الدموع ظاهرة إنسانية مركبة لها جوانبها الفسيولوجية والطبية والنفسية والاجتماعية. فمن المنظور النفسي تعتبر الدموع وسيلة تعبير وفعل جسدي يخفف الآلام ويداوى الأحزان؛ ومن منظور العلاقات الاجتماعية فهي وسيلة تواصل وأداة تحايل وخداع. والدموع متنوعة لا ترتبط بمشاعر معينة، بل بكل المشاعر تقريبا، وبالتأكيد أننا لا نذرف الدموع طوال الوقت، ولكن من المؤكد أنها حاضرة فى حالات الحزن والفرح، في الضحك والبكاء، وفي لحظات الهزيمة كما في نشوة الانتصار، وفي طقوس التعبد والخشوع، كما في أوقات الإحساس بالذنب أو الخطيئة. وهكذا تبدو القنوات الدمعية وكأنها منفتحة على كل مناسبة. وأحيانا تسيل دموعنا لسبب مبهم وبدون مناسبة، فقط نريد البكاء. وكما تعبر الدموع عن مشاعر متسقة فإنها تعبر كذلك عن مشاعر مختلطة من الحزن والفرح، والعقل والجنون. وغالبا ما يجف مجرى الدموع في حالات الصدمة أو تبلد المشاعر.
وتحتل مشاعر الحزن والألم المرتبة الأولى في مجرى الدموع، سواء كان الألم أو الحزن ذاتي، أو استجابة لآلام الآخرين. وإلى جانب كونها تعبيرا، فإنها أيضا علاج يخفف الآلام، أو على الأقل يشعر الشخص بذلك، ولذا ففي كثيرا من الأوقات نتمنى أن نبكى حتى نفرغ الألم الذي بداخلنا، وحسب “معجم الجسد” لميشيلا مارزانو، فإن الدموع تخفف الألم، إنها تفتح منفذ للألم لكى يتجسد في شئ مادي وهو الدموع، فهى: “.. تجسد الألم، تعطيه واقعا سائلا يفلت من الجسد ويستسلم له الفرد”. ولكنها أيضا فعل لا إرادي في كثير من حالات الفرح والنشوة والانتصار، بل ربما تكون قمة التعبير عن هذه المشاعر عندما تعجز أشكال التعبير الأخرى وفي مقدمها الكلمات.
وللدموع بعدها النفسي والاجتماعي حيث يتم تصنيفها حسب السياقات والتصورات الاجتماعية والثقافية، فتكون علامة على الضعف، أو دلالة على الشاعرية ورهافة الحس، أو تعبير عن الورع الخشوع، أو كاشفة للزيف والخداع. ومن الأمثلة في هذا السياق، علاقة بالدموع بتنميطات الذكورة والأنوثة والقوة والضعف، فالبكاء، وفق هذه التنميطات خاصية النساء والضعفاء، ونتهم الرجل الذي يبكى بأنه يتصرف كالنساء. ولأن الضعيف يتحايل، فإن الدموع قد تكون أحد وسائل هذا التحايل. وهنا أيضا نجد أن ثنائية الذكورة والأنوثة حاضرة، ليس لأن المرأة كائن ضعيف وفقط ولكن لأن ضعفها هو أحد أسلحتها لكسب ود وعطف الرجل، وليس هذا وفقط، بل إن الدموع أيضا علامة على الخداع وكسب التعاطف والاهتمام، وكما يقول المثل الشعبى “ورى جوزك دمعتك ولا توريه لقمتك”،. ونتيجة هذا التراث الطويل من لعب الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء، فقد احترف العديد من النساء في بعض المجتمعات مهارة استحضار الدموع، ونجد ذلك في المناسبات الحزينة في المجتمعات الريفية حيث يكون التواصل والتعبير عن التضامن من خلال الدموع، سواء بالبكاء أو حتى النحيب والصراخ والعويل، أو كما يقول المثل “عيطت من كل عين حفان”. وهكذا فإن الموقف الثقافي من الدموع يعد أحد محددات البناء الاجتماعي للذكورة والأنوثة (الجندر).
ولأن تأنيث الدموع والبكاء ظاهرة ثقافية، فإن الأمر بالنسبة للرجال أصبح معقدا، فلا شك أن الرجال يذرفون الدمع، ولكن يجب أن تسيل دموعهم بطريقة غير أنثوية، طريقة لا توصمهم بالضعف والهشاشة. فالرجل لن يكون رجلا إذا بكى بسبب إمرأة أو أمامها أو حتى على فراقها، اللهم إلا فى حالات عصيبة كالوفاة، فيكون الأمر مقبولا، وفي كل الأحوال فمن المشين أن يتحول بكاء الرجل إلى نحيب، فهذا كسر لشروط وقواعد الذكورة. أما إذا كان الأمر يتعلق بمشاعر إيمانية، كالبكاء وذرف الدموع بسبب الخطايا أو الظلم، أو لمجرد التقرب إلى الله، فإن البكاء أو النحيب يكون قيمة للرجل، لأنه هذا يعزز صورته كمتعبد خاشع وورع. ولكن هنا أيضا، فإن الأمر لا يخلو من زيف، فكثيرا ما نجد رجل دين أو شخص يبالغ فى ذرف الدمع بشكل احترافي ومتكرر.
وهكذا فقد ننظر إلى الدموع كشئ ثانوي في تاريخ البشر، ولكن المشاعر التي نعبر عنها بالدموع هي حياة البشر. وربما علينا أن نفهم لغة الدموع ليس فقط من أجل فهم أنفسنا، ولكن أيضا لفهم الثقافة المرتبطة بها، وكيف أنها تُستخدم لإعادة إنتاج أنماط معينة من الذكورة والأنوثة، ومن الكبت والحرية.