يعلمنا السيد المسيح قائلا: كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم. لا تدينوا فلا تدانوا. لا تحكموا علي أحد فلا يحكم عليكم. اعفوا يعفا عنكم (لو6:36-37).
كان هناك رجل مسن يكسب قوته اليومي من حصيلة بيعه لبعض الملابس الرخيصة, ولكن للأسف كان بعض الأشخاص عديمي الضمير يعتبرونه ضعيف الفهم والإدراك, لذلك كانوا يدفعون له نقودا مزورة, ولكنه كان يقبلها في صمت دون أي اعتراض, ووصل الحال بالبعض الآخر أن يدعي بدفع النقود له ولم يكن هذا صحيحا, ومع ذلك كان الرجل المسن يثق في كلامهم. وعندما أصبح علي فراش الموت, رفع صلاته لله قائلا: يارب, لقد قبلت الكثير من النقود المزيفة التي كان يدفعها لي الناس, ولكنني لم أدنهم في قلبي, وكنت أكتفي بالادعاء بأنني لم ألاحظ تصرفهم هذا, أنا أيضا نقود بلا قيمة, أرجوك ألا تدينني. فسمع صوتا من السماء يقول له: كيف أدين شخصا لم يدن الآخرين أبدا؟.
ما أجمل الدرس الذي يعلمنا إياه هذا الرجل في عدم دينونة الغير والبساطة والكرم والمحبة التي تتغاضي عن شر الآخرين, ولا يرد الشر بالشر ولكنه يغفر إساءة الناس, كما أنه يعلمنا كيف يستطيع الإنسان أن يعرف حدوده: أنا عملة بلا قيمة.
كم من الأشخاص يدينون الغير بناء علي المظهر الخارجي ويحكمون عليهم دون فهم حالتهم؟ من منا يتحلي بالشجاعة حتي أنه يواجه نفسه ليصلح عيوبه؟ هل يوجد من يفحص ذاته من الداخل حتي يكتشف التشوهات التي بداخله ولا يعلمها إلا الله وحده؟
يقول أحد القديسين: إن الأشخاص الذين يتسامحون مع أنفسهم عندما يخطأون, نجدهم قاسيين مع الآخرين. لكن الإنسان القوي يستطيع أن يواجه ذاته ويري حقيقتها ويغزوها بشجاعة, لأنه ينظر نفسه في المرآة الصادقة التي لا تكذب ولا تتجمل ولا تنافق, ومن ثم يبدأ في إصلاحها. ونطلب من الله أن يعطينا الشجاعة حتي نغير من أنفسنا ما نستطيع فعله, ويعطينا القوة لكي نرضي عما عجزنا عن تغييره.
كم من المرات ألقينا خلف ظهورنا عيوبنا وأخطاءنا, بينما نضع نصب أعيننا أخطاء وسلبيات الغير؟ ونعيش هذا الواقع المؤلم عندما نكون علي خلاف مع أحد الأشخاص, نتصيد له كل شئ يقوم به ولا نرحمه مهما كانت الظروف التي يمر بها, حتي أننا نكيل بمكيالين: نتهاون مع سلبيات البعض لأنهم من المقربين لقلوبنا, بينما مع الآخرين الذين علي خلاف معنا ننتظر اللحظة التي يقعون فيها حتي لا نرحمهم بسياطنا ونجلدهم أمام الغير.
هل نستطيع أن نصبح صارمين مع أنفسنا ورحماء مع الآخرين؟ للأسف, صعب جدا, وكما يقول المثل الألماني: نحن نملك مائة عين ننظر بها الآخرين, ولكن عينا واحدة نحو ذاتنا.
يا ليتنا نفتح أعيننا لننظر عيوبنا وأخطاءنا حتي نصلحها, وننظر للغير بعين الرأفة والحنان ملتمسين لهم العذر علي ما يصدر منهم. من يفتش عن عيوبه, يستطيع أن يتخلص منها, لأن كل شخص منا أفضل من يدرك حقيقة نفسه ومكنون ذاته, لأنه سيضع يديه علي أمراضه الداخلية وإصابته بالداء فيعالجها كالجراح الذي يتقلع أسباب الورم. وهنا نطلب من الله أن يمنحنا ذاكرة ضعيفة تنسي إساءات الغير, وذاكرة قوية تسجل أفضالهم. فالإنسان مجهول بالنسبة للآخرين, وإذا اكتشف نقائصه وفضائله في ذات الوقت, مما لا شك فيه سيعالج الأولي, وينمي الثانية, وبهذه الطريقة سيصبح أفضل مما سبق, لأن من ينظر إلي نفسه بنفسه ويحاسبها وينتقدها, يمكنه أن يغير مسارها إلي الأفضل لأنه سيتخلص من شوائبها التي تعوق الرؤية عن كل ما هو جميل, وبناء علي ذلك يستطيع أن يشاهد جمال الدنيا وما فيها, وفي ذات الوقت يلتمس العذر للآخرين.
لكن من لا يقول بذلك, يتغاضي عن عيوبه ويبدأ في انتقاد الغير ويتطاول عليهم, لأن هذا ناتج عن مرض عضال في حياته, اسمه النقد الهدام وهو مرض السطحيين ومحدودي الذكاء, ونجد أمثال هؤلاء يخوضون في أحاديث لا معني لها حتي أنهم يجاملون أصحابهم علي حساب سمعة الغير, ويبدأون في انتقاد هذا, والسخرية من ذاك, وكما نعرف جميعا أن نقائص العظماء هي عزاء الضعفاء, لأن من يفتش عن أخطائنا, لن يجد سواها.
لا ننكر أن النقد البناء لنا, يساعدنا علي النمو والتقدم والبناء, وهذا ما نسميه الإصلاح الأخوي. ونختم بالقول المأثور: أنت أحسن من ينصحك, ولكنك لا تفعل ذلك.