تناولت كتابات عديدة التحولات المعاصرة المرتبطة بالأبعاد الثقافية والاجتماعية للصحة,فمع التطور الهائل في المجالات الطبية كافة,زاد الاهتمام بالصحة بصورة غير مسبوقة.ويتم التعبير عن هذه الوضعية بمصطلح جديد وهو healthism والذي ربما يمكن ترجمته إليالانهمام بالصحة أو وسواس الصحة ويعني هذا المصطلح:نمط الحياة الذي يعطي الأولوية للصحة واللياقة البدنية علي أي شيء آخر. وهذه الحالة يعيشها غالبية البشر الآن كمعتقدات وسلوكيات وبالتالي فهي حالة عامة تختلف عن حالات أخري يتم النظر إليها بوصفها حالات مرضية مثل هوس الغذاء الصحي orthorexia والذي يعني هاجس تناول الأطعمة التي يعتبرها الشخص صحية ومن ثم أتباع أنظمة غذائية باعتبارها توفر متطلبات الصحة وتقي من المرض أو العجز.إن الانهمام بالصحة نمط ثقافي حديث.
ويري مؤلف كتاب الطب الحديث:صعوده وهبوطه جميس ليفانو,أن هذا الهوس أو الانهمام بالصحة يشكل أحد تناقضات حضارتنا المعاصرة,وهو تناقض يطلق عليه وصفالسليم القلق,أي أن الشخص السليم يعيش حالة قلق وشك بأنه غير سليم أو أنه مهدد في سلامته وعافيته.وقد كان من المفترض أن يحد التطور الهائل في المجالات الطبية من هذا القلق ,لكن ما نشهده هو العكس تماما,فالقلق يتزايد بوتيرة سريعة وقد زادت هذه الحالة بزيادة التحذير من التهديدات التي يمكن أن تنال من صحة الفرد.يقول ليفانو:إن التحذير في السابق كان بسيطا ومحدودا هو:لاتدخن,وتناول الطعام باعتدال ولكن مجال التحذيرات أخذ في الاتساع إلي ما هو أبعد من ذلك ليشمل,علي حسب تعبيره,كل لذة حسية من الطعام الذي نتاوله والمشروبات التي نحتسيها,والعلاقات الجنسية وبعض الممارسات الترفيهية كحمامات الشمس,والأجهزة التي نستعملها كشاشات الكمبيوتر والهواتف المحمولة,بل وبعض الأدوية التي من المفترض أن تساعدنا علي حماية صحتنا إنه حيز واسع من التهديدات الواقعية والمتخيلة.
وهذا ما تناوله باحث آخر وهو جورج فيجاريللو بلغة أخري في مقال له بعنوانعبادة الجسد في المجتمع الحديث,حيث يقول:أصبح الناس يفكرون في الصحة ويمارسونها بأسلوب مختلف,حيث لم يعد الاهتمام فقط الوقاية من الألم بل أصبح الهدف هو الحياة بأسلوب أفضل لتنمية الإمكانات بلا حدود,واستنفار الموارد الجسدية والنفسية,ويمكن القول:إن هذه الرغبات المتزايدة هي رغبات ثقافية,وليست بالضرورة نداءات فسيولوجية أو بيولوجية,وبما أنها كذلك فإن الكثير من دوافعها ومحركاتها يأتي من خارج الجسد الذي نريد الحفاظ عليه فقد تم صناعتها ثقافيا ومن خلال إعلانات ونصائح طبية,وليس أدل علي ذلك من الجدل الدائر الآن حولالفياجرا النسائية فمبيعات هذا المنتج,الذي تشير تقارير عديدة إلي أنه مجرد وهم لن تنتعش إلا من خلال إيهام النساء بأنهن يعانين من مشكلة ضعف أو عجز جنسي أو أن بمقدورهن أن يكن أفضل مما هن عليه وأن هذا المنتج هو العلاج السحري.صحيح أن هناك مشاكل وهي معروفة سواء بأسبابها الجسدية أو النفسية وبالتالي فإن علاجها يكون بعلاج أسبابها,وليس بمجرد تناول حبة سحرية.
وفي واقع الأمر فإن أسباب الانهمام أو الهوس بالصحة لاتقتصر فقط علي وجود تهديدات فعلية أو حتي مجرد القلق أو الخوف من مخاطر خفية,لأن مجال الصحة اتسع وتضخم بعد أن أصبح صناعة واقتصادا واستثمارا ضخما وكلما زاد الخوف والقلق علي الصحة والعافية,أقبل الزبون,سواء كان مريضا بالفعل أو سليما قلقا علي صحته علي المعروض في سوق الطب والدواء.كما أن الرغبة المتزايدة في تنمية الإمكانات الجسدية بلا حدود أصبح أمرا مربكا علي المستويات الشخصية فالشخص يدخل في تحد مع ذاته وجسده وزمنه بمزيد من التدابير الصحية والغذائية والرياضية ومزيد من القلق والاكتئاب.
يسري مصطفي
[email protected]