قضت الفتاة الصغيرة وقتا طويلا تتأمل رفوف الكتب, وتتناول كتابا بعد آخر تقلب صفحاته,ثم تعود إلي كتاب بعينه كان من الواضح أنه أثار اهتمامها.
أخيرا أمسكت الفتاة التي لايزيد عمرها علي أحد عشر عاما بذلك الكتاب, وتقدمت إلي الشابة المشرفة علي جناح بيع كتب الأطفال بمعرض القاهرة الدولي السنوي للكتاب,وسألت: كم ثمنه؟ أجابت المشرفة: ثلاثة جنيهات.
وفي حركة كأنما لاشعورية تراجعت إلي الخلف ذراع الفتاة مع يدها التي تمسك الكتاب, وظهرت علي ملامحها علامات خيبة الأمل, ولاحظت المشرفة ما لاحظته أنا فأسرعت تسأل الفتاة: هل ثمنه مرتفع؟.
في استحياء وصوت خافت قالت الفتاة:كنت أظن ثمنه لايزيد علي جنهين وبابتسامة قالت المشرفة: لماذا جنيهان بالذات؟ لم تجب الفتاة لكنها مدت قبضة يدها,وفتحتها فظهرت ورقتان ماليتان كل منهما من فئة الجنيه, قالت المشرفة في حب وحنان: يمكنك أخذه جنيهين وتناولت منها النقود وأعطتها الكتاب مع إيصال بثمنه,وتطلعت إلي الإيصال فوجدتها قد كتبت أن ثمن الكتابثلاثة جنيهات.
وانصرفت الطفلة سعيدة بكتابها,فتقدمت نحو المشرفة وسألت مبتسما: من الذي سيدفع ذلك الفرق؟,قالت المشرفة ودمعة تكاد تسقط من عينيها: كأنني اشتريته لابنتي,التي فقدتها منذ عام.
هذه واحدة من ذكرياتي عن إحدي دورات معرضنا الدولي للكتاب عندئذ حدثت نفسي: هذه مشرفة كتب مسئولة أحد أجنحة كتب الأطفال بالمعرض ومن الواضح أنها تفعل هذا لأنها تؤمن أن كتاب الطفل هو المستقبل ولهذا تتذكر دائما الكتب التي كانت ستقدمها لابنتها,ولا تتردد في تقديمها لأية صغيرة تبحث بنفسها عن كتاب وتدفع ثمنا له كل ما معها من مصروف أما الصغيرة فقد قابلتها بعد لحظات مع والدها يحمل عددا من الكتب التي اشتراها من المعرض,فتقدمت لتحيته ولأعبر له عن سعادتي بابنته التي تركها تكتشف ما في المعرض بنفسها فأكد لي أنه منذ كانت ابنته في الخامسة وهو حريص علي أن يصحبها معه إلي معرض الكتاب, ثم أضاف: لكي تعيش ساعات بين آلاف الناس الذين يتجمعون لغرض واحد, هو التعرف علي الكتب, وشراء الكتب وتدخلت الصغيرة في الحديث لتقول بابا يشجعني ويشتري كتبا لمكتبتي في البيت.
إن كل طفل يمكن أن يصبح قارئا لايشبع إذا استمتع في سن مبكرة بالإصغاء إلي من يقرأ له, فالقراءة بصوت مرتفع لصغار الأطفال,توقظ خيالهم وتعمل علي نمو مهاراتهم اللغوية, كما تهيئ الأطفال لأن يقضوا مع المربين أوقاتا سعيدة يسودها الحب والمشاركة,وعندما تقرأ الأم لابنها الذي لم يتجاوز الثانية من عمره قصة مناسبة لسنه,وهو يتابع بعينيه الرسوم والكلمات المطبوعة فمن الطبيعي أن تسمعه أمه يقول بعد الانتهاء من الحكاية: أماه.. أقرئيها لي مرة ثانيةفهذه هي الجائزة الثمينة التي تحصل عليها الأم في مقابل تلك اللحظات التي تقضيها وهي تقرأ لابنها.
ولكي تحصل الأم علي هذه الجائزة,فإن عليها أن تبدأ بالقراءة لطفلها منذ الأسابيع الأولي بعد ولادته, تقرأ له الحكايات البسيطة المكتوبة في عبارات لها إيقاع,علي أن يتم هذا في جو تسوده الحميمية والحب, وعندما يستطيع الطفل أن يلقي أسئلة علينا أن نرحب بأسئلته وأن نجيب عنها, والطفل الذي جعلناه يشترك معنا في الاستمتاع بالكتب قبل سن الرابعة,فإنه عندما يذهب إلي روضة الأطفال,يكون قد شاهد عشرات الكتب ومئات الرسوم وآلاف الكلمات,وعندئذ لن يجد صعوبات في تعامله مع مشرفة الروضة أو مع الكتب والقراءة لقد أصبح لديه محصول لغوي يساعده علي فهم كل ما يسمعه من مشرف أو مشرفة الحضانة أو الروضة,وبذلك يكون أكثر قدرة علي الإصغاء والتركيز مع ما يسمع وما هو مطلوب منه, وبتعبير آخر سيكون طفلا جاهزا للتعلم وراغبا فيه, إن الأم التي تقرأ لابنها الصغير,هي أم تستثمر وقتها وإرادتها لمصلحة مستقبل ابنها,وهو استثمار لايحتاج منها إلي أكثر من ربع ساعة إلي نصف ساعة كل يوم, وكل أموال الدنيا لن تقدم أرباحا أو نتائج تساوي ما تقدمه هذه الدقائق القليلة التي نقضيها ونحن نقرأ لأطفالنا أو نقرأ معهم كل يوم.
بقلم: يعقوب الشاروني
رائد أدب الأطفال
[email protected]