“الحى العربي” رواية جديدة للكاتب أسامة علام تصدر عن دار الشروق بمصر، وتأتي هذه الرواية ليستكمل بها الكاتب مسيرته الروائية التى تتميز بخلق عوالم متخيلة عن مدن عاش فيها وعاشت فيه، مدن تملكته، فلم يجد أمامه سوى إمتلاكها وإعادة تشكيلها فى خياله، فباتت المدن فى أدبه واقعا وخيالا. والكاتب مصري مهاجر يعيش في مدينة مونتريال الكندية، وهذه المدينة بالذات ليست مجرد مكان يعيش فيه بل باتت عشقا يسكنه، فهي مشعوقته التي يعرف تفاصليها ويدمن استكشاف خباياها وثراء هوامشها. إنها المدينة عندما تعطي الشخص وتنال منه، وبالنسبة للمبدع فإن سطوة المدن تثير غرائزه الأدبية، فيقرر هو الآخر أن ينال منها ويعطيها أدبا وفكرا ولغة.
والحي العربي هو فضاء مُتخيل صنعه الكاتب عندما قرر أن ينفصل الحي العربى في مدينة مونتريال ويعلن الاستقلال الذاتي عن المدينة ومقاطعة كيبيك. يرفع الكاتب جداره المتخيل، الذى ربما يكون موجودا ثقافيا في الأصل وفي واقع الجالية العربية في هذه المدينة متعددة الثقافات. والجدار له وظيفة تتجاوز رمزية إعلان الانفصال، فوظيفته الأدبية هي خلق المسرح الروائي للكاتب، حيث تدور أحداث الرواية خلفه وهناك نلتقى بمزيج من الغرائبية والواقعية. فشخوص الرواية متخليون ولكنهم فى الوقت ذاته واقعيين إلى الحد الذي الذى يشعرك بأنك إذا ذهبت إلى المدينة قد تلتقيهم على مقهى أو فى مستشفى أو أمام الجدار وعلى أبوابه أو حيارى تائهين فى شوراع المدينة وحاناتها وهوامشها المظلمة، إنهم هناك ولن يكونوا إلا هناك، فى المدينة وخيال الكاتب.
وكأى رواية هناك شخصية محورية، إنه الرجل العربى الذى يتولى الزعامة في الحي العربي المستقل، ولكن حتى هذه المركزية مشكوك فيها، فزوجته التي رحلت عن العالم في فورة الاستقلال تظل روحا سابحة في فضاء الرواية، تتجلى في المواقف والعلاقات، إنه التناقض بين مركزية الذكر البرجماتي المادي، ومركزية الأنثى/الأم التي تأبى الفناء حتى بعد موتها. وحول هاتين الشخصيين المحوريتين تدور كل الشخوص في مسارات دائرية تلتقى ونفترق وتتقاطع ألما وفرحا. والكاتب المولع بالتفاصيل والهوامش يصنع شخصيات مركزية، ولكن شغفه بالهوامش يجعلنا نذهب معه بسلاسة إلى عالم المهمشين، والهامشية في خياله مقبضة ولكنها بلا شرور، فهى الفضاء الرحب للحب والفن.
وإذا كان لي أن أصنف الأدب بمعيار الصباح والمساء، ففي ظني أن رواية “الحي العربى” هي رواية مسائية بامتياز، ولا أغنى بذلك أنها مظلمة، ولكن ما أعنيه أن أحداثها وإن بدأت نهارية ويومية فإنها تصعد بنا نحو اللحظات المسائية، وكأن الضوء والنهار مجرد رافعة لأحداث مسائية فيها الحياة والموت، والشاعرية والعنف. ويبقى أن أقول أن القارئ الذى يعرف مدينة مونتريال قد يكون فى مقدوره التعايش مع جغرافيا الحي العربي المُتخيل، وأن من لا يعرفها قد يفعل الفعل ذاته ولكن ربما باستدعاء مدينة أخرى يعشقها، وقد يلتقى خياله بخيال الكاتب ويشاركة متعة التلاعب بالمدن المعشوقة.