* تاريخ الكوبري الذي رافق نضال الحركة الطلابية المصرية ضد الاحتلال
* وقائع حادثة الطلبة 9 فبراير عام 1946
* المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي:
** بالغ الرواة في تصوير حادثة كوبري عباس
* المجلس القومي للشباب يقر يوم 9 فبراير من كل عام يوما للشباب المصري
* فبراير شهر الطالب المصري
شهد تاريخ مصر الحديث وقائع حادثة كوبري عباس, التي وقعت أحداثها في عهد وزارة محمود فهمي النقراشي باشا عام 1946 إبان عهد الملك فاروق, وتحديدا في يوم 9 فبرايرعام 1946, ذلك الحادث الأليم الذي عرف تاريخيا باسم حادثة كوبري عباس أو مذبحة كوبري عباس, وتسبب وقتها في خوف الناس من مجرد السير علي كوبري عباس لفترات طويلة, واكتسب هذا الحدث شهرة تاريخية كبيرة ليس فقط بسبب كثرة ما وقع فيه من خسائر بشرية, فهي لا تقارن بحجم الخسائر البشرية التي شهدتها من قبل ثورة عام 1919, وغيرها من الثورات الأخري التي أعقبتها, في هذه الفترة الملتهبة في تاريخ مصر عموما, وإنما بسبب درامية الحادث التي أكسبته طبيعة تاريخية خاصة, فهو لم يأخذ شكلا تقليديا للمصادمات بين البوليس والمتظاهرين استخدمت فيه مجرد تبادل ضرب الطرفين للآخر بالعصي والحجارة أوحتي إطلاق الرصاص, وإنما اتخذ شكلا غير تقليدي بمحاصرة المتظاهرين السلميين فوق أحد الكباري علي النيل ثم فتح الكوبري عليهم أثناء محاصرة الطلبة, ليسقطوا من فوقه غرقي في مياه النهر, فالاعتداءات التي تمت هذه المرة علي فئة من المصريين العزل لم تماثلها أية اعتداءات أخري سجلها التاريخ في ضراوتها, ووحشية القرارات التي اتخذت وقتها لكبح جماح المتظاهرين, وهو ما جعل الكثيرين من المؤرخين الذين عاصروا هذه الفترة في تاريخ مصر يهولون من الحادث, في حين يستنكره البعض الآخر باعتباره حادثا متكررا في وقائع عديدة لمظاهرات الطلبة التي حدثت في هذا التوقيت بالذات, هذا بالإضافة إلي اختلاط أحداثه في الوعي الشعبي لدي المصريين بما شهده نفس المكان من قبل في فترة الثلاثينيات من تظاهرات كاسحة حدثت في عهد وزارة توفيق نسيم الثالثة عام 1935.
الأهم من ذلك هو غموض الحادث الذي جعله يترسخ في الوجدان المصري وكأنه أقرب إلي الأسطورة منه إلي الحقيقة التاريخية المؤكدة, فلا تزال الحقيقة الكاملة حول تفاصيل أحداث مذبحة كوبري عباس كما يطلق عليها أحيانا غائبة حتي يومنا هذا, لدرجة اختلاف المؤرخين أنفسهم حول مدي ضخامة وبشاعة الواقعة, وما بين مؤيدين أو إنكاره أصلا! فالبعض يري أن مئات الطلبة أصيبوا إصابات بالغة, وسقط منهم شهداء كثيرون, في حين ينفي البعض الآخر هذا الزعم مؤكدين أن حجم الإصابات لم يتعد حوالي 104 أفراد فحسب, منهم نحو 89 شخصا ما بين طلبة الجامعة والأهالي القاطنين في محيط ميدان الجيزة, بالإضافة إلي 15 فردا آخرين من أفراد البوليس المصري الذين تصدوا لفك اشتباك الأحداث, ويكاد يكون هناك شبه إجماع من كل الوثائق التاريخية التي سجلت بدورها هذه الأحداث علي عدم وجود خسائر في الأرواح نتجت عن الحادث, إلا حالة واحدة لطالب في كلية التجارة سقط تحت عجلات سيارة نقل في مكان الحادث, ويؤيد البعض الآخر من المؤرخين الرأي الذي يري أن الحادث اتخذ حجما أكبر من حجمه الفعلي, فهو لا يكاد يخرج عن نطاق المصادمات العادية والمتكررة, التي حدثت في تلك الفترة التي كانت تموج بالمظاهرات الشعبية من قبل بعض الفئات المناضلة من المصريين ضد قوات الاحتلال عامة كالطلبة والعمال والفئات المتوسطة بشكل خاص, وفي كل الأحوال كان البوليس المصري يتصدي لها بقوة, بينما يري البعض الآخر أن الحادث كان بمثابة مذبحة كبري لم تشهد مصر مثلها في تاريخها الحديث, والأغرب من هذا هو اختلاف المؤرخين أنفسهم في تحديد المتهم الأول في هذا الحادث الأليم, كما اختلفوا في ضخامة الحدث نفسه, وربما في مدي صدق أحداثه أوكذب الكثير منها, سواء لتحقيق مصالح سياسية وشخصية لدي قادة البلاد وقتها, فألقي الكثيرون منهم بالتبعية علي محمود فهمي النقراشي بصفته رئيسا للوزراء آنذاك, وكان يتولي وزارة الداخلية أيضا في تلك الوزارة, فلم يؤمن المتظاهرين بالشكل الكافي, لكنه لجأ إلي اتخاذ إجراءات قمعية ضد مظاهرات الطلبة الذين خرجوا بسلمية ينادون بحقوقهم الوطنية المشروعة, فأطلق يد البوليس في استخدام العنف ضدهم, بينما اتهم البعض الآخر كلا من راسل باشا حكمدار القاهرة, وفيتز باتريك باشا حكمدار محافظة الجيزة, باعتبارهما المسئولين الرئيسيين عن قمع مظاهرات الطلبة باستخدام أساليب غاية في القسوة. ولهذه الأسباب مجتمعة, ما تزال الحقيقة تفصيليا غائبة عنا.. وفي السطور التالية نستعرض ما حدث كما دون في السجلات والوثائق الصادرة في تلك الفترة, ونترك الحكم للتاريخ, فإلي بداية اندلاع الأحداث.
* تاريخ الكوبري:
بداية أنشئ كوبري عباس قبل ثمانية وثلاثين عاما من اندلاع الأحداث عليه, وذلك في عام 1908 في محافظة الجيزة, في عصر الخديو عباس حلمي الثاني, لذلك أطلق عليه اسم كوبري عباس نسبة إلي الخديو, وكان الهدف من إنشائه أن يكون بمثابة جسر أو بوابة عبور للربط بين محافظتي القاهرة والجيزة عبر جزيرة منيل الروضة, وصمم الكوبري بطول يبلغ نحو 535 مترا وعرض يصل إلي 20 مترا, بحيث يتحرك جزء منه علي شكل صينية لإمكان فتحه للمراكب الشراعية, وبعد مرور 44 عاما في نهاية العهد الملكي, تغير نظام العمل به, واستبدل ببناء انحناء أعلاه في الوسط ليسمح بمرور المراكب, ربما لأسباب سياسية أومرورية,تواكب ذلك مع تغيير اسمه بعد قيام حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو عام 1952, حيث تقرر أن يلغي الاسم القديم ويستبدل بالاسم الجديد كوبري الجيزة أو كوبري الجامعة, إلا أنه لايزال حتي الآن يحمل نفس اسمه القديم الذي اشتهر به طيلة العقود السابقة, وعلي مدي السنين شهد الكوبري الكثير من عمليات الترميم والإصلاحات بسبب تهالكه, إلا أن الترميم لم يعد حلا جذريا لتحديث الكوبري بشكل كاف بعد تكدس الحركة المرورية عليه, لذا تقرر إنشاء كوبري آخر في نفس المكان, فبعد ما يقرب من 60 عاما من الخدمة المستمرة, صدر قرار من محافظة الجيزة بإيقاف حركة المرور عليه تماما بشكل مؤقت, لحين الانتهاء من إصلاحه وتحديثه, وبدأ العمال في إزالته وإنشاء الكوبري الحالي, وفي أعقاب حدوث نكسة يونية عام 1967 توقفت أعمال البناء لفترة, فظل المشروع مغلقا حتي تم الانتهاء من تشييده وافتتاحه مجددا في عام 1971, وشهد موقع الكوبري أبرز مراحل النضال الوطني لطلاب مصر أكثر من مرة, لكن الحدث الأكثر شهرة هو ما وقع في أواخر عهد الملك فاروق.. وتبدأ قصة هذا اليوم التاريخي في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر تناقص شعبية الملك فاروق, وهي الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية, تلك الحرب الطاحنة التي تسببت في حدوث تغييرات اجتماعية واقتصادية كبيرة أثرت علي العالم كله, وبالطبع لم يسلم منها الشعب المصري, حيث غيرت كثيرا في وجدان الشعب المصري, وأخرجته عن وداعته وحلمه وتفاؤله, وربما غيرت مسار استسلامه للأمر الواقع, وألقت به للدخول في أزمات خانقة جعلته أكثر تشاؤما وواقعية, لذلك لم تفلح معه حملات الملك فاروق الدعائية التقليدية لاستمالة الشعب بلا جدوي. تزامن ذلك مع تأسيس عصبة الأمم المتحدة التي صارت تلعب دورا محوريا في مناصرة الشعوب المحتلة وتأييد حقها في تقرير مصيرها, في هذه الفترة راود الشعب المصري الحلم من جديد في تحقيق الاستقلال التام للبلاد عن الاحتلال البريطاني, فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, كان الرئيس الأمريكي ولسون قد دعا إلي مبدأ أكثر ديمقراطية, وطالب بإنشاء جمعية أمم لوضع الكفالات اللازمة لضمان الاستقلال السياسي, وسلامة الأملاك لجميع البلدان صغيرها وكبيرها, ولاقت هذه الأفكار تأثيرها الكبير في نفوس بعض السياسيين في مصر, خاصة أن كلا من فرنسا وبريطانيا قد أصدرتا تصريحا رسميا مشتركا, عبرتا فيه عن رغبتهما في تحرير الشعوب التي كانت خاضعة آنذاك للاحتلال التركي.
* مظاهرات 13 نوفمبر عام 1935:
في يوم 14 نوفمبر عام 1934 صدر المرسوم الملكي بتشكيل الوزارة الرابعة والأربعين في مصر, وهي الوزارة الثالثة لمحمد توفيق نسيم باشا, فكان قد تولي مهام منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في وزارته الأولي التي قام بتشكيلها (12 مايو عام 1920 – 16 مارس عام 1921), ثم تولي رئاسة الوزارة للمرة الثانية(30 نوفمبر عام 1922- 9 فبراير 1923), واحتفظ فيها بمنصب وزير الداخلية أيضا, وأخيرا تولي رئاسة الوزارة للمرة الثالثة (14 نوفمبر عام 1934- 30 يناير عام 1936), واحتفظ فيها بمنصب وزير الداخلية أيضا, واستصدرت الوزارة أمرا ملكيا بحل البرلمان وإبطال العمل بدستور عام 1930, إلي أن يوضع نظام دستوري جديد يحل محل دستوري 1923 و1930, وتناقلت الصحف والمجلات الخبر بالنقد الشديد وبالتهكم والسخرية منه, وتحت عنوان البرلمان النقاوة! نشرت مجلة آخر ساعة ساخرة من الخبر كاريكاتير يصور رأي توفيق رفعت باشا, رئيس البرلمان المصري في الفترة من 20 يونية عام 1931 إلي 29 نوفمبر عام 1934 في عهد الملك فؤاد الأول, علي قرار توفيق نسيم باشا بحل البرلمان, فيظهر متحدثا إلي أحد الأشخاص وهو يقول له: عشان أيه توفيق باشا عايز يحل البرلمان؟!.. وهو عمره يقدر يلتقي برلمان يطاوعه ويؤيده ويصفق له في كل حاجة زي البرلمان بتاعنا؟!.. ما تروح تقوله يا أخي إن البرلمان ده نقاوة!!.., وفي العام التالي وتحديدا يوم 9 نوفمبر عام 1935, عقد وزير الدولة للشئون الخارجية وشئون الكومنولث البريطاني السير صمويل هور Samuel Hoare في قاعة الجولدن هول بلندن مؤتمرا صحفيا, صرح خلاله أن الدستور الصادر في عام 1923 لم يعد صالحا للعمل به في مصر في ظل الظروف السياسية الراهنة -ذلك الدستور الوطني الذي أقره الشعب المصري رغم أنف الاحتلال الاجنبي والقصر الملكي- مضيفا أن الدستور الصادر في عام 1930 صدر ضد رغبة إجماع الأمة المصرية, وبناء عليه تقرر إلغاؤهما معا لحين صدور دستور جديد مناسب, وتناقلت الصحف القومية والعالمية هذا التصريح الخطير الصادم, فأثار نفوس المصريين حدثت حالة من الغليان بين جموع الشعب, والتهبت مشاعرهم الوطنية, وكان سببا في انتشار موجة عامة لانتقاده والهجوم عليه وعلي الحكومة المصرية, فكان بمثابة الفتيل الأول في اندلاع مظاهرات كوبري عباس الأولي, التي سميت في هذا الوقت بـمظاهرات الدستور, في حين أطلق عليها بعض المؤرخين الذين عاصروها ثورة الشباب, باعتبارها كانت صورة مصغرة من مظاهرات ثورة عام 1919, حيث صار هناك إجماع في الشارع المصري علي ضرورة تحويل يوم الاحتفال بعيد الجهاد الوطني الذي يوافق13 نوفمبر من كل عام, إلي احتجاجات كبري تصل لقوات الاحتلال البريطاني, وبالفعل أضرب طلاب الجامعة والمدارس الثانوية, فتحول الاحتفال بالعيد في هذه السنة إلي مظاهرات عارمة خرجت غاضبة تهتف بحياة الوفد والنحاس وسقوط الإنجليز, وتهتف ضد تصريح وزير الخارجية البريطاني وتندد بالاحتلال البريطاني, وتنادي بسقوط الوزارة, مطالبين بعودة دستور الأمة, فكانت البداية بخروج صفوف طلاب جامعة فؤاد الأول, يتزعمهم الشاب المناضل محمد بلال طالب بكلية طب القصر العيني بجامعة فؤاد الأول (كان خطيبا ثائرا لديه قدرة فائقة علي جذب الشباب لمناهضة الاحتلال الإنجليزي وفي وقت مبكر من حياته وهو لم يتم 21 عاما انضم إلي حزب الوفد, وترأس اللجنة التنفيذية العليا للطلبة به, وتزعم أيضا لجان منظمة الشباب الوفدي المسماة القمصان الزرقاء وكان رئيس اللجنة لمدة خمس سنوات متتالية خلال الفترة ما بين عام 1935 و1940, وكان يعرف بين زملائه الطلبة باسم زعيم الشباب), وانضم إليهم حشود طلاب المدارس في مظاهرة كبري, وشارك معهم طلاب مدرستي التجارة المتوسطة بالجيزة والسعيدية وظلوا يجوبون الشوارع وهم يهتفون ضد تصريح هور وإنجلترا وينادون بسقوط الحكومة المصرية بسبب موقفها السلبي من التصريحات الظالمة.. وبمطالعة بعض الصحف المحلية الصادرة في تلك الفترة, نقرأ ما كتبته مجلة الجهاد عند صدور تصريح صمويل هور وزير الخارجية البريطانية في 9 نوفمبر 1935, معلنا رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية في مصر.. لقد اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال في البلاد, وقاد الشاب جمال عبدالناصر في 13 نوفمبر الجاري مظاهرة حاشدة من تلاميذ المدارس الثانوية, واجهتها قوة من أفراد البوليس الإنجليزي, فأصيب الشاب عبدالناصر بجرح في جبينه سببته رصاصة مزقت الجلد, ولكنها لم تنفذ إلي الرأس, وأسرع به زملاؤه إلي دار جريدة الجهاد التي تصادف وقوع الحادث بجوارها, وفي صباح اليوم التالي للواقعة الصادر نشر اسمه بين أسماء الجرحي.
وعن الآثار التي تركتها أحداث تلك الفترة في نفسية جمال عبدالناصر, قال في كلمة له ألقاها بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية بعد قيام ثورة يوليو عام 1952 في جامعة القاهرة 15نوفمبر عام 1952: وقد تركت إصابتي أثرا عزيزا لا يزال يعلو وجهي حتي هذه اللحظة التي أتحدث إليكم فيها, فيذكرني كل يوم بالواجب الوطني الملقي علي كاهلي كفرد من أبناء هذا الوطن العزيز, وفي هذا اليوم وقع صريع الظلم والاحتلال المرحوم عبدالمجيد مرسي, فأنساني ما أنا مصاب به, ورسخ في نفسي أن علي واجبا أفني في سبيله أو أكون أحد العاملين في تحقيقه حتي يتحقق, وهذا الواجب هو تحرير الوطن من الاستعمار, وتحقيق سيادة الشعب, وتوالي بعد ذلك سقوط الشهداء صرعي, فازداد إيماني بالعمل علي تحقيق حرية مصر..
* توالي الأحداث:
وفي اليوم التالي الموافق 14 نوفمبر تجددت المظاهرات وتجمع آلاف الطلبة في ساحة الجامعة, واتجهوا إلي القاهرة, ولما اجتازوا كوبري عباس ليصلوا منه إلي قلب العاصمة, حدث وقتها صدام شديد بين الجانبين, حين قابلتهم فرق الأمن المسلحة من قوات البوليس الإنجليزي وتصدت لهم بالرشاشات وأطلقت الرصاص عليهم وضربوهم بالهراوات (أي العصي الغليظة), وجاءت سيارات الإسعاف لتحمل الطلبة المصابين والجثث إلي المستشفيات لإمكانية إسعافهم, واتجه وقتها زعيم الشباب الطالب محمد بلال مسرعا إلي مستشفي قصر العيني لمتابعة الحالة الصحية للمصابين, والاطمئنان عليهم لإبلاغ ذويهم, لكنه عاد بسرعة ليعلن إصابة أحد الطلبة بكلية الآداب ويدعي محمد عبدالحكيم الجراحي, وأنه في حالة خطيرة للغاية الآن, فتأججت ثورة الطلاب حزنا علي زميلهم المصاب, واجتمعت اللجنة التنفيذية العليا للطلبة (أي الاتحاد العام للطلبة الآن), وكانت تضم فريقا من الأساتذة المندوبين عن الكليات كافة في أنحاء البلاد, وقررت الاستمرار في المظاهرات إلي أجل غير مسمي, خاصة بعد أن أعلن رسميا وفاة كل من الطالب محمد عبدالحكيم الجراحي, وطالب آخر بكلية دار العلوم يدعي علي طه عفيفي, وآخر بكلية الزراعة هومحمد عبدالمجيد مرسي, وطالب أعضاء اللجنة بخروج جثامين الشهداء في مظاهرة شعبية تليق بهم وتقدم الطالب محمد بلال بعريضة إلي وزير المعارف آنذاك, لكنها قوبلت بالرفض, فزادت نيران الغضب بين الطلبة المتظاهرين وخرجوا في صباح اليوم التالي إلي أقرب الثكنات الإنجليزية بهدف الوصول إلي قصر عابدين, وهناك ألقي القبض علي الطالب إبراهيم شكري (وزير الزراعة وزعيم حزب العمل فيما بعد) ضمن مئات الطلبة المقبوض عليهم في هذه الأجواء, وتمكن كل من محمد بلال, ونور الدين طراف (وزير الصحة فيما بعد) من سرقة جثمان الطالب علي طه عفيفي, وانضم إليهما الطالب عبداللطيف جوهر, وتم إخفاء الجثة بمدرج المحاضرات, فاهتزت وزارة الداخلية لحادث سرقة الجثة, وأصدر حسن باشا رفعت وكيل الداخلية في هذا الوقت والدكتورعلي باشا إبراهيم قرارا بتفتيش منزل زعيمهم الطالب محمد بلال, حيث وجدوا في دولابه ملابس بها آثار دماء, ولكنهم لم يتوصلوا للجثة, وأمام إلحاح الشرطة اشترط محمد بلال منحهم تصريحا رسميا بإعداد جنازة شعبية للشهيد عفيفي مقابل الإرشاد عن مكان الجثمان, ولم يرشد عن مكان الجثة إلا بعد مكالمة هاتفية أجراها له مصطفي باشا النحاس يؤكد فيها لمحمد بلال بموافقة وزير الداخلية علي طلبه وبالفعل وتم تشييع الجنازة كما أراد.
وسجلت الوثائق التاريخية سقوط عدد من الجرحي والشهداء في هذا الحادث, كلهم من طلبة الجامعة, وقتل آخرين في مظاهرة مماثلة اندلعت في طنطا منهم عبدالحليم عبدالمقصود شبكة طالب بالمعهد الديني, وهدأت الأجواء لمدة ثلاثة أيام, ثم عادت المظاهرات لتتجدد ثانية في يوم 17 نوفمبر لكن بشكل أكثر ضراوة, حيث شارك طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة, وعند اجتياز الكوبري تصدت لهم قوة من كونستبلات الإنجليز, فسقط عدد آخر من الجرحي كما استشهد طالبان, وكان من أبرز المتظاهرين في هذه المظاهرة المناضل السياسي الراحل إبراهيم شكري الذي أطلق عليه لقبالشهيد الحي, ولإنقاذ الموقف ألقي السير هور خطابا جديدا يخفف فيه من حدة تصريحه السابق, لكن استمرت الحركة الطلابية في مصر في نضالها الوطني, ودعت إلي تحديد يوم 21 نوفمبر عام 1935 ليكون إضرابا عاما في كل مؤسسات الدولة المصرية وتحت ضغط الحركة الطلابية استجاب الرأي العام المصري وحدث الإضراب المتفق عليه.
* نصب تذكاري لشهداء الجامعة:
ولتكريم شهداء الجامعة أقيم نصب تذكاري في داخل جامعة القاهرة نقشت أسماؤهم عليه, تقديرا لدورهم الوطني ونضالهم ضد الاستعمار, والحقيقة التاريخية المؤكدة في هذا الإطار هي أن النقراشي باشا نفسه كان هو صاحب فكرة النصب التذكاري, لأنه كان يعمل أصلا بالتدريس, وكان قريب الصلة من الطلاب والتلاميذ, وكان رئيسا لفرق كشافة الوفد المعروفة بـفرق القمصان الزرقاء, وكان كذلك زعيما لهم, وأزاح معهم الستار عن النصب التذكاري في يوم 7 ديسمبر عام 1935, واحتشد الطلبة يومها داخل مقر الجامعة وقاموا بمظاهرة هائلة تصدرها كل الزعماء الوطنيين وعلي رأسهم زعماء حزب الوفد, الذين قاموا أثناء الاحتفال بهذه الذكري بالمطالبة بعودة دستور الأمة, فاعتبر تصرف الطلبة هذا سببا في حدوث الائتلاف الوطني بين الزعماء من كافة الأطياف, وعودة الدستور بعد غياب خمس سنوات, ويذكر أنه في أثناء مراسم هذا الاحتفال سقط أول شهيد من عمال السرادق الذي أقيم فيه الحفل برصاص البوليس الإنجليزي وهو إسماعيل محمد العبد.
* مظاهرات كوبري عباس الثانية:
وبعد مايقرب من عشرة أعوام شهد الكوبري نفسه حادثا جللا آخر قاد أحداثه أيضا الطلاب, فبعد اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر في فبراير عام 1945, عهد الملك فاروق إلي محمود فهمي النقراشي باشا بتشكيل الوزارة الجديدة في يوم 24 فبراير عام 1945 من أحزاب الأقلية, وهي الحزب السعدي الذي ينتمي له النقراشي باشا وحزب الأحرار الدستوريين وحزب الكتلة بزعامة مكرم عبيد باشا, وبعد تولي النقراشي باشا الوزارة أعاد فتح باب المفاوضات مرة أخري مع بريطانيا حول الجلاء, وحاول إحياء اتفاق صدقي- بيفن, الذي أفشلته المظاهرات الشعبية واستقالة صدقي حينذاك, في خطوة أيقظت الأمل في الاستقلال لدي المصريين, فتقدمت حكومته في يوم 20 ديسمبر عام 1945 بمذكرة للسفير البريطاني بطلب بإعادة النظر في بنود معاهدة عام 1936, وبدء البحث في ملف المفاوضات حول الجلاء, لكن بعد نحو شهر, وتحديدا في يوم 26 يناير عام 1946 خاطب الجانب البريطاني الحكومة المصرية بعدم الاستجابة لموضوع المفاوضات, ورفض مناقشة مسألة السودان, كما أكد علي صلاحية كافة البنود والمبادئ الأساسية التي تم إقرارها من قبل في معاهدة 1936, ووافق عليها الطرفان, والتي منحت مصر استقلالا منقوصا جاء في ثوابت المعاهدة المجحفة, يتمثل في بقاء قوات بريطانية في مصر لتأمين منطقة قناة السويس, كان هذا الفشل الذريع في الاستجابة لمطالب النقراشي باشا قد زاد من حرج الوزارة, كما كان بمثابة الرد البريطاني بمثابة صفعة خيبت آمال المصريين جميعا, وبناء عليه دعت اللجنة التنفيذية العليا للطلبة إلي عقد المؤتمر العام داخل إطار جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) في يوم السبت الموافق 9 فبراير عام 1946, وشارك فيه كثيرون من طلبة المعاهد والمدارس, لمناقشة حالة البلاد في ظل الاحتلال البريطاني, وهاجمت مبدأ الدفاع المشترك مع بريطانيا الذي يحمل معني الحماية الاستعمارية, وطالبت بعدم الدخول في المفاوضات إلا علي أساس الجلاء التام, وقطع كافة الاتصالات والعلاقات مع قوات الاحتلال, وعم الاجتماع شعور عام بالوحدة بين الحاضرين, واتفقوا علي اعتبار المفاوضة مع الاستعمار عملا من أعمال الخيانة يجب وقفه, وتمسكوا بضرورة إلغاء معاهدة عام 1936 واتفاقيتي عام 1899 الخاصتين بالسودان, وضرورة جلاء القوات البريطانية فورا عن البلاد بعد وضوح سوء نية الإنجليز وعدم رغبتهم في الجلاء عن مصر, بعدها خرجت في نفس اليوم أكبر مظاهرة عارمة لطلبة المعاهد والمدارس عرفتها مصر منذ قيام الحرب العالمية الثانية, وتقرر أن تجوب كل أنحاء مصر لإعلان مطالبها, وكانوا يحملون لافتات كتب عليها: قاطعوا الإنجليز, كل قرش يدفع للإنجليز صفعة في قلب الوطن, وغيرها من الشعارات المناهضة لدعم قوي الاحتلال الأجنبي, بدأت المسيرة من الجامعة, إلي ميدان الجيزة, قاصدة التوجه إلي قصر عابدين, وكان الطلبة يهتفون بالجلاء أثناء سيرهم, وسلكوا في طريق كوبري عباس.
* حقيقة ما حدث:
هنا يختلف المؤرخون حول حقيقة ما حدث فعليا, هناك فريق يري أنه ما أن وصلت المظاهرة إلي الكوبري وتوسطته, حتي حاصرتهم قوات الأمن وتصدي لهم البوليس من الجانبين, وبدأ الاعتداء عليهم وإطلاق الرصاص, ووسط هذا الحصار قررت قوات الأمن فتح الكوبري أثناء مرورهم عليه, وهو ما أدي إلي سقوط العديد من الطلبة في مياه النيل فماتوا غرقي, وأسفرت تلك الحادثة فيما عرف تاريخيا باسم مذبحة كوبري عباس, عن الكثير من الضحايا والإصابات, تذكر بعض الوثائق مقتل أكثر من 200 شخص , بالإضافة إلي إصابة المئات من الطلبة الذين أصيبوا إصابات بالغة, وإلقاء القبض علي من نجا منهم, ويري البعض الآخر من المؤرخين أن حجم الخسائر كان قليلا للغاية لم يتعد إصابة 89 فردا من الطلبة والأهالي و15 من أفراد البوليس, وهناك إجماع علي أن حالة واحدة لطالب في كلية التجارة سقط تحت عجلات سيارة نقل في مكان الحادث, حيث كانت الأوامر التي صدرت إلي كل من مأمور بندر الجيزة ومأمور بندر مصر القديمة, من رئيسه المباشر فيتز باترك باشا حكمدار الجيزة, وراسل باشا حكمدار القاهرة, أن يسمح بخروج طلبة الجامعة في مظاهرتهم معلنين المطالب الوطنية, وأن يتركوا المظاهرة تمر بسلام في بداية مسيرتها, حتي تصل إلي كوبري عباس, ويتم التضييق عليهم فجأة وحصارهم هناك, وفرض كردون أمني خلفهم, ومنعهم من العودة إلي الجيزة بكل السبل الممكنة, وهو ما أقره كل من مأمور بندر الجيزة ومأمور بندر مصر القديمة أثناء إجراءات التحقيقات حول الحادث, وبالتالي فالمسئول الأول عن قمع مظاهرات الطلبة باستخدام أساليب غاية في القسوة هما كل من حكمداري القاهرة والجيزة, لدرجة أن المؤرخين يصفون هذه المظاهرة من شدة بشاعتها باعتبارها من أضخم المظاهرات التي عرفت منذ قيام الحرب العالمية الثانية, فأطلق البعض عليها مذبحة كوبري عباس.
في حين ينفي البعض الآخر من المؤرخين هذا الزعم مؤكدين أن الغرض من الادعاءات الكاذبة التي روجت لهذا الحادث الأليم كان الهدف منها تشويه صورة رئيس الوزراء المصري, ووضع نقطة سوداء في تاريخ حكومة النقراشي باشا, وأن الحقيقة تنفي هذا تماما, ذلك أنه عندما وصل الطلبة المحتشدون إلي منتصف كوبري عباس, كان مفتوحا بالفعل لمرور المراكب, فنزل بعض من زملائهم طلبة كلية الهندسة إلي أسفل الكوبري, وأغلقوه بسرعة حتي تعبر مسيرة الطلبة إلي البر الشرقي للنيل بسلام, فاصطدموا بقوات البوليس التي حاولت صدهم عن التقدم وضربوهم بالعصي الغليظة, وأصيب حوالي 84 طالبا, وعلي الفور نقل أغلبهم إلي مستشفي قصر العيني, ولكن لم يمت أحد منهم نهائيا, كما أن ملامح شخصية محمود فهمي النقراشي باشا (26 أبريل 1888- 28 ديسمبر 1948) الذي وقعت الحادثة في عهد حكومته لا توحي أبدا أنه ذلك الرجل الخائن الذي يمكن أن يضحي بشباب بلده من الطلاب المصريين الوطنيين, الذين خرجوا إلي الميادين للمناداة بالحرية والاستقلال وجلاء الإنجليز عن مصر, في سبيل مصالحه الشخصية, وفي الفترة التي عمل فيها سكرتيرا عاما لوزارة المعارف المصرية, ووكيلا لمحافظة القاهرة, وكذلك حين تولي وزارة المواصلات المصرية عام 1930, حقق العديد من الإنجازات, ثم أنه أصبح عضوا فاعلا في حزب الوفد, وله بصمات كثيرة فيه, وحكم عليه بالإعدام من قبل سلطات الاحتلال الإنجليزي بسبب تضامنه مع ثورة 1919, والتي كان أحد الأعضاء البارزين في قياداتها, واعتقل من قبل سلطات الاحتلال الإنجليزي في مصر عام1924, وتولي رئاسة الوزراء عدة مرات, منها الوزارة التي تشكلت بعد اغتيال أحمد ماهر باشا في يوم 24 فبراير عام 1945, والتي جاءت في جو تسوده المظاهرات والاضطرابات التي عمت البلاد, والثانية في الفترة التي أعقبت استقالة وزارة إسماعيل صدقي يوم 9 ديسمبر عام 1946, وهي نفسها الوزارة التي اتخذت قرار دخول مصر الحرب في فلسطين, هذا بالإضافة إلي أنه لعب دورا كبيرا في تحقيق الكثير من الإنجازات الوطنية, منها المطالبة بتوحيد مصر والسودان مرة أخري, كما طالب في جلسة مجلس الأمن الدولي بتاريخ5أغسطس1947بريطانيا بالجلاء عن مصر دون أي شروط, ولا ننسي أنه في عهده أصبحت مصر عضوا في الأمم المتحدة, كما أنه أنشأ كلية الضباط البحرية بالإسكندرية, وأسس محطة كهرباء خزان أسوان, إلي جانب تأسيسه البنك الصناعي المصري, وتأميم شركة النور للكهرباء بالقاهرة, وتأسيس قناطر أدفينا وغيرها الكثير من الأعمال الوطنية ويتفق المؤرخ المصري الكبير عبدالرحمن الرافعي (الذي ينظر إليه علي أنه جبرتي مصر الحديث, حيث عكف طوال عمره علي دراسة وكتابة أدوار الحركة القومية في التاريخ التاريخ المصري الحديث, وبدأه بسرد تاريخ الحركة القومية في عصر المماليك والحملة الفرنسية, حتي ثورة 23 يوليو 1925 في سبع سنوات, ويؤكد الباحثون أن كتابات الرافعي تتسم بالصدق والدقة والحيادية الكاملة, فهو يبدأ بذكر أسباب الحادث ثم سرده تفصيليا ثم رأيه الشخصي فيه, ومن ثم يسود كتاباته الفكر الذي يعبر عن كفاح الشعب المصري في مواجهة القوي المختلفة, وما الملابسات التاريخية التي أحاطت به), مع هذا الاتجاه بقوله: لقد بالغ الرواة في تصوير حادثة كوبري عباس, ليجعلوا منها فيما بعد دعاية سياسية ضد وزارة النقراشي باشا وزعموا أن بعض الطلبة قد قتلوا وبعضهم غرقوا في النيل وقد تحققنا بأنفسنا أنه لم يقتل أحد منهم, ولم يغرق أحد في هذه الواقعة بالذات, ولو كان قد حدث لذكر اسمه ولو بعد حين, لكن هذا لم يحدث أصلا, ويضيف الرافعي: إن الاعتداء علي المتظاهرين هو عمل منكر في حد ذاته, وكان واجبا ترك الطلبة حتي يصلوا إلي قصر عابدين إذ لم تكن هتافاتهم عدائية للحكومة, ولكن ليس من الإنصاف رواية الوقائع المبالغ فيها وإخراجها عن حقيقتها إرضاء للمآرب والشهوات الخاصة بأصحابها.
* تطور الأوضاع:
وفي ذات اليوم (9 فبراير) حدثت مظاهرة مماثلة في ضخامتها بالمنصورة, أصيب فيها نحو 7 من الشباب و3 جنود من قوات الأمن واعتقل أربعة آخرون, كما اعتقل عدد آخر من الشباب في محافظة أسوان بسبب هذه الأحداث, وفي اليوم التالي الموافق 10 فبراير عمت المظاهرات في القاهرة والأقاليم, وسريعا ما تطورت الأحداث, لتنتشر في معظم محافظات الجمهورية, ففي يوم الثلاثاء 12 فبراير اتفق طلبة الجامعات علي إقامة جنازة صامتة علي أرواح الشهداء من زملائهم الطلبة, وأقام طلبة جامعة الأزهر صلاة الغائب عليهم, فعادت الاشتباكات مجددا بين الشباب وقوات البوليس أمام كلية طب قصر العيني, بهدف فض المؤتمر الذي عقده الطلبة بالكلية, واعتقل عدد يتراوح بين 36 و50 شابا من شباب الجامعة, وحدث اشتباك آخر مماثل في محافظة الإسكندرية أصيب فيه الكثيرون من المتظاهرين, كما قامت مظاهرة بالزقازيق قتل فيها اثنان, وأخري في محافظة المنصورة قتل فيها واحد وجرح المئات, كما أصدرت الحكومة قرارا بمصادرة الصحف التي كانت تنشر أية أخبار تتعلق بالمظاهرات وحوادث الاشتباك مع البوليس مبررة ذلك بالقانون الذي يحظر نشر أخبار صحيحة أوكاذبة عن حوادث الإضراب أو المظاهرات العامة التي يقوم بها الطلبة أوغيرهم, وذلك حتي لا تؤثر بالسلب علي المواطنين فينضم آخرون إليها, وتحدث حالة من الفوضي الهياج العام بأنحاء البلاد, لكن لم يمنع هذا القرار أيا من الهيئات المختلفة والمؤسسات العامة من استمرارها في إعلان الاحتجاج العام علي القمع الحكومي للمظاهرات, فأعلن كل من اتحاد خريجي الجامعة, مثل اتحاد الأزهر, وكلية أصول الدين, ولجان حزب الوفد بالأقاليم, وأيضا حزب مصر الفتاة, وكذلك جماعة الفجر الجديد (وهي جماعة يسارية ذات صلة قوية بالحركة العمالية في فترة الأربعينيات من القرن الماضي, وتولت الدفاع عن حقوق العمال) واضطرت الحكومة وقتها أن تصدر قرارا بتعطيل الدراسة في المحافظات التي اشتدت فيها حدة الأحداث, فتوقفت الدراسة ثلاثة أيام في محافظة القاهرة, وعطلت في مدارس وجامعات محافظة الإسكندرية أسبوعا كاملا.
وفي الأيام التالية استمر اتساع الأحداث, لتشمل معظم محافظات الجمهورية, فبخلاف القاهرة والإسكندرية اندلعت أيضا في محافظات بورسعيد وشبين الكوم والزقازيق والمحلة الكبري وطوخ وأسيوط, كما لم تعد المظاهرات قاصرة علي مشاركة شباب الطلبة فقط, إنما انضمت إليها جماهير غفيرة من كافة الفئات والطبقات الاجتماعية, وبدأ معظمها في الأحياء الشعبية, وفي يوم 15 فبراير قامت المظاهرات بعد صلاة الجمعة تهتف بالجلاء التام وبحياة الشهداء, وتجمعت الجماهير الغفيرة في منطقة وسط القاهرة, من أحياء الغورية والموسكي والعتبة وشارع فؤاد, وتألفت مظاهرة كبيرة شارك فيها الشباب والعمال والموظفون وغيرهم, طافت بحي بولاق أبوالعلا تهتف بسقوط الاستعمار, كما قامت مظاهرة عنيفة مماثلة ظلت تجوب كل أنحاء مدينة بورسعيد بعد صلاة الجمعة, وتصدي لها البوليس بوحشية, فأصيب عدد كبير من المتظاهرين حوالي 65 متظاهرا, وتجمعت بعض المظاهرات من الشباب والطلبة أمام القصر الملكي بعابدين تهتف بالجلاء والوحدة مع السودان وسقوط الاستعمار واستعادة حقوق الشهداء في أنحاء مصر وفي اليوم التالي السبت 16 فبراير أعلنت حالة من الحداد العام علي أرواح القتلي من أبناء مصرشارك فيها كل المصريين, وأعلن الإضراب العام أيضا, واتفق أن يتم احتجاب الصحف كلها, وأغلقت المتاجر والمقاهي والمحال العامة في معظم الأحياء, وأضربت المدارس, وتعطلت المصانع, احتجاجا علي الحوادث, ثم بدأت مظاهرة أخري من حي الأزهر, وأسفر ذلك عن احتجاجات واسعة علي مستوي الجمهورية ليبدأ يوم الخميس الموافق 21 فبراير عام 1946 الإضراب العام من طلاب مصر ضد سلطات الاحتلال البريطاني ردا علي أحداث 9 فبراير من نفس السنة, حيث أدي الإضراب إلي التحام الطلاب مع القوات البريطانية في ميدان التحرير في وسط العاصمة هذه المرة, التي فتحت النار عليهم فقام الطلاب بحرق أحد المعسكرات البريطانية وامتدت الثورة الطلابية إلي أسيوط جنوبا والإسكندرية شمالا, وأسفرت تلك الأحداث عن استشهاد 28 قتيلا و432 جريحا, وما أن أعلنت الصحف العالمية والمحلية أنباء عن هذه الأحداث المشتعلة, حتي أعلنت بعض الدول العربية المجاورة منها سوريا والسودان والأردن ولبنان تضامنها مع المصريين, وأعلنوا جميعا إضرابا عاما في تلك الدول, تضامنا مع طلاب مصر, كما تضامنت عدة حركات طلابية أخري حول العالم مع الحركة الطلابية الثائرة بمصر, وتم اختيار يوم 21 فبراير من كل سنة يوما عالميا للطالب, واعتباره من الأيام المشهودة في تاريخ نضال الحركة الطلابية.. وعلي أثر ذلك أعلنت في مصر اللجنة الوطنية للعمال والطلبة جميعا في كل محافظات الجمهورية يوم 4 مارس عام 1946, بمثابة يوما للحداد الوطني العام علي أرواح شهداء حادث 21 فبراير من نفس السنة, وزحفت جماهير الإسكندرية كزحف يوم 21 فبراير في القاهرة, وأدت حالة الحنق تلك, إلي حدوث اشتباكات مجددة وقعت بين الطلبة والقوات الإنجليزية أدت إلي غرق وجرح العشرات.
* نتائج الحادث:
علي أية حال يمكننا التأكيد بأن تداعيات ذلك الحادث كانت مؤثرة للغاية في تغيير مسار حركة التاريخ المصري كله فيما بعد, فاعتمدت عليه بعض الأحزاب للنيل من الحكومة والإطاحة بوزارة محمود فهمي النقراشي باشا, بحجة فشله في التخلص من الوجود العسكري البريطاني في مصر وعدم قدرته علي إنهاء العمل بثوابت معاهدة عام 1936 المجحفة, كما أنه بسببه ولأسباب أخري جري اغتيال الرجل في الثامن من ديسمبر عام 1948, علي يد عبدالمجيد أحمد حسن أحد الأعضاء المنتمين للتنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين, بعد أن أصدر قراره الشهير في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي بحل الجماعة, فتخفي في زي ضابط شرطة وقام بتحية النقراشي باشا, حينما هم رئيس الوزراء بركوب المصعد, وسرعان ما أفرغ ثلاث رصاصات في ظهره, وحاول أن يفر هاربا, وبعد القبض اعترف بقتله للنقراشي باشا, كونه أصدر قرارا بحل الجماعة, كما تبين من التحقيقات وجود شركاء له في الجريمة من الجماعة, وأصدر وقتها رئيس الجماعة حسن البنا عقب هذا الحدث بيانا استنكر فيها الحادث وتبرأ من فاعليه, تحت عنوان ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ليحكم علي المتهم الرئيسي بالإعدام شنقا وعلي شركائه بالسجن مدي الحياة, واستخدمته أيضا حكومة الثورة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي بهدف التخلص من العهد الملكي عموما, مؤكدة أنه علي الرغم من فداحة الحادث, ومدي إيذائه لمشاعر المواطنين, إلا أن الملك فاروق تعامل معه بمنتهي اللامبالاة والاستهتار, حين أعلن عن منحه نيشان محمد علي باشا الكبير لرئيس الوزراء النقراشي باشا, عقب الأحداث مباشرة, وهو الأمر الذي استفز المصريين وصدم نفوسهم إزاء أرواح شهداء الطلبة التي راحت ضحية هذا الحادث, وتجاهل الملك لمشاعر الشعب الثائر, الذي زاد حنقه, فبدأت تتزايد مظاهرات الطلبة ضد الملك وخاصة في احتفالات عيد ميلاده, ولم يدرك الملك فاروق وقتها تغير المزاج العام, وإنما حمل الوزارة مسئولية الاضطرابات التي تشهدها البلاد وقتها, فلم يفعل شيئا سوي قيامه بتغيير وزارة النقراشي باشا, وتشكيل وزارة جديدة برئاسة اسماعيل صدقي باشا في يوم 13 فبراير عام 1946.
* يوم الشباب المصري:
وبمناسبة ذكري الاحتفال بمرور 62 عاما علي هذه الأحداث, وأثناء انعقاد فاعليات المؤتمر القومي الثاني لشباب مصر الذي كان قد عقد في الإسكندرية في أغسطس عام 2008 برئاسة الدكتور محمد صفي الدين خربوش رئيس المجلس القومي للشباب السابق, تقدم الدكتور خربوش ضمن فاعليات المؤتمر باقتراح لاختيار يوم 9 فبراير من كل عام ليكون يوما للشباب المصري, وأن يختار الشباب المشاركون في المؤتمر ثلاث مناسبات وطنية للاختيار من بينها يوما واحدا ليكون عيدا قوميا لهم يحتفل به في مثل هذا اليوم من كل سنة, وهي ذكري مولد الزعيم الوطني الراحل مصطفي كامل, أويوم إلقاء خطبته الشهيرة في الإسكندرية, والتي قال فيها مقولته الشهيرة لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا, وأخيرا ذكري تضحيات طلبة جامعة القاهرة, والتي عرفت بحادثة كوبري عباس أو كوبري الجيزة, وبعد إجراء التصويت أجمع أكثر من 74% من الشباب وقتها علي اختيار يوم شهداء الجامعة في 9 فبراير من كل عام, ليكون عيدا قوميا للشباب يحتفل به سنويا, حيث يعتبر هذا اليوم من الأيام الخالدة في تاريخ الحركة الطلابية والشبابية في مصر, وتتم الاحتفاليات التي تحدث سنويا في مثل هذا اليوم من كل عام بتنظيم مسيرات شبابية في عواصم المحافظات تتقدمها موسيقي الشرطة التي تعزف الأناشيد الوطنية, أما اليوم العالمي للطالب فقد تحدد أن يكون يوم 21 فبراير من كل عام, تخليدا لذكري شهداء يوم 9 فبراير عام 1946 في مصر ونضالهم الوطني ضد القوات البريطانية, التي تعاملت مع الطلاب المطالبين بالجلاء والاستقلال بالعنف, ذلك حين تضامنت كل الحركات الطلابية في العالم أجمع مع الحركة الطلابية القائمة في مصر, وانطلقت المظاهرات في أرجاء العالم في يوم الخميس 21 فبراير عام 1946, وسقط شهداء وجرحي كثيرون, ومن وقتها اعتبر شهر فبراير بصفة عامة هو شهر الطالب المصري بلا منازع, ففيه تحل الذكري السنوية لوقوع حادثة كوبري عباس الشهيرة التي استشهد فيها طلبة جامعة القاهرة, وفيه أيضا تتم مراسم الاحتفالية السنوية ليوم الشباب المصري, وفي ختامه يأتي يوم الطالب العالمي, كما أنه يعد أيضا شهر الإضرابات الطلابية.
* كلمة أخيرة:
** أخيرا سواء اتفقنا أواختلفنا مع المؤرخين في تقديرهم للحدث, ومدي صدق أو كذب ما دون عنه وقتها, وسواء أقررنا بوطنية رجل مثل النقراشي باشا أو خيانته, لكن ستظل حقيقة ما حدث هي اللغز الأكبر الذي يصل إلي 73 عاما, وسوف يظل هذا الكوبري علي الرغم من صغر حجمه وضيق مساحته نوعا ما مقارنة بغيره من الكباري, إلا أنه دون ضمن صفحات التاريخ المصري باعتباره أحد المنشآت التي رافقت نضال الحركة الطلابية المصرية ضد الاحتلال مرتين متتاليتين, وأصبح بالفعل شاهدا ينبض بالتاريخ والحياة وعشق تراب الوطن في عهدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي, لكنه سيظل اللغز الأكبر الذي أطاح بالنقراشي باشا وربما كان أحد الأسباب الرئيسية وراء حادث اغتياله فيما بعد, كما سيظل هو الشاهد علي نضال الحركة الطلابية لسنوات, وقد خلد بالفعل طلاب مصر وكفاحهم الوطني ضد الاحتلال أكثر من مرة.
* مراجع الدراسة:
** في أعقاب الثورة المصرية- المؤرخ عبدالرحمن الرافعي
** أعداد أرشيفية من مجلد مجلة الجهاد- عدد 14, 15 نوفمبر عام 1935
** صحيفة الأخبار- عدد 11 فبراير عام 1946
** مجلة آخر ساعة- عدد 16 نوفمبر عام 1952
* صحيفة الأهرام- عدد أغسطس عام 2008