كيف كانت المراحل التمهيدية للثورة؟
أسرار الحوار الذي دار بين المعتمد البريطاني والوفد المصري
كيف اكتسبت الثورة المحتوي الرسمي والقومي معا؟
هل كان الملك فؤاد المحرض الأساسي علي التحرك في اتجاه الثورة؟
* علي باشا شعراوي للسير وينجت:
نريد أن نكون أصدقاء للإنجليز.. صداقة الحر للحر.. لا العبد للسيد
* وزير الخارجية البريطانية:
سير وينجت يبدو ضعيفا إلي درجة مخزية
اليوم تمر الذكري المئوية لاندلاع ثورة عام 1919 الخالدة, التي كانت أولي خطوات تحقيق الاستقلال التام لمصر, وخلال ثلاث سنوات أسفرت عن صدور إعلان ما عرف باسم تصريح 28 فبراير عام 1922, ذلك التصريح الذي أعلنته بريطانيا من طرف واحد في لندن والقاهرة في هذا التاريخ, وبمقتضاه أعلنت فيه بريطانيا إنهاء الحماية البريطانية علي مصر تماما, وأن تحول مصر من سلطنة تابعة إلي مملكة, مع اعترافها بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة, وإلغاء الأحكام العرفية التي أعلنت من قبل في مصر في يوم 24 نوفمبر عام 1914, وإلي حين إبرام الاتفاقيات بين الطرفين يكون لإنجلترا التمسك ببعض التحفظات التي ظلت محتفظة بها أهمها: تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر, والحق في الدفاع عن مصر ضد أية اعتداءات أو تدخلات خارجية, وكذلك حق بريطانيا في حماية مصالحها الأجنبية الموجودة في مصر وحماية الأقليات بها, وإبقاء الوضع في السودان علي ما هو عليه, وهكذا يمكننا التأكيد بأن الحركة الوطنية تبلورت حول فكرتين أساسيتين هما: إنهاء الاحتلال البريطاني في مصر, إعلان مصر دولة مستقلة ذات سيادة.. لكن كيف بدأت أحداث تلك الثورة المجيدة التي امتدت لفترة طويلة, شهدت البلاد خلالها الكثير من الأحداث؟ في السطور التالية نستعرض كيف جاءت المراحل التمهيدية لها..
* مستقبل العلاقات المصرية الإنجليزية
في بدايات القرن العشرين عندما كانت الحرب العالمية الثانية تكاد أن توشك علي الانتهاء, كان الجميع الإنجليز والسلطان والمصريون, يفكرون في مستقبل العلاقات المصرية الإنجليزية, وقبل انتهاء الحرب بأكثر من عام شكل الإنجليز عدة لجان لوضع خطط متكاملة تكفل استمرار الاحتلال البريطاني لمصر, وفي مارس عام 1917 شكلت لجنة للنظر في النظام القضائي ومستقبله بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية. وتشكلت اللجنة من عشرة من المحامين الأجانب الذين طلبوا في تقريرهم اعتبار اللغة الإنجليزية اللغة الرسمية للأحكام, توضع بها القوانين وتصدر بها الأحكام, وتترجم إلي اللغة العربية أوالفرنسية إذا دعا الأمر إلي ذلك, وأن يجلس قاض إنجليزي إلي جانب القاضي المصري للنظر في المسائل الأهلية, وتشكلت لجنة أخري برئاسة السير وليام برونيات لوضع قانون مصر النظامي, واقترح برونيات إنشاء مجلسين أحدهما يسمي مجلس الأعيان, ويتألف من الوزراء والمستشارين وبعض الموظفين الإنجليز ممن يساوونهم في الرتبة وخمسة عشر أجنبيا آخرين ينتخبهم الأجانب, وثلاثين مصريا يجري انتخابهم وفق قواعد محددة, والمجلس الآخر يسمي مجلس النواب وليس له رأي قاطع في أي مسألة, ويجوز للحكومة أن تتخطاه بإرسال القوانين مباشرة إلي مجلس الأعيان, ثم لا تعتمد القوانين التي تصدر من هذا المجلس أو ذاك إلا بعد إقرارها في وزارة الخارجية البريطانية. وأعلن المصريون بجميع فئاتهم رفضهم القاطع لهذا المشروع المستبد, الأمر الذي دفع سلطات الاحتلال إلي إبلاغ لندن بضرورة مراجعة هذا المشروع, ثم ما لبثت لندن أن تراجعت عن المشروع عندما هاجمه حسين رشدي باشا, والتعليق الوحيد علي تفكير كهذا هو أن الإنجليز كانوا في سبات عميق ولم يكونوا قادرين علي فهم طبيعة الحركة التي تموج بها مصر وتوشك أن تنفجر بعد قليل, وانعكس سوء الفهم وعدم التقدير لحركة الجماهير المصرية علي الكثير من قراراتهم وتصرفاتهم المستقبلية. أما السلطان حسين الذي كان في نيته أن يسافر بعد انتهاء الحرب لتنظيم الحماية, كان هو أيضا في سبات عميق بعيدا عن حقيقة ما تختزنه الجموع من طموح وأماني, أما السادة كبار الملاك فكانوا هم أيضا يرتبون لبحث تنظيم الحماية. يقول سعد باشا زغلول في مذكراته الخطية: أما عدلي ورشدي فكانا يضعان مشروعات لنظام مصر لم تخرج عن الحكم الذاتي, وتوسيع الاختصاصات الجمعية التشريعية بعض الشيء, ثم أعادا طرح الموضوع في أوائل حكم عظمة السلطان الحالي (يقصد الملك فؤاد الأول) وكانا يرغبان كثيرا في السفر إلي لندن لأجل تنظيم الحماية. ويبدو أن سعد باشا لم يقدر حقيقة ما تختزن مصر وشعبها من طاقات ثورية, فكان يسعي لا لتحريك شعب بلاده للنضال, وإنما لوساطة من أمريكا لدي بريطانيا. وفي يوم 10 أكتوبر عام 1918 كتب سعد زغلول يقول: تلاقيت مع عدلي وتكلم معي في تلك المسألة, ورأينا أن الأوفق توسيط قنصل أمريكي, فاجتمعت برشدي ولطفي السيد واتفقنا علي ذلك, وفاتح رشدي هذا القنصل فلم يجد عنده استعدادا للمساعدة. لكن من حق سعد علينا أن نذكر أنه كان مدركا للموقف الشاسع بين الأغنياء وموقف جماهير الشعب, فهو لا يلبث أن يكتب بعد بضعة أيام في مذكراته. وأغلب الذين يزوروننا من الطبقات العليا والمتعلمين كانوا يوجهون إلينا أسئلة تشف عن سوء الظن وعدم الثقة, وما من أحد منهم قدم لنا مساعدة مادية أو أدبية, غير أن الطبقات الأخري نري منها انعطافا عظيما وتشجيعا شديدا بالكلام والدعوات الصالحة.
في تلك الأثناء كان مؤتمر باريس للسلام قد عقد في يوم 18 يناير عام 1919, وكان اجتماعا موسعا للحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولي قرروا فيه كيف يقسمون غنائم المنهزمين, وكيف يحددون أسس السلام القادم معهم عقب هدنة عام 1918, شاركت فيه وفود ومندوبين عن أكثر من 32 دولة وكيانا سياسيا حول العالم, وقسمت إلي52 لجنة عامة, عقدت حوالي 1646 جلسة لإعداد التقارير بمساعدة العديد من الخبراء السياسيين والاستراتيجيين الأجانب من مختلف دول العالم, ودارت المناقشات حول مواضيع شتي من أسري الحرب, إلي الكابلات تحت البحر, إلي الطيران الدولي, إلي المسئولية عن الحرب. ووقع المشاركون خلاله علي خمس معاهدات أساسية مع الدول المنهزمة (بما فيها معاهدة فرساي مع ألمانيا), وقسمت أملاك الدولة العثمانية, ومستعمرات ألمانيا خارج أوروبا, وقسمت ألمانيا نفسها, ورسمت حدود جديدة لبعض الدول وأنشئت دول لم تكن من قبل. وفرضت تعويضات علي ألمانيا للدول والأمم المتضررة من الحرب, وانتهي يوم 21 يناير عام 1921 بافتتاح الجمعية العامة لعصبة الأمم المتحدة الذي يعد من أهم قرارات المؤتمر العالمي.
* وفد مصري في مؤتمر الصلح
كان الأمير عمر طوسون أول من فكر في تأليف وفد للمطالبة بحقوق مصر في مؤتمر الصلح في باريس, والتقي بسعد زغلول باشا ليلة 9 أكتوبر عام 1918 في حفلة أقامها حسين رشدي باشا بكازينو سان إستفانو احتفالا بعيد جلوس السلطان (يقصد الملك أحمد فؤاد الأول), وذلك قبل إعلان الهدنة, فأفضي إليه الأمير بهذه الفكرة, فأقرها سعد ووافق عليها, ووعد الأمير بأن يفاتح أصدقاءه بالقاهرة في اتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذها, ولما لم يصله أي رد من سعد باشا أعاد الأمير طرح الفكرة عليه مرة ثانية يوم 23 أكتوبر عام 1918, في حفلة شاي كان السير ريجنلد وينجت قد أقامها تكريما للسلطان فؤاد بميدان الرمل في الإسكندرية, ثم التقي به غداة ذلك اليوم بالقطار الذي أقلهما إلي القاهرة, وخاطبه أيضا في هذا الصدد. ثم عاد الأمير إلي الإسكندرية, منتظرا ما ينبئه به سعد باشا من نتائج مسعاه مع أصدقائه, فلم يتلق منه جوابا أيضا. وفي يوم الهدنة الموافق 11 نوفمبر من نفس السنة, سافر الأمير إلي القاهرة والتقي بسعد هناك, فعلم منه أنه علي موعد هو وزميلاه علي شعراوي باشا وعبدالعزيز فهمي بك لمقابلة السير وينجت خلال يومين, وتحديدا في يوم 13 نوفمبر المقبل, وظهر أن سعدا أراد أن ينفذ الفكرة التي فاتحه الأمير فيها, ولكن بعيدا عن الأمير نفسه, وبدا ذلك من أنه اتفق مع سعد إبان مقابلته إياه يوم 11 نوفمبر علي عقد اجتماع يدعو إليه الأمير في قصره بحي شبرا في يوم 19 نوفمبر, وأرسل فعلا تذاكر الدعوة إلي المدعوين, ولكن الحكومة المصرية قررت منع الاجتماع, وأبلغ رشدي باشا الأمير هذا القرار. وقيل إنه اتخذه باتفاقه مع السلطان ومع سعد باشا, فلم يكن من الأمير إلا أن أرسل إلي المدعوين تذاكر بتأجيل موعد الاجتماع, وتأيدت هذه الرواية من كون الأمير تلقي في غضون ذلك رسالة من السلطان نفسه علي لسان أمين يحيي باشا بالكف عن التدخل في هذه المسألة الحساسة. وظاهر من مجمل هذه الملابسات أن فكرة تأليف الوفد صدرت أول ما صدرت عن الأمير عمر طوسون, وتلقاها عنه سعد باشا وانفرد بها لكي لا تكون الرئاسة للأمير إذا ظل مشتركا في تنفيذها. وقد يكون ما عرف عن الأمير طوسون من الجفاء بينه وبين الإنجليز من العوامل التي أقصته عن المشاركة في ذلك الوفد الرسمي. يقول الأمير عمر طوسون إنه صاحب فكرة إرسال وفد مصري إلي مؤتمر الصلح, تلك الفكرة التي كانت سببا لتفجر الثورة, ودون هذا في مذكراته الخطية المودعة في دار الوثائق التاريخية عن مشاركته في الحركة الوطنية المصرية خلال عشر سنوات في الفترة التي سبقت اندلاع ثورة عام 1919 وما بعد صدور تصريح 22 فبراير عام 1921, فهو يقول: إن فكرة إرسال وفد رسمي للمطالبة بحقوق مصر في مؤتمر الصلح, قد خطرت ببالنا بعدما صرح الدكتور ويلسون رئيس جمهورية الولايات المتحدة بمبادئه الأربعة عشر المشهورة في 8 يناير عام 1918, وقد دفعنا ذلك في أول الأمر للتكلم مع المرحوم سعد زغلول باشا, لشخصيته البارزة في الهيئة الاجتماعية وفي الجمعية التشريعية فاستصوبنا هذا الرأي. وبعد ذلك لم يبلغنا خبر من سعد باشا, ولكن سعيد باشا أبلغنا أنه سمع أن سعد باشا ساع في المشروع واقترح علينا الحضور إلي القاهرة لمقابلته, وكان قد بلغنا خبر بأن سعد باشا يريد الانفراد بالمسألة.. ويري بعض المؤرخين أن فكرة إرسال وفد مصري إلي مؤتمر الصلح كانت تراود الحميع تقريبا, وولدت أساسا في صفوف الأعضاء البارزين في حزب الأمة القديم, وكان من أكثر هؤلاء الأعضاء انشغالا بهذه الفكرة كل من: أحمد لطفي السيد, وسعد زغلول باشا, ومحمد محمود باشا, وعلي شعراوي باشا, وعبدالعزيز فهمي بك. ويؤكد البعض أن السلطان فؤاد كان أيضا مؤيدا لهذه الفكرة إذ يقرر: كان يكمن خلف فكرة إرسال هذا الوفد تأييد خفي من الملك فؤاد وحسين رشدي باشا رئيس الوزراء, وأيدها أيضا الأمير عمر طوسون, وعدلي يكن وزير المعارف, ربما بهدف تحسين صورتهم أمام الجماهير بعد تورطهم في قبول الحماية, وربما لاعتقادهم أن نار الاستقلال قد أصبحت يانعة وسهلة المنال.. لكن البعض تجاوز حدود المبالغة المقبولة, إذ قرر أن الملك فؤاد كان المحرض الأساسي علي التحرك في اتجاه الثورة. والحقيقة أن منافسة شديدة كانت تجري بين الملك فؤاد والأمير عمر طوسون علي لعب دور رئيسي في المطالبة بعملية الاستقلال, سعيا وراء اكتساب نفوذ سياسي يمكن استثماره لكسب شيء ما من الإنجليز. وفيما كانت المشاورات دائرة لتشكيل وفد يضم سعد باشا وقيادات من حزب الأمة القديم بدعم من الملك وحسين رشدي وعدلي يكن, كان الأمير عمر طوسون يسعي لتشكيل وفد آخر يضم محمد سعيد باشا وإسماعيل صدقي وعددا آخر من قيادات الحزب الوطني, لكن سعد باشا قاوم بشدة أي دور للأمير عمر طوسون,لأن هذا سوف يوحي أن الحركة تستند إلي العائلة المالكة وليس إلي الشعب, وكان سعد حريصا علي أن يمثل الوفد كل التيارات السياسية.
تشكيل الوفد المصري
ففي يوم 14 نوفمبر أي بعد يوم واحد من مقابلة الزعماء الثلاثة للمندوب السامي, أعلن تشكيل الوفد وأطلقوا علي أنفسهم اسم الوفد المصري الذي ضم سعد زغلول, وعلي شعراوي, وعبدالعزيز فهمي, ومحمد محمود, وأحمد لطفي السيد, ومكرم عبيد باشا, وفخر الدين المفتش, وعبداللطيف المكباتي, ومحمد علي علوبة, والأخيرين كانا قريبين من الحزب الوطني, أما الآخرون فكانوا من قيادات حزب الأمة القديم, لكن سعد زغلول قرر أن يعزز تمثيل القوي الأخري, فضم مصطفي النحاس باشا, وكان من رجال الحزب الوطني, المهم استقر الأمر علي استبعاد الأمير طوسون, وكان هذا أيضا رأي السلطان فؤاد الذي كان يخشي من منافسة عمر طوسون له, ثم بدأت الخطوة الأولي حين طلب سعد زغلول من قيادة الجيش الإنجليزي جوازا له ولأعضاء الوفد المصري بالسفر إلي إنجلترا كما اتفقوا, فردت عليه السلطة في اليوم التالي بأنه سينظر في طلبه في أقرب وقت ممكن, ولما أبطأت في الرد أرسل إليها ثانية خلال أسبوع يستعجل النظر في طلبه, فجاءه منها الرد في اليوم التالي بأن: قد عرضت صعوبات تمنع من إجابته إلي طلبه في الوقت الحاضر, ومتي زالت تلك الصعوبات ستبادر بإعطائه وصحبه الجوازات التي يطلبونها لسفرهم. فلما وصل هذا الرد, وكان يدل علي نية السلطات البريطانية في الرفض غير المعلن, بادر سعد باشا بإرسال الخطاب الآتي تعريبة إلي المندوب السامي البريطاني.. قال: وبعد أن تلقت دار الحماية تعليمات لندن, أرسل السير كولونيل سايمز نائب السكرتير الخاص للمندوب السامي البريطاني خطابا إلي سعد باشا برفض الترخيص بالسفر, وبدعوته إلي تقديم مقترحاته عن نظام الحكم في مصر إلي المندوب السامي نفسه, علي ألا تخرج عن الخطة التي رسمتها الحكومة البريطانية من قبل, أي في دائرة الحماية, ويكتب سعد زغلول في مذكراته: وخطر ببالنا أن نزور السير رونالد وينجت ونعلمه ضمنا بسفرنا, ونسأله عن نية دولته إزاء مصر, فحدد لنا يوم الأربعاء المقبل الموافق13 منه (يقصد يوم 13 نوفمبر عام 1918) فذهبت مع علي باشا شعراوي وعبدالعزيز فهمي باشا وجري لنا معه حديث طويل..
والحقيقة أن دار المندوب السامي كانت بدورها تتابع التحركات حول موضوع إرسال وفد مصري إلي باريس للمشاركة في مؤتمر الصلح باهتمام بالغ, وقبل زيارة الوفد للسير وينجت بأربعة أيام كتب وينجت إلي حكومته برقية عاجلة تحمل رقم 186090, حول موضوع مستقبل مصر, جاء فيها الآتي: ليس بمستبعد أن يكون لمبدأ حق تقرير المصير أثره علي الوطنيين المصريين, وسوف يرغبون في تطبيق المبدأ عليهم تحقيقا لآمال الوطنيين الفلاحين يطلب توجيهات حكومة جلالة الملك. كتبت بتاريخ 9 نوفمبر عام 1918 وخلال 48 ساعة أي قبل المقابلة بيومين تلقي وينجت الرد التالي: برقية رقم 1368 بتاريخ 11 نوفمبر عام 1918, إلي السير وينجت بالإشارة إلي برقيتكم الخاصة بتاريخ 8 نوفمبر الماضي, نحن لا علم لنا بوجود المطالب الوطنية التي أشرت إليها, ولا بالطريقة التي ستقدم بها, ولابد قبل إدخال أي تعديل علي النظام القائم في مصر من بحث عميق, وأخذ رأي المسئولين الإنجليز والمصريين, وأود أن أؤكد لك أننا سوف لا نتخذ قرارا في هذا الشأن إلا بعد التشاور معك.. إمضاء السير رونالد جراهام, الوكيل المساعد لوزارة الخارجية.
* مقابلة السير وينجت لأعضاء الوفد:
هكذا يتضح لنا أن الإنجليز كانوا بعيدين تماما عن التصور الصحيح لحقيقة ما تموج به مصر من تحفز, ولطبيعة التحرك الثوري المقبل, وهو ما أكده المؤرخ الكبير أحمد شفيق باشا (السياسي المخضرم البارز) الذي لعب دورا مهما في الحياة السياسية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, وكان رئيس الديوان الخديوي ووكيل الجامعة المصرية الأهلية) وعلي أية حال وفي ضوء التعليمات التي تلقاها السير وينجت من حكومته, استقبل سعد زغلول وصاحبيه, ووقع الاختيار عليهم لأنهم كانوا أول من اشترك في الوفد من أعضاء الجمعية التشريعية, وأمامنا روايات عديدة للحوار الذي جري في هذا اللقاء, قد تختلف عن بعضها البعض في عدة ألفاظ, أو ترتيب وقائع اللقاء, لكنها متقاربة بحيث تصلح أي منها كمادة صالحة للفحص التاريخي, ولنعتمد هنا علي رواية العقاد, أقرب مؤرخي سعد إليه, قال السير وينجت: إن الصلح اقترب موعده, والعالم يفيق بعد غمزات الحرب التي شغلته زمنا طويلا. إن مصر سينالها خير كثير, وإن الله مع الصابرين. فرد عليه سعد قائلا: إن الحرب كانت كحريق انطفأ, ولم يبق إلا تنظيف آثاره, وإني أظن أنه لا مجال لدوام الأحكام العرفية, ولا لمراقبة الجرائد والمطبوعات, والناس ينتظرون بفروغ صبر زوال هذه المراقبة كي ينفسوا عن أنفسهم, ويخففوا عن صدورهم الضيق الذي تولاهم أكثر من أربع سنين. فوعد السير وينجت بالكتابة إلي حكومته في هذه المسألة بعد الاتفاق مع القائد العام وقال: ويجب علي المصريين أن يطمئنوا ويصبروا ويعلموا أنه متي فرغت إنجلترا من مؤتمر الصلح, فإنها تلتفت لمصر وما يلزمها, وفي كل الأحوال لا يكون الأمر إلا خيرا. فقال سعد باشا: الهدنة عقدت فعلا والمصريون لهم حق أن يكونوا قلقين علي مستقبلهم, ولا مانع يمنع من أن يعرفوا ما هو الخير الذي تريده إنجلترا لهم, فقال السير ريجنالد وينجت: يجب ألا تتعجلوا وأن تكونوا متبصرين في سلوككم, فإن جموع المصريين لا ينظرون للعواقب البعيدة, فاستفسره سعد معني كلامه قائلا: إن هذه العبارة مبهمة ولا أفهم المراد منها, ففهم السير ريجنالد أن سعد استاء لأنه اعتقد أن الكلام موجه إليه, وأراد أن يقول لا يعني المصريين مثله, وإنما يعني الرأي العام, فاستدرك قائلا: أريد أن أقول إن المصريين ليس لهم رأي بعيد النظر. فأجابه سعد بأنه لا يستطيع الموافقة علي ذلك قائلا: إنني إن وافقت عليه أنكرت صفتي, فإنني منتخب في الجمعية التشريعية عن قسمين من أقسام القاهرة وكان انتخابي بمحض إرادة الرأي العام, مع معارضة الحكومة واللورد كتشنر في انتخابي, وكذلك كان الأمر مع زميلي علي شعراوي باشا وعبدالعزيز فهمي بك, وبعد مناقشة وجيزة قال شعراوي بك إننا نريد أن نكون أصدقاء للإنجليز صداقة الحر للحر لا العبد للسيد, فصاح السير وينجت دهشا: إذن أنتم تطلبون الاستقلال؟! فقال سعد باشا: نعم ونحن أهل له, ماذا ينقصنا ليكون لنا استقلال كباقي الأمم المستقلة؟. ثم قال بعد استفاضة: متي ساعدتنا إنجلترا علي استقلالنا التام فإننا نعطيها ضمانة معقولة عن عدم تمكين أي دولة من استقلالنا, والمساس بمصلحة إنجلترا, فنعطيها ضمانة في طريقها إلي الهند وهي قناة السويس بأن تجعل لها دون غيرها حق احتلالها عند الاقتضاء, بل نحلفها علي غيرها ونقدم لها ما تستلزمه المحالفة من الجنود, وبعد حوار طويل ختم سعد الحديث قائلا: نحن نعترف الآن أن إنجلترا أقوي دولة في العالم وأوسعها حرية, وأننا نعترف لها بالأعمال الجليلة التي باشرتها في مصر, فنطلب باسم هذه المبادئ أن تجعلنا حلفاءها وأصدقاءها صداقة الحر للحر, وإننا نتكلم بهذه المطالب هنا معك بصفتك مشخصا لهذه الدولة العظيمة, وعند الاقتضاء نسافر للتكلم في شأنها مع ولاة الأمور في إنجلترا, ولا نلتجئ هنا لسواك, ولا في الخارج لغير رجال الدولة الإنجليزية, ونطلب منك بصفتك عارفا لمصر مطلعا علي أحوالها أن تساعدنا للحصول علي هذه المطالب, ولنتوقف عند هذا الحوار قليلا لنلاحظ أولا أن سعدا كان يتحدث ولأول مرة كممثل لمصر, وأن الزعامة اتخذت طابعها الرسمي والفعلي, ولنلاحظ ثانية أن هذه الزعامة كانت برغم تفوقها علي الآخرين في فهم طبيعة مطالب ومشاعر وأماني مصر, فإنها كانت لم تزل بعيدة كل البعد عن تفهم حقيقة الإرادة المصرية التي توشك أن تنفجر, لتكتسح أمام طوفانها الثوري كل الشعارات المعتدلة, والكلمات المطاطة عن صداقة الحر للحر وعن المحالفة والصداقة وتقديم العون والجنود.. إلخ.
* سعد باشا يجمع التوقيعات:
المهم أن الوفد الثلاثي خرج من عند السير وينجت ليحاول أن يستجمع المزيد من النفوذ, وأدرك سعد أن السلطات البريطانية تكتفي بالمماطلة في الرد علي طلب أعضاء الوفد المصري بالسفر إلي باريس, وتمنيهم بأن الأمر محل دراسة, وعلم أيضا أن الأعيان لا يمكن أن يكونوا سندا حقيقيا للمجابهة المقبلة, فحاول الاعتماد علي جماهير الشعب مستندا إلي خبرة الثورة العرابية في جمع التوكيلات, وبالفعل بدأت حملة واسعة لم تشهد لها البلاد مثلا من قبل في جمع التوقيعات في تفويض الوفد للسعي في تحقيق الاستقلال بالطرق السلمية المشروعة, ويمضي سعد في طريقه قدما, رغم وجود منافس خطير له علي الزعامة هو عدلي يكن, يجمع توقيعات جماهير الشعب ويستجمع معه نفوذ وتأييد الأعيان مستندا إلي دعم الجماهير, ويبدو أن سلطات الاحتلال البريطاني لم تدرك للوهلة الأولي خطورة الحركة, ولم تكن تتصور الاستجابة الشعبية الهائلة لتلك الحركة, فوصل عدد التوكيلات التي تم جمعها إلي 2 مليون توكيل في شعب لم يتعد تعداده وقتها 14 مليونا فقط. ومع اتساع هذه الحركة وانضمام ضباط الجيش والموظفين العموميين لها, ومباركة الحكومة المصرية للحركة دفعت السلطات البريطانية لتغيير موقفها, وبدأ المعتمد البريطاني يشعر بالخطر, فقرر التصدي لها وبذل محاولة لعزل سعد عن جماعة الأعيان, أو بشكل أكثر دقة عزل جماعة الأعيان عن تأثير سعد ونفوذه, وذلك في محاولة ذكية لتجريد سعد في أولي خطواته العملية من أحد مقومات زعامته, وهي قدرته علي استقطاب جماعات الأعيان لصالح حركته, كما أصدر المستر هينز المستشار الإنجليزي لوزارة الداخلية أوامره إلي جميع مديري المديريات باستخدام القوة لمنع حركة التوقيعات وبمصادرة التوكيلات, ويبرق وينجت إلي حكومته.. وقد بلغ إلي علمي أن الدعاية للاستقلال التام منتشرة في الأقاليم بواسطة منشورات موقع عليها من قبل أعضاء الجمعية التشريعية, وأن هؤلاء الأعضاء انتدبوا سعد زغلول وأعضاء حزبه ليكونوا ممثلين عنهم, وقد طلب محمد باشا سعيد وهو رئيس وزراء سابق ورجل معروف بتعاطفه مع الأتراك مقابلتي, فقابلته في الثاني والعشرين من هذا الشهر. وقال محمد سعيد إنه يفعل ما في وسعه للحيلولة دون انضمام المعتدلين إلي المتطرفين, وأنه يلقي بعض النجاح في مهمته.
إنها أولي محاولات الفرز, كبار الأعيان ذوي الميول التركية الذين كانوا يكرهون الإنجليز ويشجعون خصومهم ميلا للأتراك, بدأوا يستشعرون الخطر من لجوء زعيم الأمة إلي القاعدة الجماهيرية, فأدركوا أن اقتحام جماهير الشعب المصري ميدان المطالبة بالاستقلال التام سوف ينتهي بالقضاء علي النفوذ الإنجليزي والتركي معا, وسوف يهدد المصالح الاقتصادية والاجتماعية لكبار الأعيان, لكن سعد باشا يمضي في طريقه مستجمعا قوي الطرفين معا. الجماهير توقع له العرائض والأعيان يحاول أن يسترضيهم وأن ينال تأييدهم, وهكذا عقد اجتماع في بيته حضرته غالبية 6/5 أعضاء الجمعية التشريعية, حيث كرسوا زعامة سعد وفوضوه في السعي لتحقيق الاستقلال, وقرروا أن جميع القوانين التي استنت في غيبة الجمعية منذ إيقاف اجتماعاتها قبيل الحرب وحتي اجتماعها هذا تعتبر لاغية وغير معمول بها, وأكدت الجمعية علي حق مصر في الاستقلال التام, وأن المتحدث الوحيد باسم مصر هو سعد زغلول, وجاء رد سعد زغلول في رسالة وجهها إلي حسين رشدي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية يوم 23 نوفمبر 1923 أوردها عبدالرحمن الرافعي في مؤلفه عن ثورة 1919, قال فيها: حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء ووزير الداخلية.. أتشرف بأن أرفع لدولتكم ما يلي: لا يخفي علي دولتكم أنه علي أثر فوز مبادئ الحرية والعدل التي جاهدت بريطانيا العظمي وشركاؤها لتحقيقها, ألفت مع جماعة من وجهاء الأمة وأصحاب الرأي فيها وفدا لينوب عنها في التعبير عن رأيها في مستقبلها تطبيقا لتلك المبادئ السامية, لذلك شرعنا في جمع هذا الرأي بصيغة توكيل خاص يفوض لنا النيابة العامة عن المصريين جميعا, فأقبل الناس علي إمضاء هذا التوكيل إقبالا عظيما مع السكينة والهدوء, هذا أقل مظهر نعرفه من مظاهر الإعراب عن رأي الأمة في مصيرها, لكن اتصلت بنا وزارة الداخلية وأمرتنا بالكف عن إمضاء هذه التوكيلات, ونظرا إلي أن هذا التصرف يمنع من ظهور الرأي العام في مصر علي حقيقته, فيتعطل بذلك أجل مقصد من مقاصد بريطانيا العظمي وشركائها, وتحرم الأمة المصرية من الانتفاع بهذا المقصد الجليل, ألتمس من دولتكم باسم الحرية والعدل أن تأمروا بترك الناس وحريتهم يتمون عملهم المشروع, وإذا كانت هناك ضرورة قصوي ألجأت الحكومة علي هذا المنع, فإني أكون سعيدا لو كتبتم لي بذلك حتي نكون علي بصيرة من أمرنا, ونساعد الحكومة بما في وسعنا علي الكف عن إمضاء تلك التوكيلات, وفي انتظار الرد تفضلوا يا دولة الرئيس بقبول شكري سلفا علي تأييد مبادئ الحرية الشخصية وعظيم احترامي لشخصكم العظيم.. الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ورئيس الوفد المصري سعد زغلول.
أما عدلي فكما يصفه محمد كامل سليم سكرتير سعد زغلول, فهو رجل وثيق الصلة بالأحداث, مجرد رجل ديوان, أرستقراطي عظيم الثراء, به دم تركي أجنبي, نبت في بيئة الحكام وليس في قلبه ما يضرم الشوق إلي الحرية والاستقلال, ثقافته فرنسية ونشأته وتربيته وعاداته فرنسية, وتعلم الإنجليزية علي كبر, وكان أقدر علي الكلام بالفرنسية أضعاف قدرته علي الكلام بالعربية العامية, ولم يعرف العربية الفصحي ولم يقرأ كتابا واحدا من كتب الأدب العربي, رجل مصالح أولا وأخيرا ولا يعني بسواها ويري أن المساومة وحدها هي سر النجاح, متكبر لا يترك أي عاطفة تسيطر عليه, فهو يقلد الإنجليز في البرود, ولا يسمح لأي عاطفة أن تفوت عليه مصلحة يريدها, وعدلي ورشدي في هذا كله توأمان متفقان ومنسجمان, رجل كعدلي كان كفيلا باستحواذ أكبر قدر ممكن من رضاء السلطان والإنجليز والأعيان, وظل هذا الثالوث منذ البداية وحتي النهاية يرغبون في فرضه زعيما, لكن مصر كانت قد صنعت زعيمها الذي ترتضيه وحددت مواصفاته, ذلك الزعيم الذي استحوذ عبر تعقيدات عديدة علي صفات متداخلة ومتناقضة في الظاهر, أهلته جميعا لخوض ميدان الزعامة الرحب, وليصبح أكثر زعماء مصر الحديثة شعبية ونفوذا, ومنذ اليوم الأول عزز سعد زعامته باللجوء المباشر والحاسم إلي الجماهير, بمطالبته بتوكيلها له وما كان للجماهير أن تختار عدلي أو أيا من أمثاله, فأرادت مصر زعيما مصريا واختارت سعد, وكان سيل التوقيعات المنهمر كفيلا بإعلان إرادة مصر, سعد هو الزعيم الأوحد للثورة التي توشك أن تنفجر, وبينما كان سعد يستجمع أواصر الزعامة ليقود شعب بلاده, كان الإنجليز بعيدين تماما عن إدراك حقيقة ما يموج في صدر مصر, ويرسل السير وينجت إلي حكومته في يوم 18 نوفمبر عام 1918 برقية أخري, هذا نصها: استقبلنا ثلاثة من المصريين هم سعد باشا زغلول, وعبدالعزيز باشا فهمي, وعلي باشا شعراوي, وجميعهم كما تعرف من السياسيين ذوي الآراء المتقدمة, وجاءوا ليدعوا لبرنامج للاستقلال الذاتي التام لمصر, لا يترك لبريطانيا إلا الإشراف علي مسألة الدين العام والتسهيلات الخاصة لسفننا التي تعبر قناة السويس وهم لا يلتزمون بوسائل مصطفي كامل ومحمد فريد, وإن كانوا يتفقون مع مبادئها, إلا أنهم يحملون العرفان بالجميل والصداقة, كما أنهم أعربوا عن رغبتهم في السفر إلي لندن ليتقدموا بمطالبهم, ولقد نددت بأقسي الألفاظ الحركة الوطنية السابقة, كذلك أبديت لهم نقدا صريحا لوجهات نظرهم, وكررت لهم التحذير من أن عليهم أن يتحلوا بالصبر وأن يضعوا موضع الاعتبار الكثير من التزامات صاحبة الجلالة, والواقع أنه حتي هذا الموقف اللامبالي من الحركة الوطنية, وتجاهله التام لمطالبها, لم يعجب المسئولين في الخارجية البريطانية, وتعليقا علي برقية السير وينجت كتب رئيس القسم المختص بوزارة الخارجية البريطانية مذكرة سرية يقول فيها: ليس بين الوطنيين الثلاثة المذكورين من يستطيع أن يزعم أنه ممثل للشعب المصري, فسعد زغلول وعبدالعزيز فهمي محاميان وسجلهما معروف, وربما كانا يمثلان طبقة معينة من المثقفين, ولكن سعد زغلول قد حط من شأن نفسه كثيرا, وقد أدهشني أن أري هذين الرجلين, فهو من أصحاب الأراضي الواسعة في مديرية المنيا, وهو عضو في الجمعية التشريعية ولكنه عارض كل اقتراح للإصلاح كضريبة الدخل, أورسوم التركات, أو القيود الخاصة بزواج الأحداث. وهو متعصب ولا يتكلم إلا العربية وغير محبوب لدي الفلاحين, وأنه لمن المؤسف أن يلقي هؤلاء المصريون الثلاثة أي تشجيع من السلطان, وكذلك مما يؤسفني أن سير وينجت لم ينبذ هؤلاء الوطنيين بطريقة أشد حزما من الطريقة التي استخدمها, وأنه لمن غير المناسب أن يحضر هؤلاء المصريون إلي هنا في الوقت الحاضر, وأخذت وزارة الخارجية البريطانية بوجهة النظر هذه, وأرسلت إلي المندوب السامي البرطاني في مصر غاضبة الرسالة التالية: لا يمكن أن نخفي أن تقدم أي من الزعماء المصريين المسئولين بمثل هذه المطالب المتطرفة قد أثار شعورا بالاستياء هنا, وكما تعرف فإن المرحلة التي يمكن فيها تحقيق الحكم الذاتي لم تحل بعد, وأن حكومة جلالته لا تنوي التخلي عن مسئوليتها عن النظام والحكم في مصر. ليست هناك غاية مفيدة يمكن أن تتحقق بالسماح للزعماء المصريين الوطنيين بالحضور إلي لندن, وتقديم مطالب غير معقولة لا يمكن قبولها, ثم عادت الخارجية البريطانية لتحذر السير وينجت في برقية أخري عاجلة جاء فيها ما يلي: ألاحظ أن الزعماء المتطرفين يستغلون استقبالك لهم في دار الحماية, وهو عمل جانبه التوفيق, وأنك بطبيعة الحال ستوضح بشكل كامل أنك تنظر إلي أعمال الإثارة هذه وإلي جميع من يشتركون فيها نظرة عدم الرضا, أن زعماء الحركة ليس لهم وزن كبير, ولكن الحركة يمكن أن تصبح ببساطة حركة خبيثة, بل يمكن أن تتسبب في فتنة إذا ما سمح لها بأن تمضي دون أن تكبح, وبخط يده علق وزير الخارجية البريطانية علي البرقية قائلا: إن سير وينجت يبدو ضعيفا إلي درجة مخزية.
* نص قانون الوفد المصري:
وبينما الصراع يجري بين الخارجية البريطانية المتشددة من ناحية ومعتمدها الضعيف في القاهرة من ناحية أخري, كان سعد باشا زغلول يسير قدما في طريق الزعامة وإكسابها المحتوي الرسمي والقومي معا, وكانت خطة سعد تتلخص في جمع توكيلات من الجماهير ليستخدمها في تزعم حركة من الأعيان. وعندما تألف الوفد المصري نص في المادة الأولي لقانونه: أنه مكون من حضرات سعد زغلول باشا, وعلي شعراوي باشا, وعبدالعزيز فهمي بك, محمد علي بك, عبدالله المكباتي بك, محمد محمود باشا, وأحمد لطفي السيد بك, وإسماعيل صدقي باشا, وسينوت حنا بك, وحمد الباسل باشا, جورج خياط بك, محمود أبوالنصر بك, مصطفي النحاس بك, والدكتور حافظ عفيفي بك. وطبقا لما جاء في المادة الثانية أن مهمة هذا الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا في استقلال مصر استقلالا تاما, وجاء في المادة الثالثة أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون بها رأسا أو بواسطة مندوبيهم بالهيئات النيابية. كما نصت المادة الخامسة منه علي أنه لا يسوغ للوفد أن يتصرف في المهمة التي اتندب لها, فليس للوفد ولا لأحد من أعضائه أن يخرج في طلباته عن حدود الوكالة التي يستمد منها قوته, وهي استقلال مصر استقلالا تاما وما يتبع ذلك من التفاصيل.. ولنا عدة ملاحظات علي هذا القانون, أهمها أن الوفد كله كان مشكلا من باشاوات وبكوات, وأكثريتهم العظمي من الإقطاعيين, وتشكلت لجنة أخري مركزية مكونة من 43 عضوا, كان عدد كبار الملاك فيها 36 فردا أي بنسبة 83.31%, وثانيا نلاحظ أن سعد باشا كان قد وازن نفوذ كبار الملاك بنصه علي أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر, وحدد مهمتهم بالسعي لاستقلال مصر استقلالا تاما, وجردهم من أي حق في المساومة علي هذا الهدف, وبهذه التركيبة خاض سعد المعركة, وصمم أن يرفع صوته منددا بالحماية ومطالبا بسفر الوفد لعرض القضية علي مؤتمر الصلح, لكن السلطات البريطانية رفضت وبدأ سعد في المقاومة, لكننا نلاحظ أن هذه المقاومة علي الرغم من أهميتها, إلا أنها لم تخرج عن كونها مجرد مقاومة مكتبية تشمل بيانات وخطبا وبرقيات ورسائل ومحاضرات, ولعله من قبيل المصادفة أن سعد الذي وجه في هذه الفترة بالذات عشرات البرقيات إلي ويلسن والمعتمدين الأجانب, ووجه عدة نداءات أخري إلي الأجانب والصحف الأجنبية لم يوجه نداء واحدا في هذه الفترة إلي شعب بلاده, لكن ذلك لا يقلل من أهمية إصرار سعد علي رفع صوته في مجابهة الاحتلال, ووجه سعد ثلاث برقيات إلي الرئيس الأمريكي ويلسن قال في الأولي منها الآتي: إن مصر لم تقبل مطلقا الحماية التي ليست إلا عملا من الأعمال الحربية, والتي مع كونها مناقضة لآمالنا في الاستقلال, فهي مناقضة أيضا للحقوق التي كسبناها من تركيا من زمان بعيد. والجدير بالذكر أن ويلسن لم يوجه إلي سعد أي رد علي البرقيات الثلاث, وإلي الأجانب وجه سعد نداء يقول فيه: نحن نبغي أن نستقل بشئون بلادنا في شكل حكومة دستورية حتي تصلح من حالتنا الاجتماعية ما يفسده عادة حكم الأجنبي عمدا ومن غير عمد, وينبغي أن نظل كاسبين ثقة الأجانب نسهل لهم ما يزاولونه من الأعمال التجارية والصناعية في بلادنا, ونرعي ما لهم من الامتيازات خير رعاية, ووجه برقية إلي كليمنصو رئيس مؤتمر السلام جاء فيها: مهما يكن من الاتفاق المزعوم حصوله علي المسألة المصرية, فإن الحكم في مصيرنا من غير أن تسمع أقوالنا مناقض لما اتفق عليه جميع الحلفاء, باسم الإنسانية التي تأبي أن تكره الأمم علي أن تنتقل من يد إلي يد أخري, كما تنتقل ملكية السلع, نناديك من وراء البحر أن لا تتخذ سكوتنا الإكراهي الذي هو النتيجة الطبيعية لحبسنا في حدود بلادنا دليلا علي رضانا بسيادة الغير علينا, وأن لا تسمح بالحكم في مصيرنا من غير أن تسمع أقوالنا.
* سعد باشا في جزيرة مالطة:
وفي يوم 13 يناير عام 1919 أقام حمد الباسل حفل شاي في بيته حضره عدد كبير من الأعيان, وألقي سعد خطابا هاجم فيه الاحتلال والحماية فقال: إننا أمام القانون الإنساني أحرار من كل حكم أجنبي, فلا ينقصنا إلا أن يعترف مؤتمر السلام بهذا الاستقلال, وخلال محاضرة لجمعية الاقتصاد والإحصاء والتشريع طلب سعد التعليق علي المحاضرة, فإذا به يخرج عن الموضوع تماما منتهزا الفرصة ليقول: أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية, فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا, وتحت ضغط الأحداث طلب رشدي باشا رئيس الوزراء السفر إلي مؤتمر الصلح, ولما رفضت السلطات البريطانية استقال, ثم سمح له بالسفر فأصر علي أن يسافر الوفد معه, فرفض الإنجليز فصمم علي استقالته. وانتهز سعد هذه الفرقة التي حدثت في صفوف الأعداء ليوجه ضربة جديدة فأرسل عريضة إلي السلطان فؤاد خاطب فيها السلطان بلهجة عنيفة, وحذره من أن يكون قبوله للعرش في ظل الحماية من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم, ثم يحذره مرة ثانية من مستشاريه لم يلتفتوا إلي أن يطلبوا منه أن يكون حريصا علي نيل مصر لاسقلالها المشروع, ويمضي سعد متسائلا كيف فات مستشاريكم أن استقالة رشدي لا تسمح لرجل مصري ذي كرامة وطنية أن يخلفه في مركزه؟ كيف فاتهم أن وزارة تؤلف علي برنامج مضاد لمشيئة الشعب مقضي عليها بالفشل؟! وعقب هذه الرسالة أبرق المعتمد البريطاني يطلب الإذن باعتقال سعد ونفيه. فجاء من لندن الرد السريع بالقبول وكان سعد يدرك ذلك, ويعلم أن الإنجليز ضاقوا به وبتحركاته, وأخذ في الأيام الأخيرة يرد لابد من قارعة, ولم يكن يخشي ذلك بل كان يتمناه فكان المخرج الوحيد أمامه, فأرسل كل البرقيات والنداءات التي يمكن أن يرسلها, والتوجه إلي عملية تحريك الجماهير مسألة غير واردة لدي الكثيرين, والالتزام الصريح بالسعي بالوسائل السلمية المشروعة, والقيادة كلها من الأعيان الذين يرتعدون من أي حركة جماهيرية, فماذا بقي أمام الزعيم سوي الاعتقال كمخرج وربما كسبيل للبحث عن أساليب جديدة للعمل, وكان سعد يتمني ذلك, بل لعل برقيته إلي السلطان كانت تستهدف تحقيق هذه الأمنية, وفي مساء اليوم التالي لإرسال البرقية قال لعضو من أعضاء الوفد إن الجماعة لم يأتوا بعد لاعتقالنا, ثم قال هذا ليس بنافع, إنهم إما أن يدعونا نسافر أو يقبضوا علينا وإلا فهم يتركونا نموت في مواضعنا, بالتالي لم يعد أمام سعد طريق آخر إما السفر أو الاعتقال أو الموت لكنه لم يفكر في ثورة شعبية ولا تخيلها, تلك هي الحقيقة التي يتعين التركيز عليها, فلو أنه أحس بإمكانات ثورة عارمة كتلك التي وقعت بعد 24 ساعة فقط, لما تمني الاعتقال كمخرج من ورطة زعيم محاصر لا يتخيل أن شعبه يمكنه أن يتحرك ولو أقل حركة, ولكن مصر كانت هكذا تختزن ثورتها دوما في حرص, وتنميها في دأب, ولا تفصح عن نواياها مطلقا وتبدو حتي اللحظات الأخيرة وكأن الخمول يخيم عليها إلي الأبد, ثم فجأة يتفجر الإعصار الثوري بصورة لم يتوقعها أحد, وحقق الإنجليز لسعد ما تمناه واعتقلوه. ففي عصر يوم 8 مارس عام 1919 ألقت السلطات البريطانية القبض علي سعد زغلول باشا, ومحمد محمود باشا, وإسماعيل صدقي باشا, وحمد الباسل باشا. وتم احتجازهم في ثكنة الجنود في قصر النيل, في تمام الساعة الحادية عشرة من صبيحة اليوم التالي تم نقلهم عبر القطار إلي مدينة بور سعيد, ومن هناك أقلتهم الباخرة المتجهة إلي مالطة لتنفيذ قرار بالنفي.
* اندلاع الثورة:
في نفس اليوم 9 مارس, بدأت الثورة في شكلها السلمي, حيث قام طلبة كلية الحقوق بالإضراب عن الدراسة, وسرعان ما انتشر الخبر, وعمت المظاهرات المدراس العليا والثانوية وجميع فئات وطبقات المجتمع, في القاهرة والمحافظات بالمدن والقري, في وجه بحري ووجه قبلي, وكان وقود هذه الثورة عامة الناس من الفلاحين والعمال, حيث كانوا يمثلون الأغلبية الكاسحة, خرجوا إلي الطرق والشوارع والميادين, يحملون الشوم والفئوس والحارة في مواجهة بنادق جنود الاحتلال, وكان اعتقاله بداية لتفجر الثورة, وكان أيضا بداية لفرز حاسم وعميق الجذور في صفوف المصريين, فأصبحت قيادة الوفد الباقية في مصر في مأزق غريب. إنها تقود ثورة مفروضة عليها ولم تتوقعها مطلقا, وتقود جماهير لا ترضخ لتعليماتها بالهدوء. يقول العقاد إن سعد نفسه كان رأيه أن الثورة عمل شاق علي بلد مرهق بالأعباء مشحون بالجند والسلاح والسيطرة الأجنبية, بل هو يقدم لنا شهادة بالغة الأهمية فيقول: إن أناسا كثيرين ومنهم بعض المصريين لعجبوا إذا عرفوا الآن أن هذه الثورة المفاجئة لم يحدث فيها أي تنظيم, ولم تكن فيها رئاسة مدبرة من قبل علي الإطلاق, وأن مظاهرة الطلبة الأولي وقعت علي غير علم سابق من الوفد, بل علي خلاف النصيحة التي سمعها الطلبة من بعض أعضائه.
* كلمة للتاريخ:
هذه هي الحقيقة التي نذكرها للتاريخ, أن الطلاب في كل العصور كانوا الشرارة الأولي التي احتملت المشقة وصنعت الملحمة الوطنية الكبري في مواجهة قوي الاستعمار الأجنبي سواء في هذه الثورة المجيدة أوغيرها, ولأن طلاب مدرسة الحقوق في وقت قيام ثورة عام 1919 كانوا الأكثر استعدادا للتحرك الوطني, فقد قررت وزراة المعارف العمومية (وزارة التربية والتعليم حاليا) وقتها وضع نظام مكثف للدراسة يستهدف شغلهم عن أي مشاركة في الشعور الوطني, فكان أن أضرب الطلاب عن تلقي الدروس, وفي اليوم التالي مباشرة اعتصم جميع طلاب المدارس العليا تأييدا لإخوانهم في مدرسة الحقوق, وأعلنوا تشكيل لجنة لقيادة الاعتصام أسموها اللجنة العامة لطلاب المدارس العليا, الأمر الذي أدي بدوره عن تراجع الوزارة عن إجراءاتها, وتستمر الحركة الطلابية في التفاعل مع الحركة الوطنية, التي كانت تموج هي أيضا بتحركات شتي, وتبقي رياح الوطن تهز مشاعر الطلاب حتي اعتقل زعيم الأمة ومن معه, فما أن علم طلاب مدرسة الحقوق خبر اعتقال سعد باشا ورفاقه حتي صمموا علي رأيهم حين صرخ الباشا في وجههم, أما هم فتمردوا علي ضعف الباشا أمام الاحتلال البريطاني وتظاهروا, فكانت مظاهرتهم بمثابة المفجر الفعلي للثورة, وأضرب بعدهم عمال الترام بعد الظهرعن العمل, وفي اليوم التالي كانت القاهرة كلها في حالة إضراب شامل.
لكننا نخطئ إذ نتصور أن الثورة كانت منسقة الخطي ذات تعبير متناغم وموحد, ولكن ما أن تحركت مصر وشعبها ضد الاحتلال حتي فزع الكثيرون ومنهم قادة الوفد المتبقون بمصر, فأصدر قادة الوفد بيانا يحذرون فيه ممارسة ما يمكن تسميته بالمقاومة الفعلية للاحتلال عبر وسائل العنف الثوري, جاء فيه: إن الاعتداء علي الأنفس وعلي الأملاك محرم بالشرائع الإلهية والقوانين الوضعية, وأن قطع طرق المواصلات يضر أهل البلاد ضررا واضحا, إذ يحول بينهم وبين مباشرة مصالحهم ويوقف حركة نقل المحاصيل والأرزاق, ومثل هذا العمل يضيع علي المصريين ما ينتظرونه من عطف عليهم, لكن الشعب لم يكن من الممكن اقتناعه بالالتزام بالسكوت, وتحرك بالاكتفاء بمقاطعة البضائع الأجنبية ولا بالقسم, أقسم بالله وبسعد في منفاه أن أقاطع جميع البضائع الإنجليزية واللغة الإنجليزية وكل من له علاقة بالإنجليز وأن ألبس الحداد حتي يعود سعد وزملاؤه من منفاه, وباختصار كان سعد يقود ثورتين ثورة الجماهير التي تريد الاستقلال والخبز معا, وثورة المعتدلين من كبار الملاك التي تخشي حركة الجماهير, بل وتخشي سعد نفسه أكثر مما تخشي الاستعمار, وتريد أن تهادن الاستعمار وأن تناور معه حتي تحصل علي أي استقلال شكلي يكفل لها أي سلطة من أي نوع, وعبر هذا الفارق بين الثورة والقيادة المعتدلة استطاع سعد زغلول أن يمرق ليقود ثورة منفردا وبلا منازع.
** مراجع الدراسة:
* مذكرة عن فجر الحركة الوطنية المصرية في الفترة من عام 1918 إلي عام 1928- الأمير عمر طوسون
* برقية رقم 186090 بعنوان مستقبل مصر- محفوظة بدار الوثائق المصرية
* حوليات مصر السياسية- أحمد شفيق باشا
* سعد زغلول سيرة وتحية- عباس محمود العقاد
* الثورة المصرية عام 1919- المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي