معركة الإسماعيلية ملحمة تاريخية سجلت التحام قوي الشعب بالشرطة
الجنرال البريطاني أكسهام: رجال الشرطة المصريون قاتلوا بشرف واستسلموا بشرف
رجال البوليس والفدائيون لقنوا قوات الاحتلال درسا في معني الصمود والوطنية
عملة فضية تذكارية بمناسبة الاحتفال بعيد الشرطة في الثمانينيات
افتتاح متحف الشرطة بالإسماعيلية تخليدا لذكري المقاومة
يحتفل المصريون بعيد الشرطة في يوم 25يناير من كل عام وهو العيد القومي لمحافظة الإسماعيلية ذلك اليوم الاستثنائي في تاريخ مصر بصفة عامة, ومحافظة الإسماعيلية بصفة خاصة والذي شهد علي شجاعة ونضال رجال الشرطة المصرية في مواجهة الاستعمار البريطاني لمصر, وأيضا تعاون أهالي الإسماعيلية والتحامهم مع الشرطة في رفضها تسليم محافظة الإسماعيلية للبريطانيين, بالرغم من ضعف الإمكانيات والعدد مقارنة بالعدو المحتل فتكاتف الطرفان معا كل في موقعه, وخاض فئة من الشباب المصري الناهض في معركة الشرف والكرامة ولم ترهبهم تهديدات العدو ومضوا في خطتهم بما لديهم من أسلحة متواضعة وبسيطة واتجهوا علي الفور لضرب المعسكرات البريطانية المتمركزة في منطقة قناة السويس كلها, وبعد تصاعد عمليات مقاومة الفدائيين لقوات الاحتلال لم يكن مسموحا لأفراد جيوش الاحتلال بالسير في شوارع المدينة, إلا جماعات خوفا من هجمات الفدائيين الأبطال, وقام كل من الفدائيين ورجال البوليس المصري بخوض معارك ساخنة مع جيوش الاحتلال البريطاني, واستطاعوا أن يعلموهم درسا عظيما في معني الوطنية. انضم إليهم في صباح اليوم التالي المصريون جميعا في أنحاء الجمهورية وتلاحم الجميع مسلمين وأقباطا, للدفاع عن تراب الوطن الغالي فسقط العديد من الشهداء الأبرار والجرحي من كلا الطرفين وتعاون الأهالي مع قوات الشرطة في نقل أجساد الشهداء داخل ثكنات بلوكات النظام بعد أن قاتلوا بصبر وقتلوا بشرف وعزة, وسطروا بدمائهم أروع صفحات المجد والفخر لمصر كلها.
وفي نهاية المعركة تجمع شعب الإسماعيلية العظيم علي أرصفة محطة السكة الحديد, للترحيب بجنود الشرطة الأبطال واستقبلوهم استقبالا شعبيا حافلا وهم عائدين, ملوحين للجنود بأيديهم بعلامات النصر, فصار هذا اليوم التاريخي رمزا للقوة والكرامة للمصريين جميعا, وإن كان قد اكتسب أهمية خاصة لدي أهالي الإسماعيلية.. وسيظل يوم 25 يناير عام 1952 يوما خاصا في تاريخ مصر لن يمحي من ذاكرة المصريين علي مدي الأجيال يوم أن تصدي رجال الشرطة والمواطنون الشرفاء للاحتلال الإنجليزي بمحافظة الإسماعيلية وقدموا أنفسهم وأرواحهم فداء لهذا الوطن, وستظل الأجيال تتذكر فصلا مهما من فصول النضال الوطني الذي اندفع كالبركان ثائرا علي الظلم والاستبداد وباعتباره جزءا لا يتجزأ من قصة كفاح الشعب المصري المليئة بالأحداث والتي شارك فيها عموم المصريين بكل طبقاتهم من شرطة وفدائيين وعمال وطلبة ومفكرين.. إلخ ضد الاحتلال البريطاني الغاشم في منطقة القنال بالإسماعيلية, وضحوا بدمائهم لتظل مصر مرفوعة الرأس فإلي بداية معركة الصمود والتحدي التي تعد أهم معركة شعبية في تاريخ مصر المعاصر..
التمهيد لخوض المعركة
في نهاية عام 1951 كانت حدة التوتر بين مصر وبريطانيا قد وصلت إلي حد مرتفع, عندما أعلنت الحكومة المصرية عن فتح مكاتبها الخاصة لتسجيل أسماء عمال المعسكرات العاملين في منطقة القنال الراغبين في ترك عملهم, مساهمة منهم في دعم مسيرة النضال والكفاح الوطني, وتسارعت أعداد ضخمة من العمال وقتها لتسجيل أسمائهم في الكشوف المصرية المعلنة, وهجروا أماكن عملهم في معسكرات الإنجليز حتي بلغ عدد المقيدين في هذه السجلات في الفترة من يوم 16 أكتوبر وحتي 30 نوفمبر عام 1951 حوالي 91572 عاملا, واستكمالا للمسيرة الوطنية تقرر أيضا أن يتوقف كل من المزارعين والمتعهدين المصريين القائمين علي توريد الأغذية من الخضروات واللحوم وكذلك الأدوية وكل المستلزمات الأساسية الأخري, التي يعتمد عليها ما يقرب من ثمانين ألف جندي وضابط بريطاني في حياتهم بالمنطقة. الأمر الذي أزعج حكومة لندن, فكان الوضع شديد التعقيد بالنسبة للقوات العسكرية البريطانية المرابطة بالمنطقة, والتي تعرضت لموقف في غاية الصعوبة بسبب تعطل العمل داخل المعسكرات, وصارت قواتهم شبة محصورة بسبب منع إمدادهم بأساسيات الحياة هذا بالإضافة إلي اندلاع حركة المقاومة الشعبية, التي أطلق عليها وقتها أعمال الفدائيين في منطقة القناة ضد المحتل, وكانت البداية في يوم 16 أكتوبر عام 1951 بمظاهرات, عارمة انتشرت في أرجاء الإسماعيلية, قام بها مجموعة ضخمة من طلبة الجامعات والمدارس وشارك فيها العمال, وتم خلالها حرق مبني النافي (وهو مجمع استهلاكي للمواد الغذائية البحرية المخصصة لجنود الإنجليز وأسرهم, وتوالت عمليات الفدائيين, ومنها واقعة كوبري سالا, راح ضحية هذه الأحداث الفدائية المتتالية العشرات من الجنود الإنجليز, وكان أحد أبطالها الراحل محمد خليفة الشهير بشزام.
غضب قيادات الاحتلال
ليبدأ عضب قيادات الاحتلال البريطاني وتوعدهم بالتنكيل بالمدنيين من أبناء المدينة, حيث أدرك البريطانيون أن الفدائيين يعملون تحت حماية الشرطة وأن الطرفين تحالفا معا ضدهم, فاعتمدت خطتهم أولا علي أهمية تفريغ مدن القناة كلها من قوات الشرطة حتي يتمكنوا من الاستفراد بالمدنيين وتجريدهم من أي غطاء أمني يمكن أن يعتمدوا عليه, وبالتالي يسهل السيطرة عليهم فهددت قواتهم الحكومة المصرية للتراجع عن موقفها باحتلال القاهرة إذا لم يتوقف نشاط الفدائيين هناك وبدأوا يرهبون الأهالي والعمال علي السواء ويضغطون عليهم بفقد استقرارهم في المنطقة واتخذوا أسلوب الهجوم وإطلاق الرصاص علي الأفراد المدنيين وإلقاء القنابل علي منازل المواطنين المسالمين وغيره من الأعمال الوحشية وإزاء عدم استطاعة مصر الدفع بجيشها في تلك المعارك خوفا من تصفيته, واتخاذ الإنجليز ذلك ذريعة لإعادة احتلال القاهرة وباقي المحافظات, انعكس ذلك علي قوات الاحتلال المتمركزة في مدن القنال بالإسماعيلية, فأحدثت مجزرة كبيرة لم تشهد محافظة الإسماعيلية مثلها من قبل, وكان ذلك في أواخر عام 1951, والحقيقة أن هذا الاعتداء علي فئة من أبناء الشعب المصري كان من أهم الأحداث التي أدت إلي غضب المصريين جميعا, والاتفاق علي ضرورة قيام ثورة ضد الاحتلال البريطاني الغاشم في مصر عموما فتلاحم المصريون كلهم لتحقيق هذا الهدف الوطني بكل الوسائل الممكنة هذا بالإضافة إلي المحاولات المستمرة من قبل القوات البريطانية لإهانة الحكومة المصرية وإذلالها, حتي ترجع عن قرارها بإلغاء معاهدة عام 1936 التي أبرمتها مصر مع بريطانيا في لندن يوم 26 أغسطس عام .1936
حتي أثارت الحركة الوطنية مطلبا شعبيا عاما, بضرورة إلغاء المعاهدة التي أهانت المصريين جميعا الحريصين علي كرامة بلادهم, وحق الوطن في استرداد أراضيه المحتلة وتحقيق الاستقلال التام لمصر, وعلي الفور استجابت حكومة الوفد لهذا المطلب الشعبي, لذلك طالبت وزارة مصطفي النحاس باشا في مارس عام 1950 الدخول في عدة مفاوضات جديدة مع الحكومة البريطانية لتعديل بعض بنود الاتفاقية المجحفة لحقوق مصر, واستمرت هذه المفاوضات طيلة 9 شهور حتي الأول من ديسمبر عام 1950 بين الشد والجذب من الطرفين, لكن ظهر فيها تشدد الجانب البريطاني بعدم التنازل عن أي بند يتفق مع مصالحه الخاصة, مما جعل رئيس الوزراء مصطفي النحاس باشا يعلن رسميا أمام مجلس النواب في جلسته المنعقدة في يوم 8 أكتوبر عام 1951 قراره النهائي بقطع المفاوضات المعلمنة مع الجانب البريطاني بسبب عدم استجابته لأية مطالب تخص الجانب المصري, وتم بالفعل إلغاء معاهدة عام 1936 واتفاقيتي السودان وقدم رئيس الوزراء للبرلمان المصري مجموعة من المراسيم التي تشمل مشروعات القوانين المتضمنة هذا الإلغاء, فصدق عليها البرلمان بدوره وأقرها رسميا, وصدرت القوانين التي تؤكد الإلغاء الذي نتج عنه إلغاء التحالف بين بريطانيا ومصر واعتبرت القوات الموجودة في منطقة القناة قوات محتلة ومعادية للبلاد, ومن هنا بدأ النضال يشتعل مرة أخري وشاركت فيه كل فئات وطبقات الشعب المصري.
اندلاع الثورة:
في أعقاب إلغاء المعاهدة امتد شعور وطني جارف داخل المصريين بجميع طبقاتهم لضرورة انسحاب قوات الاحتلال من البلاد, ففي تمام منتصف الساعة السادسة صباح يوم الجمعة 25 يناير عام 1952 استدعي الجنرال السير البريجادير أكسهام قائد قوات الاحتلال في مدن القناة المقدم شريف العبد ضابط الاتصال المصري, وسلمه إنذارا رسميا بأن تسلم جميع قوات البوليس المصري وبلوكات النظام بالإسماعيلية كل ما تمتلك من أسلحة ومعدات للقوات البريطانية, وأن تنسحب قواتها المستقرة في دارالمحافظة والثكنات العسكرية بها, خلال ساعات قليلة من اليوم نفسه بكامل قواتها استعدادا للرحيل عن منطقة قناة السويس كلها والعودة إلي القاهرة بدعوي أن الفدائيين المصريين المكافحين ضد قواته في منطقة القنال كانوا يستخدمون دار المحافظة والثكنات العسكرية التابعة لها كمركز اختفاء لهم ولأسلحتهم التي يستخدمونها في المقاومة الشعبية هناك وهدد القائد البريطاني باستخدام القوة في حالة عدم الاستجابة الي إنذاره وتنفيذ أوامره, وعلي الفور قام كل من اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام بالإسماعيلية واللواء علي حلمي وكيل المحافظة بالاتصال هاتفيا بوزير الداخلية آنذاك فؤاد سراج الدين باشا في منزله بالقاهرة, فأمرهما برفض هذا الإنذار البريطاني المستبد, موجها رسائل عديدة إلي أبناء الشعب المصري المقاتلين بالمحافظة يساندهم ويدعم موقفهم الوطني, طالبا منهم الصمود واستمرار المقاومة الشعبية, وعدم الاستسلام لقوات الاحتلال الغاشم ودفع القوة بالقوة والمقاومة حتي آخر طلقة معهم وآخر رجل وأيد موقفه كل الفدائيين في المحافظة.
وبدأت الأنشطة الفدائية ضد معسكرات قوات الاحتلال البريطاني وجنودهم وضباطهم في منطقة القنال, واشتدت أعمال التخريب والتكسير لممتلكاتهم, فكانت الخسائر البريطانية نتيجة العمليات الفدائية فادحة, خاصة في الأيام الأولي من اندلاع الثورة بالإسماعيلية ولم يكن في وسع السير البريجادير أكسهام قائد القوات البريطانية في الإسماعيلية شيئا يفعله سوي إبلاغ وزير الداخلية المصري آنذاك فؤاد سراج الدين باشا بضرورة سحب القوات المصرية من منطقة القنال, والعمل علي إخماد هذه الثورة المشتعلة في بدايتها قبل أن تتفاقم الأزمة وتتطور لمراحل أخطر صعب السيطرة عليها بجميع الوسائل المتاحة.
استمرار المواجهة في قسم البوليس:
فقد القائد البريطاني في القناة أعصابه وأقدم علي جريمة أشعلت شرارة الثورة التي انتهت بطرده من البلاد وتحرير مصر من قيد الاستعمار بعد محاولات يائسة لإلغاء معاهدة الجلاء وكان آخر شيء يمكنه أن يفعله هو إرسال إنذار مماثل للإنذار الأول الذي سبق إرساله من قبل لضابط الاتصال المصري, فأرسله هذه المرة إلي مأمور قسم بوليس (أي شرطة) الإسماعيلية (أي قسم البستان, حاليا مبني مديرية الأمن بالمحافظة) يطلب فيه منه تسليم أسلحة جنوده وعساكره, وإلا سيتم تنفيذ تهديده السابق.
غير أن ضباط وجنود البوليس الشرطة المصريين رفضوا قبول هذا الإنذار المهين, وقاموا بتهديد قواته وطردهم من مقر القسم الأمر الذي ازداده غيظا من مأمور القسم, وخلال نصف ساعة فقط في تمام السابعة صباحا في ذات اليوم, كان السير البريجادير أكسهام والجنرال جورج إرسكين قد قررا إرسال فرقة كبيرة من القوات البريطانية, قدر عددهم بحوالي سبعة آلاف ضابط وجندي بريطاني, تحركوا من معسكراتهم وظلوا يجوبون شوارع الإسماعيلية وهم مزودون بأحدث الأسلحة وبحوزتهم عشرات من الدبابات السنتوريون الثقيلة الضخمة من عيار 100 ملليمتر, والعربات المصفحة والمدرعات, وعربات اللاسلكي, ومدافع الميدان من عيار 25 رطلا إلي جانب القنابل العديدة, والرشاشات المتطورة واتجهت هذه الحملة العسكرية الكبيرة لمحاصرة مبني المحافظة في الإسماعيلية, وثكنة بلوكات النظام التي تجاورها, والتهديد بنسف المبني علي من فيه, بينما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين لا يزيد علي 850 ضابطا وجنديا مستقرين في الثكنات العسكرية, وثمانين آخرين رابضين في مبني المحافظة, وجميعهم كانوا غير مسلحين بالمرة, ولا يحملون سوي بعض البنادق العادية العتيقة من طرازلي أنفيلد!!! وبالتالي لم تكن قوات البوليس (أو الشرطة) المصري وقتها مسلحة ومدربة بالقدرالكافي الذي يسمح لها بخوض هذه المواجهة العنيفة البشعة مع جيوش مدربة ومسلحة بأحدث الأسلحة, ومع ذلك قاوم الجنود المصريون بإمكانياتهم البسيطة المتاحة واستمروا يقاومون ببسالة وشجاعة فائقة لمواجهة هذا الحصار المحكم والمفاجئ غير عابئين بالتفوق الحربي للطرف الآخر.
توابع الموقعة:
استمرت المجزرة الوحشية من قبل قوات الاحتلال البريطاني في إطلاق النيران علي الجنود المصريين بشكل سريع ومتلاحق ومركز يصعب مقاومته من مجموعة صغيرة من القوات المصرية غير المستعدة, وكانت النيران تندفع نحوهم بدون توقف فانطلقت مدافع الميدان والدبابات تدك بقنابلها مبني المحافظة وثكنات بلوكات النظام بلا شفقة أو رحمة, وفي وقت قياسي جدا تمكن البريطانيون من استخدام كل ما معهم من الأسلحة في قصف مبني المحافظة, وبعد أن سالت دماء الجنود المصريين أنهارا أمر الجنرال أكسهام بوقف الضرب لمدة قصيرة, لكي يعرض علي رجال الشرطة المحاصرين المتبقين في الداخل إنذاره الأخير وفرصتهم الوحيدة في النجاة بأرواحهم, وهو التسليم والخروج رافعي الأيدي بدون أسلحتهم, وإلا فإن قواته سوف تستأنف الضرب بأقصي شدة وعلي الفور جاءه الرد من النقيب مصطفي رفعت, وهو يصرخ في وجهه بمنتهي الشجاعة والثبات, مرددا له: لن تتسلموا منا إلا جثثا هامدة وتملكت الدهشة القائد البريطاني المتعجرف لهذا الرد الشجاع من ضابط مصري شاب صغير الرتبة لكنه متأجج الحماسة والوطنية واستأنف البريطانيون هذه المعركة غير المتكافئة وغير المتساوية القوة بين القوات البريطانية وقوات الشرطة المصرية المحاصرة في القسم, فانطلقت مدافعهم ودباباتهم وقنابلهم تتساقط أكثر علي مبني القسم ولم تتوقف هذه المجزرة العنيفة حتي نفدت آخر طلقة معهم بعد أكثر من ساعتين مستمرتين من القتال المتواصل, كان مبني المحافظة قد تحول خلالها إلي إنقاض, بينما تناثرت في أركانه أشلاء الضحايا, وارتوت الأرض بدمائهم الطاهرة وقامت القوات البريطانية بالاستيلاء علي مبني محافظة الإسماعيلية.
خسائر قوات الشرطة:
ويري المؤرخون لهذه الفترة في تاريخ مصر أن الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدتها قوات الشرطة المصرية كانت فادحة للغاية وأنه برغم ذلك الجحيم ظل أبطال الشرطة صامدين في مواقعهم يقاومون ببنادقهم أقوي المدافع وأحدث الأسلحة البريطانية, حتي نفدت ذخيرتهم تماما, وتصدر العنوان الرئيسي لصحيفة الأهرام في عددها الصادر صباح اليوم التالي للمعركة ما يلي الإنجليز يهدمون محافظة الإسماعيلية ويعزلون المدينة وذكرت الصحيفة حجم الخسائر في الأرواح كالتالي.. سقط منهم في المعركة الضارية 64 شهيدا و80 جريحا, وأصيب نحو 200 آخرون رفض العدو إسعافهم, بينما سقط من الضباط البريطانيين 13 قتيلا و12 جريحا, وأسر البريطانيون من بقي منهم علي قيد الحياة من أفراد جنود وضباط قوات الشرطة المصرية الذين بلغ عددهم 1000 ضابط وجندي كانوا يتمركزون في مبني القسم, وعلي رأسهم قائدهم اللواء أحمد رائف الذين استخدمهم الاحتلال كرهائن لتنفيذ مطالبهم, ولم يفرج عنهم إلا في الأول من فبراير عام 1952 هذا بخلاف عدد آخر كبير من المدنيين والفدائيين الذين قاموا بدورهم في دعم أفراد البوليس المصري, كما أمر قائد القوات البريطانية بتدمير بعض القري المسالمة المحيطة بمحافظة الإسماعيلية اعتقادا منه أنها كانت مركز اختفاء الفدائيين المصريين المكافحين ضد قواته, فقتل عدد آخر ضخم جدا من المدنيين وجرح البعض أثناء عمليات تفتيش القوات البريطانية للقري المسالمة بعنف لا مثيل له, ولم يستطع الجنرال البريطاني أكسهام أن يخفي إعجابه الشديد بوطنية وشجاعة المصريين في المقاومة بأضعف الإمكانيات المتاحة لديهم, فقال للمقدم شريف العبد ضابط الاتصال المصري بعد انتهاء المعركة: لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف واستسلموا بشرف, ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعا ضباطا وجنودا, وعلي الفور أمر الجنرال البريطاني أكسهام جنود الفصائل البريطانية بأداء التحية العسكرية لصفوف رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من دار المحافظة ومرورهم أمامهم تكريما لهم وتقديرا لشجاعتهم وصمودهم في الدفاع عن أرضهم.
انضمام صفوف الشعب للمعركة:
سرعان ما انتشرت أخبار الحصار والمذبحة الإنجليزية الواقعة في الإسماعيلية في أنحاء مصر كلها, في صباح اليوم التالي من بدء المعركة الموافق السبت 26 يناير عام 1952, حيث تصدر الخبر الأليم العناوين الرئيسية لكل الصحف والمجلات القومية والعالمية, واستقبل المصريون أنباء هذا الحادث الأليم بالغضب والسخط فتوقفت الحياة تماما في هذا اليوم التاريخي, وخرجت مظاهرات عارمة انتشرت في معظم محافظات الجمهورية, بدأت الشرارة الأولي لها من القاهرة وانطلقت المظاهرات تشق شوارع القاهرة التي امتلأت بالجماهير الغفيرة الغاضبة, التي تندد بتلك الجريمة البشعة, وتنادي بحمل السلاح لمواجهة العدو الغاشم وشارك في هذه المظاهرات فئات عديدة من أبناء الشعب المصري الذين التحموا معا ضد الاستعمار الأجنبي من جنود الشرطة مع طلاب الجامعة والعمال والفلاحين وغيرهم حتي امتلأت الشوارع بالجماهير الغفيرة الغاضبة, الذين فاض بهم الأمر فراحوا ينادون بحمل السلاح ومحاربة الإنجليز, وطردهم تماما من البلاد, مهما كلف الأمر وحدث في هذا اليوم حريق القاهرة الذي تسبب بشكل واضح في تدهور شعبية الملك فاروق لأبعد مستوي, وتسببت هذه الأجواء غير المستقرة في التمهيد لقيام حركة الضباط الأحرار بعد ذلك بشهور قليلة, وتحديدا يوم 23 يوليو في نفس العام بمباركة الشعب وبقيادة اللواء محمد نجيب.
تخليد الحدث:
ونتيجة لهذه البطولات الخالدة التي أفجعت المصريين جميعا أقامت ثورة يوليو عام 1952 نصبا تذكاريا بمبني بلوكات النظام بالعباسية تكريما لشهداء الشرطة, وهو عبارة عن تمثال رمزي لأحد رجال الشرطة البواسل الذين شاركوا في هذه الأحداث المحزنة بقوة وشجاعة واستشهدوا خلال معركة الصمود في الإسماعيلية. افتتحه الراحل اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية آنذاك, وتقرر أيضا أن يكون يوم 25 يناير من كل عام هو عيد للشرطة, إحياء ليوم مقاومة أفراد البوليس المصري للمحتلين الإنجليز, ومقاومتهم الباسلة وهم تحت الحصار, وتخليدا لذكري الدماء التي جرت من أجل الوطن, وللرجال الأبطال الذين رفضوا الاستسلام أمام العدو وعلي الرغم من خروجهم من مبني المحافظة وهم مأسورون, إلا أنهم خرجوا رافعي الرؤوس وفي صباح يوم 25 يناير من كل عام يقوم مدير أمن محافظة الإسماعيلية ومحافظ الإسماعيلية يرافقهم عدد من القيادات الأمنية والتنفيذية بافتتاح النصب التذكاري داخل معسكر قوات الأمن, ووضع إكليل من الزهور علي مقابر الشهداء الأبرار تخليدا لذكراهم العطرة, وتذكرة للأجيال القادمة ببسالة أبناء مصر الشرفاء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل بلادهم, أيضا في مناسبة الاحتفال بأعياد الشرطة يوم 25 يناير عام 1987 افتتح وزير الداخلية الأسبق زكي بدر متحف الشرطة بالإسماعيلية تخليدا لذكري مقاومة البوليس المصري للإنجليز, ويوجد هذا المتحف بالدور الأرضي في مبني مديرية أمن الإسماعيلية, وبمناسبة مرور 36 عاما علي أحداث موقعة الإسماعيلية عام 1952, الاحتفال بعيد الشرطة, أصدرت الدولة في 25 يناير عام 1988, عملة فضية تذكارية فئة خمسة جنيهات مصرية لم تتداول, القطعة مصنوعة من معدن الفضة عيار 720 بوزن 17.5 جراما وتعادل قيمتها المالية حوالي 280 جنيها وهي من القطع المميزة نظرا لارتباطها بثورة 25 يناير المجيدة, وفي مناسبة الاحتفال بنفس الذكري الخالدة قام وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم بإعادة افتتاح المتحف مرة أخري بعد أن أغلق لفترة طويلة بسبب أعمال التحديث والتطوير فيه, وذلك في يوم 17 يناير عام 2015 ويضم المتحف عددا من اللوحات التذكارية التي تروي تاريخ معركة الشرطة ضد البريطانيين عام 1952, كما يحوي عددا ضخما من الأسلحة التي كانت تستخدمها الشرطة علي مر العصور منذ عهد محمد علي باشا الكبير, بالإضافة إلي وجود ماكيت داخل صندوق زجاجي بداخله مجسم رائع لمعركة الشرطة أمام قسم البستان بديوان عام محافظة الإسماعيلية القديم أثناء محاصرة القوات البريطانية للمحافظة, هذا بالإضافة إلي مجموعة نادرة للغاية من الملابس الخاصة بزي الشرطة علي مر العصور وأسلحة عسكرية وسيوف كان يستخدمها رجال الشرطة في العصور القديمة, بالإضافة إلي لوحة تذكارية تضم كل أسماء الشهداء والمصابين في معركة الشرطة مع البريطانيين عام 1952 ويفتح المتحف أبوابه أمام طلبة وتلاميذ المدارس وذلك بالتنسيق المسبق مع مديرية أمن الإسماعيلية وذلك لتعريف الطلبة والتلاميذ تاريخ الشرطة علي مر العصور وتناول اللوحات المتواجدة داخل المتحف عددا من اللقطات التاريخية, التي تحكي القصة الكاملة لمعركة الوطنية والكرامة لرجال الشرطة والفدائيين في الإسماعيلية عام 1952 بأسلوب مبسط وواقعي يسهل فهمه, كما تقوم مديرية أمن الإسماعيلية في هذا اليوم بتنظم احتفالية ضخمة, بحضور قيادات الشرطة والقوات المسلحة ومحافظ الإسماعيلية, لاستعراض جميع المعدات والأسلحة للإدارات المختلفة في طابور عرض عسكري يبدأ من أمام مبني المديرية في شارع محمد علي ويطوف الشارع حتي ميدان السادات في نهاية الشارع, وتعزف الموسيقي العسكرية السلام الوطني, وتوقف هذا الاحتفال لمدة عامين في 25 يناير أعوام 2012 و 2013 عقب الأحداث التي لحقت بالبلاد, والأحوال الاقتصادية والأمنية الصعبة التي مرت بها في هذه الفترة, وعادت الاحتفالات بداية من عام 2014, وهي احتفالات رمزية بسيطة يتم خلالها تكريم عدد من رموز وقيادات الشرطة, وكانت محافظة الإسماعيلية تحتفل بالعيد القومي لها في اليوم نفسه, حتي تم تغيير العيد القومي للمحافظة عام 2016 من يوم 25 يناير إلي يوم 16 أكتوبر من كل عام, حتي تظل الاحتفالية خاصة بالشرطة وأحداث 25 يناير عام 2011.
أقوال الزعماء عن الاشتباكات:
ذكر اللواء الراحل محمد نجيب في خطبة خاصة بالاحتفال بمرور سنة علي أحداث المعركة: نحتفل بذكري شهدائنا الأبطال الذين سجلوا لمصر مجدا وعظمة وفخرا في كل يوم تظهر لنا الأيام مثلا جديدا يضربه الجندي المصري في البطولة والشجاعة والتضحية بروحه في سبيل رفعة الوطن وإننا إذا رجعنا الي المثل الذي نحتفل به اليوم فلا تجد له مثيلا, نفر قليل من المؤمنين من أبطال قوات الشرطة المصرية ضحوا إلي آخر نسمة من أرواحهم في سبيل الوطن أمام قوات تفوقهم قوة وعددا وعتادا إنهم قد فنوا عن بكرة أبيهم, وفي هذا أقصي درجات المجد, وسوف يظل كفاحهم هذا فخرا لنا جميعا علي مر الأيام, إن واحدا منهم لم يتزحزح عن مكانه, أو يتخل عن موقعه فعلينا ألا ننسي شهداءنا الأبطال.
وعلق الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بقوله: إننا كنا نراقب دائما أيام القتال كيف كان يكافح رجال البوليس العزل من السلاح رجال الإمبراطورية البريطانية المسلحين بأقوي الأسلحة, وكيف صمدوا ودافعوا عن شرفهم وشرف الوطن, كنا نراقب كل هذا وكنا نحس في نفس الوقت أن الوطن الذي يوجد فيه هذا الفداء, وتوجد فيه هذه التضحية بدون مقابل ولابد أن يمضي قدما إلي الأمام.
وقال الرئيس الأسبق أنور السادات في إحدي خطبه كانت حوادث القتال تتفاقم يوما بعد يوم, وكان شباب مصر يقوم بأعمال عظيمة وهو أعزل من كل سلاح إلا وطنيته وإيمانه الذي تسلح بهما, وكان رجال البوليس يتحملون العبء الأكبر من أعباء الجهاد ضد جيش كبير كامل التسليح فتمسكوا بأرضهم حتي آخر قطرة دم فيهم.
وذكر الرئيس الأسبق حسني مبارك أيضا في إحدي خطبه: في هذا اليوم من كل عام يحتفل شعبنا الوفي بأحد أعياده الوطنية التي يعتز بها كل مواطن ينتمي إلي البلد الأمين. لقد جسدت الشرطة علي مر السنين القيم الراسخة للشعب المصري حين التزمت بالأمانة والإخلاص في تحمل المسئولية مهما كانت تضحياتها وكان الولاء الأسمي لله وللوطن, والالتزام الصارم للواجب والمسئولية هما العنصران اللذان دفعا رجال الشرطة إلي التفاني التام في عملهم ليلا ونهارا.
أخيرا:
تم إقرار يوم 25 يناير من كل عام إجازة رسمية للحكومة والقطاع العام بقرار جمهوري صدر من الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك, وأعلنه الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء آنذاك كنوع من التقدير لجهود رجال الشرطة المصرية واعترافا بتضحياتهم في سبيل حفظ الأمن والأمان واستقرار الوطن, وبدأ العمل بهذا القرار لأول مرة في تاريخ مصر في فبراير عام 2009, ويذكر أيضا أن عددا من المجموعات المصرية المعارضة قد اختارت هذا اليوم لبدء احتجاجات شعبية في عام 2011 ضد الحكومة بدأت من ميدان التحرير بالقاهرة وسرعان ما انتشرت في كل محافظات الجمهورية, احتجاجا علي تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد واتخذت لها شعارا عيش ـ حرية ـ كرامة إنسانية, لتصل هذه الاحتجاجات إلي أوجها خلال ثلاثة أيام وتعم أرجاء البلاد في يوم 28 يناير عام 2011, الذي أطلق عليه لاحقا اسم جمعة الغضب التي كانت سيناريو مكررا للفوضي التي شهدتها مصر من قبل في يوم 26 يناير عام 1952 وراح ضحية هذه الأحداث أعداد كبيرة من الشباب وعرفت هذه الأحداث فيما بعد باسم ثورة 25 يناير وعلي أثرها تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية, وكلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بقيادة البلاد وتوالت الأحداث بعد ذلك.
مراجع الدراسة:
العلاقات المصرية البريطانية ـ محمد فريد حشيش
البوليس المصري ـ الدكتور عبدالوهاب بكر
أعداد أرشيفية من جريدة الأهرام ـ السبت 26 يناير عام 1952, الأحد 27 يناير عام 1952
جريدة الأهرام ـ أعداد 25 يناير عام 1987, 17يناير عام 2015
جريدة الأخبار ـ عدد 26 يناير عام 1952
جريدة الجمهورية ـ عدد الأول من فبراير عام 2009