عندما نتحدث عن الشعور والإحساس فإننا نعني ضمنيا شقين: جسديا ونفسيا, وقد يصعب الفصل بينهما سواء في الحالات الطبيعية مثل الإحساس بالسعادة أو الحزن,أو في الحالات المرضية حيث كثيرا ما يتصل الجانب النفسي والجسدي في العديد من الأمراض,أو ما يعرف بـاضطراب نفساني- جسدي psychosomatic Disorder الذي يعني ذلك المرض الجسدي الذي يعتقد أنه ينجم عن أو يتفاقم بسبب عوامل نفسية أو ذهنية كنتيجة للقلق والتوتر. وبالمقابل فإن الكثير من الآلام والأمراض الجسدية يمكن أن تؤثر علي السلامة النفسية, والمسألة لا تتعلق فقط بالمزاج أو الاستجابة الوقتية المرتبطة بالألم أو المرض, بل إن بعض الأمراض قد يكون له تداعيات نفسية خطيرة قد تلازم الشخص مدي الحياة, ولكن التفاعل بين النفسي والجسدي له جوانب أخري, أ ي تلك المرتبطة بإحداث ألم بشكل عمديالعنف أو حتي بفعل الثقافة التي تجعلنا أحيانا نكره أجسادنا ونتعامل معها كعيب نريد إصلاحه أو حتي كعبء علينا أن نخفيه أو نتخلص منه.
للعنف والإيذاء النفسي والبدني تأثيراته العامة, نفسيا وجسديا, والتي قد تلازم الضحية مدي الحياة, ولكن لحظة ممارسة العنف البدني لها خصوصيتها علي الضحية,فالجسد لايتراجع أو يتواري تحت تأثير العنف بل علي العكس فإنه,ككيان بيولوجي, يظهر أكثر ويفرض ذاته علي صاحبه بقوة, إلي الحد الذي يتم معه اختزال الشخص المعنف وجسده ففي العضو أو المنطقة التي تتعرض للألم. فوفقمعجم الجسد فإن ممارسة العنف علي الجسد تعني, بشكل مفارق,جعل الجسد أكثر حضورا,وأكثر صخبا أيضا,وإلي درجة أنه يلجأ بالتدريج إلي شغل كل الحيز النفسي.. ويوضح ذلك بأنه عند تعرض شخص لتعذيب جسدي يجتاحه الرعب والألم, وجسديا يفرض الجزء المؤلم حضوره بقوة, فعند حرمان الشخص من التبول مثلا يتحول بالتدريج إلي مثانة,أي أن كل وجوده الجسدي والنفسي يختزل في منطقة الألم, تماما مثلما يتم حرمان السجين من الطعام, فإن جسده يفرض نفسه عليه بوسواس الجوع.
وفي الحقيقة إننا نستشعر الأمر نفسه في الآلام التي تصيبنا أيا كان نوع الألم مثل آلام الأسنان,أو الصداع أو غيرها, ولكن الفرق أننا في الحالات الطبيعية نكون أحرارا في تلقي العلاج والدعم الاجتماعي والنفسي, أما في حالات العنف فالضحية تعلم أنها مسلوبة الإرادة وأنها تحت تأثير ممارسات عمدية, ومجردة من أي نوع من الدعم,فقط الرغبة في الإيذاء والإهانة.
وعندما كنت أقرأ هذا النص, تبادر إلي ذهني تساؤل عن تأثيرات العنف الثقافي المعيش أو ما نسميهالعنف الرمزي هل هو كذلك يؤدي إلي حضور الجسد, أو أي عضو من أعضائه,بشكل مبالغ فيه؟ بالطبع لدينا أمثلة عديدة, فالعنصرية ضد لون البشرة مثلا تجعل الشخص مختزلا ومثقلا بلون بشرته,وبالمثل فإن التنميطات الجمالية بكافة أنواعها:الشعر,شكل الأنف, الوزن,إلخ, تجعلنا نراقب أجسادنا ونستحضرها كعبء نفسي.
وبالمصادفة وجدت موضوعا علي موقع الـبي .بي سي يتناول الموضوع نفسه تقريبا وهو بعنوان ما ترويه صدور النساء عن هوياتهن,ويتعلق بتجربة ثقافية أجرتها فنانة هندية بشأن موقف النساء من صدورهن: هل النساء متصالحات مع أثدائهن أم لا؟ وقد عكفت علي مدار شهرين علي مشروع فني يعتمد علي تجارب شخصية, أطلق عليهidentitty وهو تلاعب لفظي باللغة الإنجليزية ليمزج كلمتي الهوية وصدور ودون الدخول في تفاصيل الموضوع المنشور علي الموقع http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-47529282 فإن النتيجة التي توصلت إليها أنه بالفعل هناك علاقة بين حجم الثدي وشعور المرأة بهويتها وبدرجة رضائها عن نفسها, إلي درجة إنها تقول أنها كانت تشعر بأنها ناقصة بسبب صغر حجم الثديين في حين أن أخريات يشعرن بالخجل بسبب كبر حجمهما ويحاولن الضغط عليهما لإخفائهما, ولكن ما أود الإشارة إليه أن عدم الاكتفاء يجعل المرأة مهمومة بهذا الجزء وربما تختزل وجودها الجسدي فيه, وبالمثل فإن الشعور بالخجل قد يؤدي إلي النتيجة ذاتها.
ومن هنا يمكن أن نتفهم أهمية وضع الجسدوكرامته في بؤرة اهتمام حقوق الإنسان,فالعنف البدني هو في آن واحد عنف نفسي وكلاهما إهانة صارخة للكرامة الإنسانية, وبالمثل فإن العنف الثقافيالرمزي سواء من خلال العنصرية أو التمييز أو التنميط له تأثيرات خطيرة وواسعة الانتشار,فقد نكره أجسادنا أو نخجل منها بسبب النظرة الثقافية أو بسبب القيود الاجتماعية. إن كرامتنا من كرامة أجسادنا.