ثورة الحب ثورة في المشاعر تسكب وقودًا فوق الأنانية لتحرقها، وفوق البذل لتنير الطريق للمحبين، بينت ثورة الحب المشروط تحول الفردوس إلى جحيم، وفي عالمنا المادي أصبح من النادر العثور على من يحبك بلا شروط، من يحبك كما أنت بعيوبك، بنقائصك، من يرحب بخطاياك، ويراها جزءاً من نوعك كبشر، يندفع البعض ويقول: إن حب الأبوين للأبناء والعكس حب بلا شروط، بينما تؤكد الإحصائيات، و دعاوي الحجر، وتفضيل المال والعقار عن علاقات البنوة و الأبوة، وحوادث قتل الآباء للأبناء والعكس قتل الأبناء للآباء والأمهات، تؤكد أن الواقع عكس ذلك، حتى أول أخوين في البشرية كان قتل أحدهما الآخر، قايين و هابيل، فلما لا نصدق.
نواجه بعض المشكلات التي تنتمي لعالم الحب المشروط، قد لا نستطيع أن نحل كل المشكلات التي تواجهنا، ولا المشكلات التي لها أطراف، لبت صوت العناد، وسلمت نفسها لدور الضحية، راضية أن تلعب ذلك الدور بكل إخلاص، فلا تبحث عن حلول، ولا تحتمل بلا تعيير لمن تعتبرهم الجلاد في حياتها.
أولئك من الصعب حل مشكلاتهم، وهكذا يجتاز العنف في عائلاتنا، مدمراً أكثر العلاقات حميمية، يهدم أقوى الروابط الأسرية، يضع الأبناء ميراث الألم على الآباء حينما يضعفون، ينتقمون لقسوة مورست عليهم، ينتقمون للحرمان، يبحثون عن ذواتهم فلا يجدونها، إذ فقدوها علي عتبات الشعور بالمظلومية، وعند بوابات شيطان الانتقام، أولئك الذين لا يحبون إلا حبا مشروطا، والحب بشروط، يرحل حينما تغيب الشروط، يحبون والديهما لأنهما الراعي، الخزانة الكريمة، الحضن الدافيء، الخدمة ببذل وبلا حدود، وحينما يخطيء الأبوان، أو يقصران، يغيب الحب، وبغير المواجهة والتعيير لا يمكن علاج الخلل الذي يصيب هذه العائلات.
بطل قصتنا اليوم، رجل في التسعين من عمره، ظل يعمل في مهن متدنية حتي يأكل قوت يومه بعرق جبينه، كان ضحية ذويه الذين ينتمون لطائفة الفقراء في صعيد مصر، لم يكن بينهم المستنير ولا المتعلم، فجاءت نشأته تحمل ميراث الجهل والتردي في التربية، قاوم التيار، واعتمد على ذاته، حتى كون أسرة وأنجب خمسة أبناء، توفي أربعة منهم، وبقي ولد وحيد.
ولأنه الوحيد، صار حلم حياته، صار محور الكون، وعاش عم صديق في محراب ابنه، يدور في فلكه، يريده طبيبا، يريده عالما، يريده رجل أعمال، لكن ابنه لم يكن كل هذا، واستمر عم صديق في منح الحب بلا شروط، حتى أنه كان يقضي لولده حاجته الشخصية وكل مشاويره، ليتفرغ هو لعمله، ثم شب الابن وصار عريساً، يريد الزواج، فهل يقبل عم صديق أن يخرج ولده من حضنه، رفض الرجل وقرر أن يبقيه معه في نفس المسكن، ووافق الابن اعتمادا علي والده، ودرءاً للمسئوليات، إذ اعتاد عدم تحمل المسئولية، وكانت تلك هي بداية السقوط إلي الهاوية.
ورث الابن عن والده جميع النواقص التي في شخصيته، عصبيته، شكوكه، غيرته، أنانيته، حتى مشروطية الحب الساكن في قلبه، ودبت المشاكل بينهما، وكانت الأم تقف إلي جوار ولدها المدلل، فهو ابن عمرها الوحيد، ثم دبت المعارك بين عم صديق وبين زوجة ابنه، في كل صباح مشكلة جديدة، حرائق تشتعل وتستمر ثم تنطفيء بتدخل الأهل والأقرباء، ويفكر الابن في الرحيل لمنزل آخر، لكن لا مال، ولا قدرة، ويبكي عم صديق ويعتذر، وتنوح الأم وتطلب من ولدها غفرانا وتقول: أنت عارف أبوك عصبي لكن طيب، شتام بس بيروق بسرعة، لكن الابن لم يغفر ولم ينس، غاصت كل الخبرات السلبية في عمق نفسه، ونمت المرارة في تربة وجدانه، وكانت تظهر ثمارها كالصغار حينما يتشاجرون.
جوع الحب
وأنعم الله علي الابن بعمل يدر عليه عائدا ماديا جيدا، فالتحق بعمله، وترك كل تركيز علي صغائر الحياة التي تدور بين والده وزوجته، وانعكست حالته المادية علي الأسرة و المنزل، فبعد أن كان والده يتحمل الجزء الأكبر من الإنفاق، صار هو الذي ينفق، وببزغ، عم صديق مرتاح، عم صديق سعيد، عم صديق تربيته علمته احترام من يملك المال بسبب ما تعرض له من حرمان، فصار يعامل ولده بلطف مبالغ فيه، ويخدمه في دأب، وينحاز إلي صفه في تحد، لكن ذلك لم يلجم طباعه المتطرفة في السب والشتائم، والتعيير، لم يكن كافيا لإزاحة جبل الحرمان الذي تركه والده علي صدره، منذ صغره، حينما تركه يعاني وتزوج بغير أمه، فصار عم صديق يتيما ويحيا بمرارة زوجة الأم، وقسوة الأب، وهكذا ترعرعت في واديه كل دعائم المشروطية، يحب من يمنحه، علي كل المستويات، محبة، حنانا، تعاطفا، مالا، حتي الأكل يمثل بالنسبة له عطاء من نوع خاص، طبطبة على النفس، علاج من حرمان قديم، ورغم طيبة، ليست سقطته، وإنما تربيته، ظروفه التي لم يكن مؤهلا أبدا لتخطيها، لم يكن متعلماً ولا مدركاً لما يعتمل داخل نفسه، فجرفت الظروف أرضه وتركتها بور.
فوقع في علاقات نسائية كثيرة حتي بعد زواجه، كان دائم البحث عن الحب والاهتمام والرعاية، لم يدرك من حوله أنه مريض حبا، مريض باحتياجه، مريض بحرمانه، لم يكتشف أقرب الناس إليه حاجته لسداد ذلك الحرمان عبر منافذ مشروعة، بل كانوا يوجهون اللوم الدائم له، فيهرب من اللوم، إلي من يمنحه الاهتمام حتي لو كان اهتماما زائفا، صار احتياجه للحب عقيدة، والبحث عنه صار مهمة، ومن يلومه؟ فالإنسان الذي يتضور جوعا للحب يحيا في حالة يحث دائم عنه.
ومع استمرار الجوع يموت حراس الحواس، وتنشط الخطية، وتهبط مناعة الرفض الي أدني مستوياتها، علم ابن عم صديق بخطايا والده، لكنه لم يتمكن من قراءة احتياجه، وبدلا من علاج الجوع بالشبع، صار يعمل علي تجويعه من الحب، يقاطعه، يعيره، ينتهره، يعنفه.
أخطأ عم صديق لكن من منا بلا خطية, أخطاء طويلة لكن الصديق يسقط سبع مرات في اليوم ويقوم، من منا يتبرر حتي يحاسب ذويه علي خطاياهم، وإذا كان الأبناء ينظرون إلي المجتمع، تحت مقولات جبت لنا العار، فضحتنا، خليتنا فرجة في المنطقة، أنت راجل كبير عيب عليك، فتلك هي الخطيئة الكبري إلي تدفع المخطيء للعناد، فلا المجتمع قاض، ولا الإنسان متهم، بل علي العكس نواقص المجتمع هي التي أنتجت لنا نماذج يرثي لها، المجتمع النمام الذي يفتقد للخصوصية، المجتمع الذي يمارس كل واحد فيه السلطة الأبوية علي بقية الناس، فنجد أنوفا في حياتنا دون دعوة أو مبرر، المجتمع الذي يبيح في الخفاء ما يستنكره في العلن، الذي يبارك الجنس تحت اسم الحب او زواج القاصرات، ثم يطالب برجم من يخطيء، هذا المجتمع لن يصلح علاقة بين ابن وأبيه، لكن للأسف آفتنا الحب المشروط، كل ابن يرغب في أبوين يشرفانه، نعم حقه، لكن ماذا لو لم يكن، هل نذبحهما مثلا لا يوجد بيننا بار، الملائكة موطنها السماء، أما نحن فما زالت أقدامنا مثبنة في أرض العناء بمسامير الحياة.
لم يكن ابن عم صديق سندا نفسيا لوالده ولا صاحبا يسكب الرجل لديه معاناته، ربما كان سندا ماديا لفترة، إذ ترك العمل الذي يدر عليه عائدا ماديا مجزيا، والتحق بعمل آخر، ولما كانت المبالغة في الحب مشروطة، كان من المتوقع حينما تغيب الشروط تغيب مظاهر الحب، وهكذا تبلورت علاقة الحب المشروط بينهما، الأب كان يخدم ولده وحينما صار عجوزا لا يخدمه تخلى الولد، والابن كان يرعي والده رعاية مادية، وحينما صار فقيرا، أسقط والده عنه مظاهر الحب والتودد، علاقة ذات تفاصيل كثيرة كل منا سيجد فيها جانبا من جوانب حياته مع أسرته، لكن لن تتسع السطور لكل التفاصيل، وحرصا أيضا علي سرية الشخصيات.
ومضت الأيام و السنون، وهد السن قدرة عم صديق علي الخروج من المنزل, وأصبح الاحتكاك بينه وبين ولده علي أشده, كل منهما لا يحتمل كلمة من الآخر وكأنهما ينتقمان لأيام الحب المشروط, ورغم مرور الزمن الذي لم يؤثر علي الجوع للحب علي قلب عم صديق, إلا أنه صار وحيدا جدا لأن الكل كان يتقي شر لسانه الشارد يمينا ويسارا طوال الوقت, تكمن أزمته في لسانه, رغم أنه حنون وطيب, وساءت العلاقة بينهما, أما الأم فلا حول لها ولا قوة.
وبدأ المرض يدب في أحشاء عم صديق, والعجز يضرب في جسده, كان يرفض الذهاب إلي الأطباء, معاندا الحياة والطبيعة, يري أنه بصحة جيدة, مثل كل من هم في سنه الذين يدخلون في حالة إنكار للعجز والمرض, إذ قاوموا في الحياة كثيرا ولا يتوقعون منها مزيدا من الألم, لكن للأسف توقعات في غير محلها, فعم صديق الرجل الذي صار علي المعاش, وحاليا في عمر التسعين, اكتشف أنه مصاب بالسرطان في معظم أنحاء جسده, سرطان في المرحلة الأخيرة, رغم تشبثه بالحياة إلا أنه يعلم أن نهايته قد اقتربت جدا, لا يحتاج لمن يذكره بها, ولا من ينبهه أنه سوف يقف بين يدي الله, ويعنفه بشكل دائم.
خنجر في قلوب الأباء
لكن هذا هو ما فعله ابنه الوحيد معه, فوجئت بجرس الهاتف يرن, وصوت قادم من أعماق الوجع, في نهنهات متتالية, مزقت وجداني, قبل أن أعلم تفاصيل روايته, يقول عم صديق: أنا عندي تسعين سنة, هاموت , أيوة هاموت, بس مش عارف هاموت أمتي, عصبي, أيوة عصبي, باشتم أيوة باشتم, بس ياما ربيت ودلعت, ياما شلت وعالجت وجريت, ياما مانمتش الليل وشلت علي كتفي أقفاص الخضار علشان أربي وأكبر وأعلم, ياما أتذليت واتوجعت, وانحنيت, بس ابني مش متحملني.
أنا هاموت وعارف إن عندي سرطان, بس إزاي يقول لي كده, اتخانقنا سوا, وشتمته, زعلته, أيوة أنا زعلته, لقيته بيقول لي: الله يلعن اليوم اللي خلاك أبويا, أنت مش متعظ أبدا, لبسك إللي أنت لابسه ده بتاعي أنا, أقلعه, أنت السرطان بياكل في جسمك والدود هاياكل لسانك إللي بتشتمني بيه, مش عايز أعيش معاك تاني, حتي الدوا إللي أنا باجيبه ليك ده إياك تاخد منه, أنا هامشي ومش عايز أعرفك تاني, بعد ما أخدمك وأجري معاك للدكاترة ده جزاءي.
يكمل عم صديق: خلعت البلوفر إللي لابسه يا بنتي وأدتهوله, وانكفيت بكا وأنا باشتمه, مش عايز منه حاجة ولا دوا ولا خدمة, ولا أي شيء, بس مقهور أنه بيلعن اليوم إللي خلاني أبوه, أنا كنت فاكر أني أب كويس, كنت فاكر أنه فاهم أني حبيت وربيت وأن ده طبعي, بس طلع لا بيغفر ولا بيسامح ولا بيحب.
كلنا ضحايا
اخترقت نهنهات عم صديق قلبي, لم يكف عن البكاء طوال المكالمة, ولم أنطق بكلمة واحدة, شراكة الدموع كانت تنطق, ثم طلب مني زيارته, لم أشعر كيف حملتني الساعات منذ أن جرت المكالمة بيننا وحتي وصلت إلي بيته, فوجدته رجلا عجوزا لكنه ذو إرادة حديدية, بيت متواضع, وأسرة متواضعة, ابن مضطرب نفسيا لديه ثلاث بنات وولد, وزوجة تعمل موظفة بسيطة في سنترال, وجدة لا تملك سوي مصمصة الشفاة, كلهم يعيشون في منزل واحد مكون من ثلاث غرف وصالة صغيرة, إيجار قديم, أحفاد من المؤكد أنهم ورثوا كل الجوع للحب والرعاية و الأمان.
ذلك الأمان الذي لا يتوفر مع الحب المشروط, فنحن لا نشعر بالأمان في علاقاتنا إلا حينما نشعر أنها علاقات بلا سبب, حينما نثق أن من حولنا يحبونا لذواتنا, وليس لجمال أو مال أو قوة, أو نفوذ, حينما نشعر بالتقدير والقبول بما نحن عليه من مساويء, وميزات, حينما يستقر مذاق الحب غير المشروط في حلقونا.
من هذه القيمة انطلقت للحديث مع عائلة عم صديق, واستمعت لكل منهم, والعجيب أن لكل منهم منطقة, ولكل منه مبررة, العجيب أن الجميع في هذه الأسرة, ضحايا الحاجة, والحرمان, ضحايا الزحام والتزاحم فوق أمتار من هذا الوطن لا تتسع لأبنائهم, وتصادر علي مستقبلهم, تمنعهم من الفصل بين الميراث العكر للجدود, وواقع ومستقبل الأبناء والأحفاد, ضيق الأمتار يخنق العلاقات, يجعلها باهتة, يحرق المسافات, فتحترق الحرية, وتنعدم الخصوصية, لو كان الابن لديه ما يملكه لتوفير السكن منفردا, ولو بجوار أبيه, لحافظ علي المسافات, وظل كليهما عزيزا علي الآخر, المسافات تعالج أخطاء الماضي, وتمنح الواقع غفرانا لا تمنحه الحميمية المشروطة.
ثورة الحب
بعد نقاش طويل مع الابن, اكتشفت خلاله, أن عم صديق تنتابه حالات هياج وصراخ ودموع, بسبب تذبذب تعاطي المسكن الموصوف لحالته- مخدرات يتم صرفها من التأمين الصحي- لتسكين آلام السرطان, وبسبب تفويت جرعة منها أصابه الهياج, لكن هياج عم صديق مفهوم, أما هياج ولده فغير مبرر, نعم الضغوط تدمر الأعصاب, لكنها أيا كانت لا توازي أعصاب رجل ينتظر الموت في أيامه الأخيرة, وربما يكون في ساعات الموت الأخيرة, عالما أنه سيرحل, ولا يعلم المجهول حتي لو كان لديه الرجاء, هدنة عمرها دقائق, هي التي قضيتها في معيتهم, لكنني علي ثقة أن الانفجار سيعود بعد ساعات وعلي الأكثر بعد أيام, لأن جحيم الحب المشروط اشتعل, ولا يمكن أن ينطفيء إلا إذا أراد الجميع, وللأسف لا يريد أحدهما ذلك, لأن كل منهما يري ذاته ضحية, ويتمسك بدوره, حتي يجد مبررا لموقفه, ولا حل إلا إذا أوجدنا من يقوم بدور الابن بدلا منه لعم صديق المرض, فإيجاد شخص مكلف, بخدمته ومتابعة أدويته وحمله من فوق السرير للحمام, لأن الزوجة مريضة أيضا وتبلغ 75 عاما, إذا تمكننا من توفير ذلك البديل, مقابل راتب ثابت سنخفف عن الرجل آلاما عظيمة في نهاية أيامه التي اقتربت, وسنخفف الضغط علي ولده وأسرته التي أصبحت مشوهة نفسيا.
تواصلوا معنا عبر المحمول – 01224003151
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة