في عام 1998 قررت أن أدخل إلي عالم النشر, أسست دارا للنشر وبدأت رحلة البحث عن عناوين ثرية تجمع ما بين القيمتين الثقافية والتجارية, كتب يمكنها أن تحقق المعادلة الصعبة التي يسعي الجميع للوصول إليها, بحيث تحقق الانتشار والمبيعات وتمد القارئ بأفكار وثقافة قد يستفيد منها.
كانت الرحلة صعبة ومثيرة في نفس الوقت, وكانت أولي المشكلات التي واجهتها هي عدد النسخ التي يتم طباعتها لكبار الكتاب في مصر, وهم أيضا كبار كتاب العالم العربي, كانت مفاجأة بالنسبة لي عندما عرفت أن أكثر الكتب مبيعا لا يتم طباعة أكثر من ألف نسخة فقط منها, وإذا حققت مبيعات يتم طباعة ألف أخري وهكذا..!
أما الرقم الأكبر في عالم النشر فقد كان ثلاثة آلاف نسخة فقط, يتم توزيعها في بر مصر, وأحيانا في الأسواق العربية مجتمعة..!
أرقام مخزية في وطن عربي تمتد مساحته من الخليج إلي المحيط, ويتحدث بلغة واحدة ويعيش بين جنباته مئات الملايين من البشر.
من يقرأ إذا؟ سؤال ظل يلح علي خاطري, ولكن هكذا كانت اتجاهات سوق الكتاب في العالم العربي, والتي لم يحلم أي كتاب منها ولو في أكثر الأحلام تفاؤلا أن يتعدي مائة ألف أو مليون نسخة, كما نسمع ونعرف ونتابع عن كتب العالم الذي تختلف لغاته عن بعضها البعض.
كانت المشكلة الثانية التي واجهتني وجعلتني أشعر بغصة كبيرة هي معرض الكتاب, فقد قررت خوض التجربة بعد أن تعددت العناوين التي أصدرتها الدار, وبعد أن تعدي أحد الكتب التي نشرتها مبيعات تجاوزت العشرة آلاف نسخة, وكان هذا إنجازا هائلا ولكنها حجزت مكانا بمعرض القاهرة للكتاب, وتوجهت قبل موعد المعرض لاستلامه وتجهيزه, فكانت المفاجأة أن أشار لي أحد المسئولين علي مساحة فارغة علي الأرض, علي أنها المساحة التي استأجرتها, وزاد من فضله أن أشار لي علي كومة بعيدة من الأخشاب والحديد, كان علي أن انتقي منها ما أشاء وأقوم بتجهيز المساحة بنفسي ولنفسي, اعتمادا علي حظي في وجود قطع تصلح لأن تكون متجاورة ومتلائمة مع بعضها البعض..!
المهم أنها كانت تجربة من أسوأ ما يكون, والغريب أن الجميع كان ينصاع للأمر ويتصارع علي قطع الخشب والحديد دون أي اعتراض, وخضت التجربة بمرها كلها, حيث لم يكن بها حلو يذكر, وكنت حزينا علي ما وصلنا إليه من تردي.
لم أكن أسمع يومها أن أحدا يعترض علي هذا الحال, لا كتاب ولا مثقفين ولا أصحاب دور النشر, وكأن ما يحدث هو أمر طبيعي من المسلمات, ولم أكن أسمع يوما أحدهم يتعرض لما يحدث بالقول, أو يعترض ولو بكلمة في ندوة أو مؤتمر..! الجميع بما فيهم أصحاب الرؤي والمعارضة لا يحبذون انتقاد هيئة الكتاب أو وزارة الثقافة.
وظل الحال علي ما هو عليه سنوات وسنوات, وأخذتني الأيام إلي بلاد بعيدة, لسنوات طويلة, كنت أحضر خلالها معارض الكتب المتوالية والمتتالية, زائرا أحيانا وضيفا أحيانا أخري, ومشاركا بعض المرات القليلة.
كان الألم يعتصرني وأنا أشاهد معارض تلك الدول التي سبقناها بعصور وليس سنوات, بنظامها وأناقتها وتنظيمها في كل التفاصيل, وربما كان ذلك هو السبب الخفي الذي كان يجعلني أحاول تجنب حضور تلك المعارض, أو المرور عليها سريعا خلال ساعات قليلة.
حالة من الرفض النفسي الداخلي التي لا تطيق عقد المقارنات بين بلد كتبت علي الورق منذ آلاف السنين وعرفت النشر والطباعة منذ زمن بعيد, وبلدان أخري لم تعرفه إلا قريبا.
هذا العام انتقل معرض القاهرة للكتاب إلي مركز المعارض الجديد بالتجمع الخامس, لينتقل هذا المعرض القديم الذي بدأ من خمسين سنة إلي عهد جديد, شاهدت المعرض لأول مرة كما كنت أتمناه وأرجوه, نظام ونظافة وتنظيم ودقة, كتب معروضة بأناقة ودور النشر محددة أماكنها ومساحاتها بطرق حديثة, حتي الإضاءة تم تصميمها بشكل علمي يجعل الكتب المعروضة تظهر بما يليق بالكتاب.
الطريف في الأمر أن عددا كبيرا من هؤلاء المثقفين والكتاب الذين صمتوا سنوات وسنوات, كانت أصواتهم عالية هذا العام, وكانت انتقاداتهم شديدة علي مواقع التواصل الاجتماعي..!
والسبب هو بعد المسافة, فقد أزعجهم انتقال المعرض إلي مكانه الجديد, واستخدموا كلمات شديدة اللهجة للسخرية من نقل المكان ومن أخذ هذا القرار المجحف في رأيهم, وتطوعوا بالسؤال عن السبب الذي لم يجعل المسئولين يطوروا المعرض القديم, بدلا من تعذيبهم بالانتقال إلي ذلك المكان البعيد..!
وأليكم سؤالي أنا..
أخيرا تكلمتم..؟ أخيرا سمعنا أصواتكم..؟ أزعجكم بعد المكان ولم يزعجكم حال المعرض طوال السنوات الطويلة الماضية..؟
كنت أراكم دائما ضيوفا ومدعوين في تلك المعارض خارج مصر, كنتم تشاهدون الفرق ولا تتحدثون, كنتم تعرفون العلة ولا تتكلمون..!
هل أرهقتكم تلك الجنيهات الزائدة التي دفعتوها لوسائل المواصلات أو وقود السيارات, ولم يرهقكم المشهد المهين الذي كنا نعيش فيه لسنوات..؟
لم يلفت انتباهكم تلك النقلة وهذا التحديث, وأكتفت أقلامكم بالتجريس..؟
د.وليد حيدر
كاتب صحفي
[email protected]