النظر إلى النساء والتحديق فيهن قضية كبرى تناولتها الأديان والأدب والفلسفة والكتابات النسوية. والنظرة بالمعنى العاطفي هى بداية التواصل، وكما قال أحمد شوقي: “نظرة فابتسامة فسلام فموعد فلقاء ففراق”. ولكن النظرة أيضا تدخل في نطاق التحريم الديني بوصفها المدخل لعالم الشهوات المحرمة، فقد دعت الأديان إلى غض البصر. ويعد النظر، والتحديق على وجه الخصوص والذي يعني إطالة النظر وتسديده، قاسم مشترك في أفعال التحرش الجنسي، وهو أيضا درجة من درجاته حتى ولم يرتبط النظر بقول أو فعل.
وقد حظي النظر والتحديق باهتمام الحركة الفكرية والفنية النسوية في سياق نقد بالأعمال الفنية المرئية (السينما، والنحت، والتصوير)، أي تلك الأعمال التي ارتكزت على تشيئ جسد المرأة وجعله موضوعا للفرجة والتحديق. تقول فيونا جارسون في مقالها “النسوية والجسد المنشور ضمن كتاب النسوية وما بعد النسوية): “بلغت النظريات الخاصة بتشيئ جسد المرأة أوجها عقب المقال الشهير الذي كتبته لورا مالفي ف ي عام1975 بعنوان “المتعة البصرية والسينما الروائية” والذي تحلل فيه تمثيل نجمات السينما مارلين مونرو بطريقة تجعلهن أشياء يحدق فيها الرجل فى السينما الروائية في هوليوود”. وتقول “إن المتعة السينمائية المستمدة من المشاهدة هي أساسا إثارة لمخيلة المشاهدين الذكور. إذ أن متعة النظر للمثيرات الشهوانية عن طريق المخيلة السينمائية تصنع صورة الشخصيات النسائية ونجمات السينما كأشياء “فيتيشية” (يتعلق بها المرء تعلقا شديدا عوضا عن الجنس) أمام التحديق الذكوري”. وفي هذا السياق تتساءل: ماذا لو تم قلب المشهد السائد لتصبح المرأة هي التي تحدق وتنظر؟
وفي الحقيقة أن هذا الرأي لفت نظري إلى واحدة من أجمل أغاني ليلى مراد “بتبصلي كده ليه” والتي غنتها في فيلم “ليلى” إنتاج سنة 1942 والمقتبس عن الرواية العالمية “غادة الكاميليا” للروائي والكاتب المسرحي الفرنسي “الكسندر دوماس الأبن”. وهذه الأغنية نموذجا لتحدي المرأة لنظرات الرجال فضحها. وفيها نكتشف إبداع كلمات أحمد رامي، فكلماته تأخذ الشعر إلى مصاف الفلسفة، كما نكتشف إبداع المخرج إبداع المخرج توجو مزراحي، الذى لا نعرفه كثيرا، ناهيك عن الأداء الرائع لليلى مراد فى هذه الأغنية والتي جاءت في بداية مشوارها الفني.
تفضح الأغنية نظرات الرجال من خلال الكلمات والأداء، فالكلمات تغنيها إمرأة تواجه أمام نظرات الرجال بنظرات أكثر حده وثبات المرأة بعيون مفتوحة لا ترمش. ونجد أن كل مقطع يعبر عن نمط من نظرات الرجال تقابله في الأغنية نظرة المرأة (ليلى مراد) وتحديقها العنيد. في المقطع الأول عندما تدخل بثقة محاطة بنظرات الرجال تذهب إلى النظرة العاطفية من حسين صديقي، والتي يغلب عليها طابع الإعجاب والانبهار مع حياء خفيف، فتقول: “بتبصلي كدة ليه ما تقولي قصدك إيه … بتبصلي كدة ليه عايز تمنيني .. ولا صعبت عليك حبيت تواسيني .. ولا شفت الحب نايم جوه قلبي ..حبيت تشاغل مهجتي وتصحي حبي”. ونلاحظ أن الكلمات تأتى كلها فى صيغة سؤال بدون انتظار إجابة.
ثم تنتقل إلى النظرة الماكرة في عيون عبد السلام النابلسي، فتصبح نظرتها أكثر تحديا وحدة وفيها لغة التقرير والفضح وليس السؤال، فتواجهه بعناد وتقول: “بتبصلي كدة ليه والمكر جوه عينيك .. سرحان تناجي إيه والحيرة باينة عليك .. أنت شفت الورد فتح ع الغصون .. قلت تقطف وردة وتداوي الشجون. وفي تحديها يضطر عبد السلام النابلسي إلى تحاشى النظر إليها في إنكسار ثم يرفع نظره المكسور بتوتر، ويرفع يده علامة على الرغبة في الانتقام من عيون إمرأة تخترقه وتفضحه.
ويأتي بعد ذلك مقطع مواجهة النظرة الحائرة والحزينة لرجل جالس ينظر إليها من موقعه في الأسفل، في حين تقف هى لتحدق فيه من أعلى وتقول: “بتبصلي كدة ليه وانت حزين ولهان .. لا حب تبكي عليه ولا حبيب غضبان .. انت عايزني أواسيلك جراحك .. ولا أغنيلك وتنسى طول نواحك”.
وفي كل هذا وعيون ليلى مراد تحدق بقوة ولا ترمش، فهي ثابتة وتخترق نفوس من هم أمامها. وبالتوازي تنقل لنا الكاميرا نظرات حسين صدقي التي تظل على حالها من الوله والانبهار، إلى أن يأتي المقطع الأخير والذي تتقدم فيه لتواجه الجمهور المشاهد أمام الكاميرا وخلفها عيون باهتة لتلخص فحوى الحكاية، حكاية النظرة الذكورية، فتقول: “مال عيونكم عطشانة عايزة اللي دايما يرويها .. ومال قلوبكم حيرانة مش لاقية حاجة ترضيها”… وتتحول من كونها إمرأة تنظر إلى إمرأة مستهدفة بالنظر فتقول: “أضحكّم واسليكم واندمكم وأواسيكم .. وتاخدوا للجمال يزيد وأنا اللي هاخده منكم إيه”. فيرد الجمع المبهم “الفلوس”.
في الحقيقة أن “أغنية بتبصلى كده ليه”، ينبغي أن نسمعها ونحن نشاهدها، فالمشاهدة جزء لا يتجزأ من الاستمتاع بهذه الأغنية وفهمها والإحساس بها. ويمكن لى أن أقول أن هذه الأغنية من أكثر الأغاني التي تكشف وتفضح النظرات الذكورية، وذلك عندما تنظر المرأة وتحدق وتفضح.