* كان له السبق في الإعداد لإنشاء فرق دار الأوبرا وفرق الموسيقي العربية
* أنشأ السيرك القومي ومسرح العرائس في ستينيات القرن الماضي
* أسهم في إنقاذ آثار النوبة من الغرق أثناء مراحل بناء السد العالي في فترة الستينيات
* دعم العلاقات المصرية ـ الفرنسية وأقام معرض توت عنخ آمون في باريس
* الدكتور ثروت عكاشة:** تعطشي إلي المعرفة جعل الكتاب أقرب رفيق لي
** هواياتي الفنية استحوذت علي أوقات فراغي فلم أشارك في جلسات الدردشة
المثقف الموسوعي الراحل الدكتور ثروت عكاشة, وزير الثقافة ونائب رئيس وزراء مصر الأسبق, ورائد الحركة الثقافية التنويرية المصرية في بداياتها, في فترة حكم الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر. لم يكن الدكتور عكاشة رجلا عسكريا, يجيد فن التعامل مع السلاح والخطط الاستراتيجية العسكرية فحسب, وإنما استطاع بشخصيته العسكرية المنضبطة وعلمه المتشعب, أن يؤسس البنية التحتية للثقافة المصرية في فترة حاسمة من تاريخ الوطن, وأن ينشئ أكثر من صرح ثقافي في مصر وفي الخارج, وأمكنه أيضا أن يضع خطة طويلة المدي للنهوض بالثقافة المصرية في السنوات التالية, مؤكدا أن الثقافة علم وعمل معا, فترك للأجيال القادمة تراثا ضخما من الكتب والمؤلفات والأعمال في مجالات الفن والفكر والثقافة, إلي جانب إنجازاته ومشروعاته العديدة التي أثري بها الحياة الثقافية والفنية في مصر, والتي لا تزال آثارها شاخصة إلي الآن, لتشهد علي عظمة مؤسسها, الذي كان حقا نمطا فريدا من المثقفين, حتي ليمكننا القول: إن عصره كان العصر الذهبي للثقافة المصرية, ونقتبس من شهادة البعض ممن اقتربوا من هذا الرجل, وكانوا شهودا علي أعماله: وصفه الشاعر الكبير عبدالمنعم رمضان بقوله: إنه زهرة نمت في أجواء يستحيل إن تنضج فيها الزهور, فنشأته كانت عسكرية لكن فطرته ثقافية وفكرية عظيمة, لذلك أسهم في إثراء المكتبة العسكرية, ثم انطلق طموحه إلي ربوع الثقافة قاطبة.
وقال عنه الدكتور جابر عصفور: إنه كان أعظم وزير ثقافة شهدته مصر في العصر الحديث, وإن أعماله باقية تشهد بذلك, كما وصفه الشاعر حسن طلب بالكاتب الحر ذي الشمم الذي لم يترك كتابا أومؤلفا أومترجما, إلا وأنجزه بغية إنارة الطريق أمام القادمين من المثقفين, لذلك ستبقي أعماله نفائس لا تضاهي, أما الكاتب الكبير الدكتور عبدالعظيم أنيس, فيري أن الدكتور عكاشة كان رجلا مثقفا من النوع النادر بين العسكريين, انفتح علي الثقافة الرفيعة منذ شبابه المبكر, وإيمانه الذي لا يتزحزح بالكيف لا بالكم في كافة الميادين الثقافية, ساعد علي ذلك, من دون شك, طبيعة العلاقة بينه وبين الزعيم الراحل جمال عبدالناصر, الأمر الذي سهل له حل كثير من المشكلات التي واجهته طوال حياته, والتي يعجز الوزراء الآخرون عن حلها, فضلا عن قدرته الخارقة علي العمل المستمر في صبر وجلد, وهو ما يعجز الكثيرون عنه. ويضيف: وإذا لم يكن للرجل من فضل ثقافي في أي قطاع من القطاعات الثقافية في مصر, فيكفي أنه استطاع إنقاذ آثار معبد النوبة من الغرق بعد تحويل مجري نهر النيل, وعلي يديه شهدت حقبة الستينيات في القرن العشرين نهضة مسرحية عظيمة لم تشهدها مصر من قبل, وربما لم تتكرر بعد ذلك, وعلي يديه أسست أكاديمية الفنون, والثقافة الجماهيرية, وهو ما يجعلنا نقول مع القائلين: إن ثروت عكاشة كان بطل الثورة الثقافية الشاملة في مصر, فعلي مدي ثماني سنوات, تولي فيها أمور الساحة الثقافية المصرية, قامت خلالها, وعلي يديه مؤسسات ثقافية كبري لم تتكرر من بعده. وسجل رجاء النقاش شهادته عنه فقال: إنه هو الذي صنع التربة الثقافية الجديدة, وأتي لها بالطمي والبذور الصالحة, ورعاها بالجهد الدائب, والحزم العظيم, إيمانا منه ويقينا بأن أي تغيير لا قيمة له, إذا لم يكن للوطن عقل مثقف وذوق جميل يمكنه أن يحافظ عليه ويرعاه, وعلي هذا فإن المشروع الثقافي الذي قدمه ثروت عكاشة هو نفسه المشروع الذي ينبغي أن يكون مشروع الحاضر والمستقبل, والمبادئ التي قام علي أساسها هي القادرة علي الخروج بالثقافة العربية من أزماتها الراهنة, والانطلاق بها إلي آفاق واسعة التأثير.
* نشأته:
ولد المفكر والأديب الدكتور ثروت عكاشة في القاهرة عام 1921, وحصل علي العديد من المؤهلات العلمية, فاتجه في بداية حياته إلي الالتحاق بالسلك العسكري, حيث تخرج في الكلية الحربية عام 1939, ثم التحق بكلية أركان حرب, ودرس بها لمدة ثلاث سنوات في الفترة من عام1945 إلي عام 1948, وتخرج فيها وكيل أركان حرب, وتدرج في دراسته بعد ذلك, فحصل علي دبلوم (ماجستير) الصحافة من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) عام 1951, ونال شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون بباريس عام 1960.
* المناصب التي تقلدها:
في بداية حياته العملية عمل الدكتور ثروت عكاشة ضابطا بالقوات المسلحة, ورئيس تحرير مجلة التحرير وذلك خلال الفترة ما بين عامي 1952, 1953, وعلي مدار ثلاث سنوات التحق بالسفارة المصرية في بون وباريس ومدريد, للعمل هناك كملحق عسكري, وظل يتنقل في هذه العواصم الأوروبية منذ عام 1953 وحتي عام 1956, ليتقلد بعد ذلك منصب سفير مصر في روما منذ عام 1957 حتي عام 1958, لينتقل في هذه السنة إلي العمل بوزارة الثقافة والإرشاد القومي (وزير الإعلام حاليا) لفترتين متتاليتين الأولي, منذ 8 أكتوبر عام 1958 حتي 19 سبتمبر عام 1962, والثانية منذ عام 1966 حتي عام 1970, وخلال هذه السنوات استطاع الرجل أن يحدث تغييرا شاملا في المشهد الثقافي والإعلامي في مصر, أدي إلي نهضة ثقافية حقيقية علي المستوي الفكري, وأسس خلالها البنية التحتية للثقافة المصرية في الفترة التي أعقبت قيام ثورة 23 يوليو عام 1952, وحتي السبعينيات من القرن الماضي, وأمكنه أن يضع خطة طويلة المدي للنهوض بالثقافة المصرية في السنوات التالية, ثم تقلد منصب رئيس المجلس الأعلي للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلي للثقافة حاليا) في أعوام 1962, 1966, 1970, ورئيس مجلس إدارة البنك الأهلي المصري علي مدار أربعة أعوام متتالة منذ عام 1962 إلي عام 1966, وعمل أيضا نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة المصرية لمدة عام منذ 1966 حتي عام 1967, ثم وزيرا للثقافـة في الفترة من عام 1967 إلي عام 1970, ولمدة عشر سنوات متتالية تقلد الدكتور عكاشة منصب نائب رئيس اللجنة الدولية لإنقاذ مدينة البندقية وذلك منذ عام 1967 وحتي عام 1977, حقق خلال هذه الفترة إنجازات عديدة في هذا القطاع الحيوي, بعد ذلك انتقل الرجل للعمل كمساعد رئيس الجمهورية للشئون الثقافية والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية منذ عام 1970 وحتي عام 1972, ثم أستاذا زائرا بالكوليج دو فرانس بباريس (تاريخ الفن) في عام 1973, وفي عام 1975 انتخب زميلا مراسلا بالأكاديمية البريطانية الملكية, ثم انتخب رئيسا للجنة الثقافة الاستشارية بمعهد العالم العربي في باريس منذ عام 1990 وحتي عام1993. هذا بالإضافة إلي عضويته في العديد من الهيئات والمؤسسات التنفيذية الأخري, ومنها المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو بباريس من عام 1962 إلي 1972, كما كان عضوا بمجلس الأمة منذ عام 1964 وحتي عام 1966, وعضوا عاملا في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية, مآب مؤسسة آل البيت عام 1994, وعضوا بالمجلس التنفيذي لليونسكو.
* اختياره وزيرا للثقافة:
في عام 1958 كان الدكتور عكاشة في رحلة إلي الخارج, يتجول حول العالم لمتابعة النهضة الفنية هناك, ومشاهدة أحدث العروض المسرحية والموسيقية والأوبرالية ومعارض الفن التشكيلي وأحدث الإنشاءات الثقافية. وفي مساء يوم 8 أكتوبر عام 1958 كان الدكتور عكاشة برفقة زوجته جالسا في الصفوف الأولي بدار الأوبرا بالعاصمة الإيطالية روما, لمشاهدة حدث فني فريد وهو تقديم أوبرا بوريس جودونوف لموسورسوكي, بمشاركة المغني العالمي بوريس كريستوف, الذي كان مجرد ذكر اسمه يثير بين عشاق الموسيقي وفنون المسرح ثورة من الشوق والفرح الغامرين. يصف دكتور عكاشة هذا الحدث الرائع كما دونه في مذكراته: ظللنا أسري متعة فياضة حتي ونحن نتناول العشاء, وظلت الألحان تتردد في وجداننا حتي امتدت يدي إلي مفتاح جهاز الراديو لأستمع, كالعادة, إلي نشرة أخبار الحادية عشرة من إذاعة القاهرة, فإذا بالخبر الأول يحمل إلينا مفاجأة مذهلة, فقد كانت القاهرة تذيع قرار تشكيل حكومة جديدة تضم بين أعضائها اسمي وزيرا للثقافة.. انمحت صور الحفل من فكري وخمدت ومضاته فجأة, وشملني قلق غامر, وشرد ذهني إلي ما ينتظرني من عمل في القاهرة, ويسرد الدكتور عكاشة أثر الخبر عليه وقلقه الشديد من توليه هذه المهمة بقوله: كنت إبان السنوات الأربع التي كانت عمر الثورة ضابطا بالقوات المسلحة, إلي أن ارتأي جمال عبدالناصر, مع قيام نظام مركزية السلطة في يونية عام 1956, أنه لابد من إعفاء الضباط الأحرار-وكان عددهم لا يتجاوز التسعين- من الخدمة العسكرية حتي لا يجمعوا بين النقيضين: الجندية والسياسة, ثم شاركت في نظام مركزية السلطة, فكنت سفيرا في روما في الفترة من أكتوبر 1957 حتي أكتوبر 1958, ثم وزيرا للثقافة مرتين, الأولي من أكتوبر 1958 إلي سبتمبر 1962, والثانية من سبتمبر 1966 إلي نوفمبر 1970.. برغم إيماني بالعمل الثقافي, إلا أن منصب الوزير ذاته لا مفر من أن يدخلني في غمرة المشتغلين بالسياسة, وهم في كل بلاد العالم, وليس في مصر وحدها, رجال ذوو استعداد طبيعي وطباع خاصة تمليها عليهم حرفة السياسة, وأنا علي طبع مغاير, فحين انضممت إلي الضباط الأحرار كنت أحمل بين جوانحي شعورا عاما لتحرير الوطن والشعب دون تفكير في أن أزج بنفسي في غمرة السياسة, ولهذا وبعد نجاح الثورة تنازلت طواعية, عن مكاني في مجلس قيادة الثورة لزميل كريم فاضل, مبتعدا بنفسي عن ثارات السياسة واضعا نصب عيني أن أقدم لوطني ما تسمح به إمكاناتي, وكان تعطشي إلي المعرفة يجعل الكتاب أقرب رفيق لي, كما كان ولعي بالموسيقي يشدني إلي مواطن النغم, وهكذا كانت هواياتي الفنية تستحوذ علي أوقات فراغي فتنأي بي عن أن أشارك في جلسات الدردشة, مما خال البعض معه أن بي تباعدا أو تعاليا, وما كان هذا حقا. يستطرد: مر في ذهني العديد من الخواطر, وأنا أتجول في غرفتي غاديا رائحا بعد أن أرقني نبأ تعييني وزيرا, فاستعصي علي النوم بقدر ما غاب الهدوء عن وجداني, وأخذت أقارن بين رضائي يوم فوجئت بتعييني سفيرا لمصر في روما, وبين البلبلة التي اعترتني لتعييني وزيرا, ولم يكن الأمر عندي هو مقارنة بين السفارة والوزارة, فالسفير رغم مباهج عمله في عراقة عاصمة أوروبية كروما, لا يعدو أن يكون موظفا محدود الاختصاصات ضيق الدائرة التي يتحرك فيها أوالتي يمتد إليها نفوذه, في حين يملك الوزير صلاحيات كبيرة ويستطيع التأثير في مجال ينفسح ليشمل الوطن كله, غير أن الأمر, كما أتصور, كان مناخ العمل هنا وهناك, فلقد كنت أحس وأنا سفير أني بين مجموعة يسودها التواؤم والتوافق, كلنا نعمل لهدف معين محدد, بينما الأمر سيكون في الوزارة كما كنت أتخيل علي العكس من هذا, إذ كان لابد للوزير من الاضطلاع بمهام أخري تتصل بالحقل السياسي, وما كنت أحب أن أرتاد هذا الخضم. أخيرا اتخذ الرجل قراره, وهو حسب قوله: انتهيت إلي أنه لابد من أعود إلي مصر قبل مرور أربع وعشرين ساعة, ومقابلة الرئيس جمال عبدالناصر.
* عبد الناصر يقنعه بقبول الوزارة:
في يوم 9 أكتوبر 1958 توجه لزيارة عبدالناصر لتقديم اعتذاره عن المنصب, ودار بينهما حوار استمر لأربع ساعات, أما تفاصيل هذه الزيارة فيرويها بنفسه في مذكراته, يقول: كان عبدالناصر بالغ الصبر, وكنت فيه شديد العناد والتصلب, والحق أن جمال عبدالناصر أدرك منذ مصافحتي له كل ما أضمره, وكأنه كان يقرأ أعماقي, وأخذ يفيض في السؤال عن أفراد أسرتي وصحتهم وأحوالهم, ليؤجل, بضع لحظات, بدء مناقشة يعرف أنها ستكون طويلة وشاقة. وأبلغه بالاعتذار عن المنصب لا تقاعسا عن عمل جاد, بل تحاشيا لوقوع صدام محتم بينه وبين الشلل والتجمعات المتسلطة, لكن حاول عبدالناصر إقناعه قائلا: أنت الآن في وضع يعلو وضع بعض من لا تطمئن نفسك إليهم, كما أنك ستشغل مكانا بعيدا عن المكان الذين يعملون فيه, فوزارتك تقع في مبني مستقل بقصر عابدين, وستكثر فيه لقاءاتنا معا, بل وبشكل منتظم, وهذا المنصب لن يغير شيئا من أنك تستطيع في أي لحظة أن تجد بابي مفتوحا لك, أو أن تتصل بي برقم تليفوني المباشر. وأصارحك بأني لم أدعك لشغل وظيفة شرفية, بل أعرف أنك ستحمل عبئا لا يجرؤ علي التصدي لحمله, إلا قلة من الذين حملوا في قلوبهم وهج الثورة حتي أشعلوها, وأنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر, وعلينا أن نعزق تربتها, ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذورا جديدة لتنبت لنا أجيالا تؤمن بحقها في الحياة والحرية والمساواة, فهذا هو العناء. وأدعوك أن تقبل هذا العناء, وتشمر عن ساعد الجد, وتشاركني في عزق الأرض القاحلة وإخصابها, إن مهمتك القادمة هي تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصري, وأعترف أن هذه أشق المهام وأصعبها, وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلي جانب الإسهام في بناء الإنسان, وأحب أن أبوح لك بأن علي بابي هذا نحوا من عشرين شخصا متطلعين إلي منصبك هذا, ويرد الدكتور عكاشة: إذن فلتمنحه أحدهم فإني غير راغب فيه, ورفضي هذا يؤمنني من السهام الطائشة. ويرد عبدالناصر: ومن منا الذي يعمل آمنا من السهام المعادية؟ إن عظم المسئولية جدير بأن يثير في نفسك ما عهدته فيك من إقدام, ثم ما الذي ستفعله في وزارة الثقافة غير تحقيق أحلامك التي طالما كنت ترويها علي مسامعي قبل الثورة وبعدها, ويبدو لي أنه آن الأوان لتحقيق هذا المطمح, وكنت أنتظر هذه اللحظة لأسند إليك مهمة وزير الثقافة.. ولمزيد من الإقناع قال له عبدالناصر: لا أخفي عليك أن كل حديث كان يدور حول تنمية الثقافة والفنون كان يجعل صورتك تتراءي في خيالي, ولا تتصور أنني كنت أوفدك في مهام مؤقتة إلي عواصم أوروبا, أوفي مهام طويلة كعملك الدبلوماسي في باريس وروما, دون أن أضع في اعتباري ما تتيحه لك هذه الفرص من دراسة الأنشطة الثقافية والفنية في أهم عواصم الفنون والثقافة في العالم, ومازالت أمامك رحلات أخري تضيف إلي حصيلتك, لكنك ستقوم بها بوصفك وزيرا للثقافة. وشعر الدكتور عكاشة أن عبدالناصر أراد بكل السبل أن يضيق عليه الحصار حتي يقبل المنصب, فطلب أن يمنحه فرصة لإعادة النظر, ورد الرئيس: حسبتك تريد فرصة تجرب فيها حظك, وعلي كل فليكن لك ما تريد, اخلد إلي عزلتك ليلة أو ليلتين, علي أن تتذكر أن قرار رئيس الجمهورية, لا يقبل التغيير سريعا. وصافحه الرئيس مودعا, وبعد ليلتين اتصل به يسأله, فرد عكاشة بأنه لا يحس بالراحة, فرد عبدالناصر ضاحكا: هيا إلي مكتبك علي بركة الله, ولا تهتم براحة النفس هذه فأنا كفيل بتحقيقها لك.
* نهجه في الوزارة:
يقول الدكتور ثروت عكاشة في أحد مؤلفاته إنه قد انتهي إلي الاقتناع بأمرين أساسيين: الأول ـ أن تكون الدولة في جميع مرافقها دولة رعاية, والثاني ـ أن تلتزم بالجمع بين الأخلاق والسياسة. هكذا عبر الرجل عن سياسته ونهجه الذي اتبعه في إدارة عمله بوصفه وزيرا للثقافة, وأول ما نلحظه في النهج الذي اتبعه الدكتور ثروت عكاشة في إدارة مشروعات الوزراة, هو سعيه الدائم ألا تكون سياسة الوزارة فوقية, لا مشاركة فيها للأفراد, لذا أحاط الرجل نفسه بمجموعة من المستشارين والمثقفين ذوي الخبرة والكفاءة العقلية والمهنية, وفي مارس عام 1959 عقد حوارا مفتوحا مع بعض المثقفين لبحث الرؤية المستقبلية لخطة الوزارة القادمة, وبناء علي ذلك قرر الاستعانة بالراحل لويس عوض الذي كان يعمل في هذا الوقت أستاذا بجامعة دمشق, ليعاونه في تنفيذ خطته التي دون أهم ملامحها في مذكراته كالآتي: أمامنا طريقان في حقيبة الثقافة لا مناص من أن نسلكهما معا, أولهما قصير والآخر طويل, ويرمي الطريق القصير إلي إمتاع المواطنين بالثمار العاجلة للثقافة التي تتنوع بين مسرحية جيدة وفيلم ممتاز ولوحة أخاذة وكتاب ممتع وبحث شائق, إلي غير ذلك من ثمار الثقافة, أما الطريق الطويل فيقصد إلي تنشئة جيل, تنضج علي يديه هذه الثمار بإنشاء المعاهد الفنية لتخريج الفنانين المبدعين, فمهمة الدولة هي استكشاف المواهب في كل حقل ورعايتها, وتيسير السبل أمامها للخلق والإبداع, هذا إلي جانب إقامة المشروعات الثقافية الكبري, التي لا يقوي عليها الأفراد, والهدف دائما هو رعاية الوجدان القومي وتغذيته وتنميته, وإعداد الإنسان المعاصر المنتمي لبلده, والمواطن المستنير البصير بمصالح نفسه ووطنه والإنسانية جمعاء.
والمعروف في هذه الفترة أن الوزارات التي تشكلت كانت مهمتها الأساسية تنحصر في تأكيد فكر الثورة, والتعريف ببرامجها واتجاهاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, لكنه خرج عن المألوف واستطاع أن يجعل الثقافة متاحة لكل الفئات وليست حكرا علي فئة المثقفين فقط, فهم, كما يقول, ليسوا إلا أمناء عليها وحملة لها, وهم مكلفون بإيصالها إلي مواطنيهم, لأن الثقافة لا تعيش إذا قطعت عن جذورها, وبقيت سجينة بضع صفحات, وعودة الثقافة إلي الجماهير هي وسيلة إلي تنميتها وازدهارها. وعلق الدكتور فؤاد زكريا: إن الثقافة في عهد الثورة كانت, في الواقع, تشكل جزيرة منعزلة إلي حد ما عن بقية جوانب النظام, وكان ذلك يرجع أساسا إلي وجود شخصية قوية هي شخصية الدكتور ثروت عكاشة, فهذا الرجل كان من ناحية واحدا من أبرز الضباط الذين قاموا بدور أساسي في دعم ثورة يوليو, وكان من ناحية أخري عاشقا حقيقيا للثقافة, فتمكن بفضل قوته ونفوذه من أن يلقي ظلا من الحماية والرعاية علي المثقفين, ويضمن لهم قدرا لا بأس به من الحرية, ويحميهم من كثير من الشائعات والوشايات التي كان من الممكن أن تلحق بهم ضررا كبيرا لولا وجوده, وهو ما أكده نجيب محفوظ بنفسه حين ذكر أنه من أصعب المواقف التي صادفته في حياته, كانت أزمة رواية ثرثرة فوق النيل, التي اعتبرتها الحكومة وقتها تجاوزا كان سيحاسب عليه, لولا تدخل وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة, ودفاعه عنه.
* أشهر مؤلفاته:
ترك لنا الكاتب والمبدع الكبير الراحل الدكتور ثروت عكاشة, ثروة ضخمة من الكتب والمؤلفات المهمة في تاريخ الحركة الثقافية, إلي جانب الموسوعات الفنية التراثية, والإصدارات المقتبسة عن أعمال أجنبية, والتي برع في ترجمتها إلي اللغة العربية, وهي تقترب من 45 كتابا أجنبيا مترجما, عكست لنا فكر هذا الأديب الرائد, ومدي عشقه للفنون والثقافة المتشعبة في الإتجاهات كافة, وتعد مؤلفات الشاعر الكبير جبران خليل جبران من أشهر هذه الترجمات التي استرعت اهتمامه, وكذلك أعمال الكاتب الروماني الشهير أوفيد, وقدم لنا الراحل الدكتور عكاشة رؤيته في قدرة الثقافة علي بناء العقل والفكر معا, ورفع الذوق العام لدي الشعوب بقوله: من الناس اليوم من لا يأبه لما هو جميل فلم يعد بعض الناس في هذا العصر -عصر المصانع والآلات والتكنولوجيا- يجد متعة في اللوحات الجميلة والتماثيل البديعة ولا في تلك المباني الضخمة من معابد وهياكل وقصور. وهو ما عمل علي تحقيقه عبر كتبه, فاستحق بالفعل أن يلقب بـالشخصية الثقافية الأولي في مصر والوطن العربي, فلم يكن اسمه يتردد في مصر وأنحاء الوطن العربي فحسب, بل علي مستوي العالم كله. هذا بالإضافة إلي عدد آخر من المؤلفات نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: الموسوعة الفنية المتكاملة في تاريخ الفن العين تسمع والأذن تري بأجزائها المختلفة, وهي عبارة عن مجموعة كتب, أثري بها المكتبة العربية, وكتاب القيم الجمالية في فنون العمارة الإسلامية في عصورها المختلفة, وكتاب إعصار من الشرق: جنكيز خان, هناك أيضا سلسلة فنون عصر النهضة, وتشمل كتب: الرينيسانس, و’الباروك, والروكوكو, وكتاب مرحلة الإحياء والبعث, وكذلك كتاب التصوير الإسلامي المغولي في الهند, وكتاب الفن المصري القديم, ومعجم المصطلحات الثقافية, والفن الإغريقي, وتاريخ الفن الروماني, والمؤلف القيم الترجمات للمسرح المصري القديم, ترجمة مسخ الكائنات للكاتب الكبير أوفيد, وكتاب الفن الهندي, وكتاب الزمن ونشيد النغم: من نشيد أبوللو إلي تورانجاليلا, وكتاب الفن الصيني: موسوعة تاريخ الفن.. إلخ.
* مذكراتي في السياسة والثقافة:
اتجه الدكتور ثروت عكاشة إلي تأريخ وتوثيق الأحداث السياسية في مصر في الفترة التي عاصرها بنفسه, كشاهد عيان ومشارك في صياغة أحداثها بوصفه ضمن أعضاء الضباط الاحرار (وإن اختلف عنهم بغلبة الميول العلمية والأدبية والفنية عليه, وبالترفع عن السعي وراء المناصب والنفوذ, وهو ما دفع الرئيس عبدالناصر إلي الاستجابة لطلبه أن يأخذ أجازة لمدة شهر وكان وقتها وزيرا للثقافة, ليتفرغ لمناقشة رسالة الدكتوراه في جامعة السربون) وهو ما دونه بموضوعية وبراعة فائقة نالت إعجاب وتقدير الكثيرين من الكتاب والمفكرين, وذلك في مؤلفه الشهير مذكراتي في السياسة والثقافة, حيث يبدأ فيه بسرد يومياته بداية من انتسابه لسلاح الفرسان, والتحاقه بكلية أركان الحرب, وتعرفه علي الرئيس عبدالناصر, والتحاقهما فيما بعد بجماعة الإخوان المسلمين, وأحداث حرب فلسطين التي اندلعت في عام 1948, وإرهاصات تحركات ثورة 23 يوليو عام1952, وحريق القاهرة عام 1952, ونية الرئيس الأسبق عبدالناصر للاستيلاء علي القاهرة, واعتباره زعيما للمصريين وللعرب أجمعين, والخوف من تدخل الإنجليز, كما تتضمن صفحات الكتاب سياسته وخطته التي صاغها لإحياء النشاط الثقافي في مصر, وإصلاح فوضي المسرح, والسماح بإجازة عرض عدد من المسرحيات التي سببت له الكثير من الهجوم والانتقادات, مثل مسرحية ثورة الزنج, التي تدخل العديد من الوزراء في هذا الوقت لمنع عرضها, ولكنه وجه حديثه لعبدالناصر مباشرة بقوله: إن منع عرض المسرحية سيكون أكثر إثارة للقيل والقال من الاستمرار في عرضها, ومن ثم وافقه الرئيس الراحل عبدالناصر علي رأيه, واستمر عرض المسرحية بنجاح منقطع النظير, وهو يعرض رأيا قاطعا في ثورة يوليو, فيري أن عهد الثورة انتهي في يونية عام 1956, حين صدر الدستور الذي منح الرئيس جمال عبدالناصر صلاحيات واسعة, وجمع كل السلطات في يديه دون مساءلة دستورية, حتي أنه استغني بصلاحياته عن مجلس قيادة الثورة كله ليبدأ نظام سياسي جديد قائم علي مركزية السلطة في يده وحده.
وسجل كبار الكتاب والمثقفين المعاصرين له شهاداتهم في هذا المؤلف الثري, فقال الكاتب صلاح عيسي: لابد أن كثيرا من المثقفين سيتوقفون, طويلا, أمام هذه التجربة الإنسانية الشيقة والشفافة في آن واحد, والتي يسردها صاحبها في تواضع جم يخلو من الابتذال, وثقة بالنفس تخلو من التعالي, وبصدق تلقائي ينفذ إلي القلب مباشرة.. وعلق الكاتب محمد العزبي بقوله: إذا كانت شهادات الزور قد كثرت في هذا العصر, فما زال هناك البعض ممن يقول كلمته بصدق وأمانة, وآخر الشهود المحترمين كان الدكتور ثروت عكاشة صاحب مذكرات في السياسة التي فرضت عليه والثقافة التي عشقها, وهو صاحب حياة حافلة بدأت ثائرا ولم تنته وزيرا. وقال عنه الدكتور لويس عوض أحد المقربين والمعاونين له: الكتاب فيه وصف تفصيلي لمبادرات دكتور ثروت عكاشة, ويضم أيضا وصفا لاستجاباته لتحقيق هذه الإنجازات ولتأهيل الفن الراقي علي أرض مصر, وهو يعطي لكل ذي حق حقه في الاعتراف بفضل معاونيه من صفوة المثقفين, وقال رجاء النقاش: كتب الدكتور ثروت عكاشة مذكراته بأسلوب جميل بالغ العذوبة, وعرض أفكاره بروح فنية مشتعلة بالعواطف والمشاعروالمعاناة النفسية الصادقة, فجاءت المذكرات عملا فنيا إلي جانب ما توافر لها من روح البحث والموضوعية. لقد استطاعت جهود الدكتور ثروت عكاشة أن تبرز عالمية لمسألة الثقافية في مصر, وخاصة في مجال الآثار, وذكر صلاح حافظ: قد يكون أفضل ما قرأت هذا العام كتاب ثروت عكاشة, مذكراتي في السياسة والثقافة, فهو في مولد المذكرات المنصوب منذ رحيل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر, يعد أول كتاب لا يدعي صاحبه البطولة, ولا يروي من الأحداث إلا ما شاهده هو بنفسه, وهو أيضا أول كتاب لا يتكلم صاحبه فيه إلا فيما يفهم.
* أهم إنجازاته:
من الصعب في هذا العرض الموجز الإلمام بكل إنجازات الدكتور ثروت عكاشة وأعماله في الفترة التي تولي فيها وزارة الثقافة, والنهج الذي اتبعه في تطوير الحركة الثقافية المصرية وأحيائها, ونشاطه في الوزارة, فلم يكن الدكتور عكاشة من القامات الكبيرة التي برز اسمها في تاريخ وزراء مصر السابقين فحسب, ولم يكن أيضا الوزير المثقف الواعي بأهمية دعم الثقافة وتشجيع كل الأجيال والطبقات الاجتماعية علي المعرفة والقراءة خاصة قطاع الشباب بالكلام فقط, بل يمكننا التأكيد بأنه الجنرال والقائد العسكري الذي أمكنه في وقت قياسي أن يرسخ أهم الملامح العامة التي تستند إليها الحركة الثقافية المصرية, في وقت لم تكن فيه الوزارة تضم سوي مصلحة الآثار ودار الكتب, وذلك من خلال الربط في كل إنجازاته بين النظرة الإنسانية والنظرة القومية إلي الثقافة وأهميتها, لكن علي أية حال قام الرجل بدوره من واقع مسئوليته كوزير للثقافة, حيث آمن بالدور الفعال الذي تلعبه الثقافة والإبداع في تنمية الأجيال ورفع الوعي الفكري والعقلي لدي الشعوب, لذا استطاع أن يحدث تغييرا جذريا في المشهد الثقافي, أدي إلي إحداث نهضة ثقافية حقيقية خاصة علي المستوي الفكري, وعمل علي إثراء الحياة الثقافية والفنية في مصر في وقت قياسي للغاية, فأنشأ الكثير من الهيئات والمؤسسات الفنية والثقافية, فهو صاحب الفضل في تأسيس كل من: أكاديمية الفنون بمعاهدها الفنية المتخصصة المختلفة, التي أنشأها بعد توليه مسئولية وزارة الإرشاد القومي بسنة واحدة في عام 1959, تلك المؤسسة الثقافية العريقة التي استطاع من خلالها أن ينتقل بالحياة الثقافية والفنية في مصر من المحلية إلي العالمية, والانفتاح علي كافة الثقافات والفنون العالمية الأخري علي مستوي العالم كله, وأنشأ قاعة سيد درويش بالأكاديمية لعمل الحفلات بها, واهتم بالفنون فاستقدم العديد من المعدات والآلات الموسيقية من الخارج, بهدف الإعداد لإنشاء فرقة الموسيقي العربية وفرقة باليه القاهرة. وكانت له المبادرة لإنشاء معاهد الباليه والكونسرفتوار والنقد الفني عام 1959, كما أسس المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلي للثقافة الآن).
واهتم اهتماما خاصا بالريف المصري, الذي كان يري دائما أنه يحمل بصمات الثقافة المصرية القديمة, المتمثلة في احتفاظه بكثير من فنون الرقص والمباريات والتمثيل والموالد والأفراح والبكائيات وأغاني الحصاد, وغيرها من الفنون التراثية التي كانت سائدة منذ القدم, ومن هذا المنطلق سعي إلي دمج ثقافة الماضي بالحاضر, ليصبح الريف نقطة التقاء تتفاعل فيها الثقافة القديمة والحديثة, والعالمية والقومية, فعمل علي أحياء دور الهيئات الثقافة, مثل قصور الثقافة والمجلس الأعلي للثقافة, مستهدفا تطويرها وبث قوافلها في ربوع الريف البعيد, بحيث لا تنحصر المتعة الثقافية, بخاصة الفنون الراقية في رقعة ضيقة لا تتاح إلا للأثرياء وللطبقة الأرستقراطية فقط, بل ينبغي أن تصبح الثقافة في متناول الجماهير العريضة, وأن تخرج من أسوار القاهرة والإسكندرية لتبلغ القري والنجوع, فمن بين أبناء هذه القري الغائرة في أعماق الريف بالدلتا والصعيد يمكن أن يبزغ فنانون يعكسون في إبداعهم أصالتهم الحضارية. وكان للدكتور عكاشة أيضا السبق في الإعداد لإنشاء فرق دار الأوبرا الجديدة المختلفة, مثل أوركسترا القاهرة السيمفوني وفرق الموسيقي العربية, هذا بالإضافة إلي إنشاء السيرك القومي, ومسرح العرائس, ومراكز للحرف الشعبية, واستكمال بناء مسارح, ومتاحف في الأقاليم في ستينيات القرن الماضي, إلي جانب اهتمامه بتطوير المتحف المصري والإسلامي والقبطي بالقاهرة والمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية, وإنشاء متحف المثال محمود مختار, وعني كذلك بدور النشر, فكان تطوير مشروع الألف كتاب ضمن مهام الدكتور عكاشة العاجلة في خطة الوزارة, ثم وضع خطة عامة للنشر, من أجل إتاحة الكتاب بقروش قليلة, فأسس المكتبة الثقافية, التي تعد النبتة الأساسية لمشروع مكتبة الأسرة, وأيضا الهيئة العامة للكتاب, ومعرض القاهرة الدولي للكتاب. وكان إنشاء مبني جديد لدار الكتب والوثائق القومية إحدي المهام العاجلة كذلك, بعد أن ازدادت مقتنيات دار الكتب في عام 1959 لتصل إلي ما يقرب من 500ألف مجلد من الكتب والمخطوطات الأثرية القيمة, بما لم يكن يسمح بصيانتها ويعرضها للتلف, وهو المشروع العلمي والثقافي الكبير الذي لم يكتمل حتي أوائل السبعينيات من القرن الماضي, وغيرها من المشروعات التي اشتملتها خطة الوزارة الخمسية التي أعدها في بداية توليه المسئولية, ولم يستكملها, لتركه الوزارة في الأول من سبتمبر 1962 بعد دمجها في وزارة الإعلام والسياحة, ووجه الدكتور عكاشة أيضا اهتمامه للتراث والآثار المصرية, فوضع الأساس لمجموعة من المتاحف التراثية التي مازالت تعتبر من أعظم المتاحف المصرية حتي الآن, حتي أنه لا يخلو أي متحف من وجود إرشادات وتوجيهات الدكتور ثروت عكاشة, وذكر أن اطلاعه علي الكتاب الشيق موت فيلة للأديب الفرنسي الشهير بيبرلوتي هو الذي ألهمه ضرورة الحفاظ علي آثار النوبة, باعتبارها لؤلؤة مصر وإحدي عجائب الدنيا. لذا طالب المصريين بأن يهتموا بالحفاظ علي تراثهم, وعلي الفور قاد حملة دعمها الراحل جمال عبدالناصر الذي أولي الموضوع اهتماما خاصا, بمشاركة اليونسكو, وافتتح المعبد رسميا بعد نقله يوم 22 سبتمبر عام 1968, وكان له السبق في تقديم عروض الصوت والضوء, كما كان له دور وطني بارز في إقناع المؤسسات الدولية للإسهام المادي والعلمي, من أجل العمل علي حماية بعض الآثار المصرية, وإنقاذ معبدي فيلة وأبوسمبل ومجموعة من الآثار المصرية في النوبة حفاظا عليها من الضياع أثناء مراحل بناء السد العالي في الستينيات من القرن الماضي, فاستحق حقا أن يلقب بـفارس الثقافة والثورة.
* التعاون الثقافي بين مصر وفرنسا:
استطاع الدكتور عكاشة في فترة توليه وزارة الثقافة, أن يحدث تعاونا ثقافيا كبيرا ومثمرا بين مصر وفرنسا, وفي ذلك في عهد الرئيس جمال عبدالناصر ونظيره الفرنسي شارل ديجول. ففي عام 1966 رتب الكاتب الفرنسي ووزير الشئون الثقافية الفرنسية أندريه مالرو مع نظيره المصري الدكتور ثروت عكاشة, أن يقوم بزيارة لمصر من أجل الاتفاق مع الرئيس المصري علي إقامة معرض توت عنخ آمون في باريس, وعرض أهم المكتشفات الخاصة به, التي عثرت عليها البعثة الأثرية الإنجليزية في وادي الملوك, وأدت وقتها إلي ترسيخ خرافة لعنة الفراعنة في أذهان الكثيرين. وفي يوم 27 مارس عام 1966, كان وزيرا الشئون الثقافية الفرنسية مالرو والمصري دكتور عكاشة, قد التقيا الرئيس الراحل عبدالناصر, في منزله بمنشية البكري, وكان هدف الزيارة فنيا ثقافيا, من أجل الترتيب لإقامة المعرض, وعلي الفور وافق عبدالناصر علي إقامة المعرض, ثم انتقل الحديث إلي سبل التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي بين مصر وفرنسا, ويذكر الدكتور عكاشة أن الحكومة الفرنسية سرعان ما تحمست لـفكرة المشروع, وسارعت بإعداد قصر صغير لإقامة المعرض فيه, أشرفت علي إعداده وتنسيقه عالمة المصريات السيدة كريستيان نوبلكور, وأنه أقيم بالعاصة الفرنسية باريس في الفترة من 16 فبراير عام 1967 حتي 4 سبتمبر من العام نفسه, وكان معرضا استثنائيا ضخما, حقق نجاحا أسطوريا, وأحدث ضجة كبيرة في فرنسا وقتها, وربما كان بداية النزعة الفرنسية الإيجابية نحو التاريخ الفرعوني لمصر, فبلغ عدد زوار المعرض حتي يوم إغلاقه مليونا ومائتين وستين ألف زائر, أي حوالي ضعفي عدد زوار معرض مماثل كان قد أقيم في العام السابق (عام 1966) لأعمال بيكاسو, واعتبر يومها رقما قياسيا في العدد الإجمالي لزوار معرض من المعارض. ويروي الدكتور عكاشة أن فكرة المعرض قد واتته فيما هو يفكر في العثور علي ما يكفي من المال لتمويل عمليات نقل معابد فيلة كي لا تغمر بمياه السد العالي.
* مظاهر التقدير:
وتقديرا لمشواره الطويل في إثراء الحركة الثقافية والسياسية في مصر والعالم كله, ولمجمل أعماله والخبرات الوظيفية التي التحق بها حصل الدكتور عكاشة علي العديد من الأوسمة والجوائز المحلية والعالمية منها: الجائزة الأولي في مسابقة فاروق الأول العسكرية, وفي عام 1965 حصل علي وسام الفنون والآداب الفرنسي, وفي عام 1968 نال وسام اللجيون دونير (وسام جوقة الشرف) الفرنسي بدرجة كوماندور, وكرمه المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو بباريس في السنة نفسها بمنحه الميدالية الفضية لليونسكو تتويجا لإسهامه المتشعب في العديد من المشروعات الثقافية والحضارية علي مستوي العالم ولمجهوداته الكبيرة في إنقاذ معبدي أبو سمبل وآثار النوبة, وذلك في عام1968, وفي عام 1970 حصل الدكتور عكاشة علي الميدالية الذهبية لليونسكو لجهوده من أجل إنقاذ معابد فيلة وآثار النوبة أيضا, ثم نال جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلي للثقافة, وكان ذلك في عام 1987, هذا إلي جانب حصوله علي الدكتوراه الفخرية في العلوم الإنسانية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1995, وأخيرا جائزة مبارك في الفنون من المجلس الأعلي للثقافة في 2002.
* رحيله:
أخيرا رحل الدكتور ثروت عكاشة عن عالمنا في يوم 27 فبراير عام 2012 عن عمر يناهز 91 عاما بعد رحلة طويلة حافلة بالكثير من الإنجازات, وفي مشهد مهيب شيعت جنازته يوم 29 فبراير من مسجد آل رشدان, بحضور عدد من الشخصيات العسكرية وكبار القيادات, منهم العميد جمال أحمد مبروك نائبا عن المجلس الأعلي للقوات المسلحة, والعقيد خالد مرسي نائبا عن رئيس أركان حرب القوات المسلحة وإبراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب, والمخرج السينمائي أحمد فؤاد درويش, والدكتور عبدالأحد جمال الدين,وبعض الإعلاميين.
==
** المراجع:
* مذكراتي في السياسة والفن- الدكتور ثروت عكاشة
* محمد حسنين هيكل يتذكر: جمال عبدالناصر والمثقفون والثقافة- يوسف القعيد
* أعداد أرشيفية من جريدة الأهرام- 8, 9 أكتوبر عام 1958
* مجلة المصور عدد 27 فبراير عام 2012
* موسوعة تاريخ الفن المصري- الدكتور ثروت عكاشة