من ذلك الذي أراه أمامي طويل الوجه..
من ذلك الذي في قلبه حرقة, وعلي وجهه مسحة من الكآبة..
من ذلك الذي له صوت مرتفع, ولكنه ليس صارخا..
من ذلك الذي قال عن نفسه:
لاصق الجسم بالتراب عالق الجفن بالسحاب. وقال عنه أحد خصومه: إنه شاعر قروي.. من ذلك..؟
إنه رشيد سليم الخوري لبناني المولد, عربي الجنسية, إنساني النزعة. ولد في قرية بربارة في بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر, وهذه القرية تقع بين بيروت وطرابلس.
ولما كبر الفتي رأي أهل بلده يرسفون في قيد الذل, قيد الاستعمار التركي, فأحس أن عليه رسالة, وأن له منها عذابا وألما وشقاء, وراح يبحث عن شيء يفرغ فيه هذا الذي يحس به, ولم يكن يملك إلا رقة الشعور وروعة الخيال.. وجمال العبارة فقرر أن يكون هذا الشيء هو الشعر, وكان إذ ذاك في الثانية عشرة من عمره. وكان عمه في البرازيل يقرأ له هذا الذي ينشره في صحف بيروت فيعجب به. أرسل إليه يستدعيه, رفض الخوري في البداية, ولكنه رضي في النهاية, والذي دفعه إلي ذلك أن أباه مات بعد أن خلف وراءه ديونا ليس في الإمكان الوفاء بها.
وفي أول أغسطس عام 1913 غادر الخوري قريته إلي أمريكا وهناك راح يتنقل من ولاية إلي أخري حتي استقر به المطاف في سان باولو.
مارس التدريس والصحافة واشتغل بالتجارة ومع ذلك كان يعكف علي نظم الشعر بعد الفراغ من عمله. وفي عام 1916 نشر أول ديوان له بعنوان الرشيديات تسري فيه نغمة جميلة وكآبة هادئة. قال عنه الأديب ميخائيل نعيمة: إن الديوان جاء كزهرة لم تتفتح بعد. وقال عنه نجيب قسطنطين حداد: إن هذا الديوان لا يصدر إلا عن شاعر قروي. وأحس الخوري أن هذا الأديب قد رماه بحجر, فقرر أن يعلن للعالم هذه الرمية حتي يصدر حكما: إما له وإما عليه. فبدأ ينشر قصائده بتوقيع الشاعر القروي.
وفكرة الحنين هذه بطرفيها تلعب دورا خطيرا في حياة الشاعر وفي فلسفته, فكل طرف لا يرتبط بالآخر, وإنما هو يرتبط بالأصل الذي صدر عنه, الأبيات السابقة, الذكري يلازمها أمل, ولكن في أبيات أخري تحس أن الذكري علي مسافة بعيدة من الأمل, وتحس أن الذكري تتحوصل حول نفسها فتتحول إلي ثورة عارمة أو مرارة أليمة.
قد يبدو هذا الكلام غامضا, ولكن الغموض يزول إذا عرفنا قصة حبه, فقد أحب مرة فتاة إنجليزية اسمها مود, ولكنه تذكر أن قومه في الذل يرسفون فبعث إليها يقول:
’ لعمرك يا مود لولا ذووك
لما ميز الحب بين العباد
ولا أكرهوا شاعرا أن يقو
ل هذه البلاد, وتلك البلاد
فهم أوغروا بالعداء الصدور
وهم أضرموا النار تحت الرماد
فلا تعذلي شاعرا زاهدا
-وكم هام بالحب في كل واد-
فإني حرام علي هواك
وفي وطني صيحة للجهاد
فهنا, في هذه الأبيات, حب خائب تلازمه ثورة عارمة, وسبب ذلك أن الشاعر ثار عندما تذكر الذي يعانيه أهل بلده.
ومرة أخري.. كان الشاعر يري ملايين الأبقار في البرازيل وكان يتذكر الاستعمار وظلم الإنسان لأخيه الإنسان فيحس بسعادة الحيوان وتعاسة الإنسان, وتسري في نفسه مرارة قد تصل إلي حد الغثيان.
تشكين فصل الشتاء البارد القاسي
ماذا أقول أنا في عشرة الناس
نامي علي الثلج نامي ليس من بأس
فالثلج غير فؤاد دون إحساس
وأن تكن هاطلات الغيث تغشاك
طوباك, فالقطر غير الدمع طوباك
والخوري هنا في القمة. قلت هذا عندما قرأت هذه الأبيات في ديوانه. ثم قلتها مرة أخري عندما استمعت إليه وهو يشدها في الحفل الذي أقيم لتكريمه في دار المعارف.
وقبل أن ينشد بعضا من أشعاره راح يبحث عن كلمة أو فكرة أو قصيدة يرد بها التحية. تحية التقدير والتكريم, ولكن بلاد جدوي. مدحه الخطباء والشعراء وأطنبوا في المديح ومع ذلك لم يتأثر الخوري ولم ينفعل.. كان هادئا وهو ينشر كلماته.. ولكنه عندما انطلق ينشد مختارات من شعره القديم كان ثائرا. كنت تحس كأنه موجة هائجة تتأرجح بين المد والجزر, تمد فتكون شعرا وتجزر فتكون نثرا, وصدر له الديوان الثاني عام 1922 بعنوان القرويات, ثم أعقبه بديوان ثالث اسمه الأعاصير, ومن بعده نشر اللاميات الثلاث ومجموعة أخري من القصائد, ومن بعد ذلك عكف علي جمع شعره كله في ديوان جديد أطلق عليه اسم ديوان القروي صدر عام 1952, قدم له بكلمة جاءت في 34 صفحة.. قال فيها:
أنا واحد من سبعين مليونا من العرب. كل واحد منهم أنا. فينبغي أن أحبهم سبعين مليون ضعف حبي لنفسي. من افتداهم فكأنما أحياني سبعين مليون مرة, ومن خانهم فكأنما قتلني مثلها.
الحنين هو النغمة السائدة في هذا الديوان, إلا أن الخوري لا يحن إلي الأطلال والديار والأحباب علي نمط شعراء الجاهلية, وإنما هو يحن إلي وطنه.. إلي قومه.. والحنين عنده له طرفان: ذكري وأمل.
بربارتي, هل بعد في
ك من الأحبة لي بقية
فأري إذا سمح الزمان
ولم تخيبني المنية
أما تراقب عودتي.. وأخا يرد لي التحية.