصري/المصرية لنفسه، سنجني جميعاً وخاصةً الأجيال القادمة ثمار اعتداد المصري بنفسه، وسعيه لبناء وطن يخصه لا “وطن” يهرب إليه مفترضاً النجاة.
قد تبدو المسألة ثانوية للبعض في خضم معارك أكثر وضوحاً على السطح في هذا التوقيت من عمر مصر، لكنني أؤمن بشدة وعن صدق، أن قوتنا الحقيقية هي في ميراثنا المصري الأصيل، لنحتفي جميعاً بهويتنا المصرية – ولن أمل من تكرار ذلك، لنفتح نقاشات موسعة عن معنى الهوية المصرية، لنعيد طباعة كل الكتب التي تذخر بها المكتبة المصرية ولتكن في متناول الجميع، لنقم الندوات في مدارسنا وجامعاتنا(باختلاف أنواعها ومراحلها)، فلنجعل أبنائنا يعرفون من نحن؟ ولنمنحهم الثقة في ماضيهم، ولنطلب منهم أن يحملوا الأمانة إلى المستقبل بأدوات زمانهم.
لنختر يوماً نعلنه عيداً للهوية المصرية، ولنحيي عن عمد كل مفرداتها، لنخلق تعاوناً بين كل الكليات والأكاديميات، بين المحترفين والهواة، بين الفنانين والمهندسين والكُتاب، ولنجعله عيداً للاعتداد بالهوية، تشهد فيه الشوارع أفراحاً حقيقية لا طقوس مستوردة، نرتدي ملابسنا التقليدية المعبرة عن كل أرجاء بلادنا، ولتخرج منها تصميمات عصرية قد تملأ واجهات المحلات بدلاً من تلك الفاقدة للروح والبهجة، لتعد الموسيقى الفرعونية ولتكن “رنات” للموبايل مثلاً، لنتعرف على لهجات أنحاء المحروسة..مثلاً.
صدقوني ذلك هو الخيار الأصدق والأوقع كي لا ترث بلادنا أجيال ممسوخة.