هل اختبرت العيش بلا جدران تحميك من عيون البصاصين؟ هل اختبرت العيش بلا مأوى فتستند رأسك في نهاية يوم مرهق إلى سلم إحدى البنايات، لتذهب عينيك في نعاس عميق، بينما يلتوي جسدك من شدة الألم، عبر نظرات الشفقة، وتمتمات الشفاه المارة فوق جسدك المدلي على أحجار القسوة؟ هل اختبرت يوما ما احتياجك لدورة المياه كي تغتسل، أو تقضي حاجتك، ولا تستطيع لأنك قعيد الشوارع، مشرد فوق الطرقات؟ هل اختبرت أن تكون زوجتك مستباحة للعيون، وأبناؤك يتلقون خبراتهم من المارة؟ جميعها خبرات مؤلمة، لن يشعر بمرارتها سوى من اختبرها.
خبرات نتائجها مرعبة، تبدأ بالأمراض النفسية وتنتهي بالإدمان والاغتصاب، والضياع، صارت الجدران الأربع حلم أي أسرة فقيرة تسكن بعقود إيجار جديدة، ارتفاع نسبة الإيجارات سنويا مرعب، يفوق ارتفاع الزيادات في الدخول، هذا بالنسبة لمن يتمتعون بدخول مستقرة، فما بالنا بـالأرزقية، هل نرتضى لهم مصيراً معوجاً، وحياة مكشوفة، وعواقب كارثية، سوف ترتد في وجه الجميع يوماً ما، لا أعتقد أن أحدا يرضى بتلك الخبرة المؤلمة، لكن الواقع يشير إلى العكس، إذ تلقى باب افتح قلبك خلال الفترة الأخيرة عشرات الاستغاثات، من حالات تحتاج للمساعدة في سداد إيجار السكن، عشرات الحالات قيد التشريد قبل نهاية شهر أكتوبر، عشرات الأسر، تنتظر الطرد، لأن عائلها لا يمتلك مبلغ الإيجار الذي يتراوح في معظم الحالات ما بين 600 جنيه وألف جنيه.
جميعها من الحالات التي استضفناها من قبل، وقدمنا لها العون في مواقف عديدة، معروفون لدينا، لكن ما باليد حيلة، مازالت نفوسهم تصرخ ونصرخ معها، بسبب الفقر والعجز والغلاء، والبعض منهم لا يستطيع حتى الصراخ، فيئن أنات مكتومة تصيبه بالمرض ، والبعض يموت قهراً وغيظاً وحسرة، والبعض تنقذه العناية الإلهية من الموت لتتلقفه الصدمات الصحية، من جلطات في القلب والمخ، فيصير قعيدا ً وحملاً فوق حمل، ويفقد ثقته في القدير، لأن هناك من بسطوا أياديهم لكنها لم تصل إليه بعد.. أولئك هم وسطاء القدير ليس من عندياتهم شيء، ولا بينهم من يملك، لأن الله يملك، ومن يعطي فهو شاهد للعلي، ومن يضن على رأسه دماء أولئك المعوزين.
أكتب تلك السطور، ولدي قناعة تامة أن الفقر حالة عالمية لا يمكن القضاء عليها عبر الحكومات فقط أو التبرعات الطوعية فقط، وإنما بالتكاتف بين الطرفين، ولأن غياب السكن والتشرد، من أهم تداعيات الفقر، يخطئ البعض إذ يتصور أن حقوق الإنسان، تقتصر على الحقوق السياسية، وإنما يسعى الساسة لإقرار الحقوق السياسية من أجل خدمة البشرية وتحسين جودة العيش، وتمكين الناس من الحق في جودة الحياة، وهو مصطلح ربما يبدو جديداً على البعض، فالفقر انتهاك صارخ للحق في جودة الحياة، لأن الحاجة والعوز وعدم القدرة على الحصول على احتياجات الحياة الأساسية التي أهمها السكن والطعام والملبس، هو السبب الحقيقي لإنتاج معوقات الحرية الإنسانية والمشاركة والعدالة جميعها تندرج تحت انتهاكات الكرامة الإنسانية، لذلك يسعى دعاة حقوق الإنسان للقضاء على الفقر.
حينما شرعت في إعادة كتابة السطور التالية عن إحدى حالات افتح قلبك، وصلني إيميل من معهد جنيف لحقوق الإنسان، هذا المعهد مقره في سويسرا، يدعو المعهد فيه حكومات العالم أن تصدق النوايا في مواجهة الفقر، ويخاطب منظمات العالم، ويناشدها الإنصات إلى صوت الضمير، والاستماع إلى صوت الفقراء والنظر إلى أحوالهم والسعي معاً لرفع تحدي الفقر ومكافحته بالوسائل الفعالة والإرادة الصادقة، وإبعاد أسباب الفقر الطبيعية وإيقاف الحروب والنزاعات الداخلية والصراعات الدولية التي تقوض تطوير وتنمية البلدان الفقيرة، ومن المضحكات المبكيات أن العالم احتفل هذا العام باليوم العالمي للقضاء على الفقر في 17 أكتوبر الجاري، هو نفس اليوم الذي جاءتني فيه عشر حالات لا تملك قوت يومها أو جدران أربع لحمايتها، دققت النظر في هاتفي لأقرأ الإيميل سريعاً ثم عدت ورفعت وجهي في حجرة الاستقبال بجريدة وطني لأجد الناس يجلسون فيها وخارجها، ومنهم من جلس على سلم الجريدة, حيث اكتظ المكان بالفقراء، فأي مواجهة تلك التي يواجهها العالم والناس مشردون.
أغلقت هاتفي واستقبلت رجلا تخطى الخمسين من عمره، لا يعمل، لأنه عاش في خدمة والدته إلى أن رحلت منذ ثلاثة أعوام، وبعد أن رحلت لم يكن لديه ما تعلمه ليعمل به، ولا مكان ليسكن فيه، إخوته لم يعيروه التفاتاً لأنهم فعلوا ذلك من قبل مع والدتهم، ستة إخوات، لكن حسب تعبيره – قساة القلوب – قال في صوت خفيض: أنا مش لاقي آكل، مش معايا فلوس لأي حاجة، ومش باعرف أعمل حاجة ولا اشتغل حاجة، وكل ما روح لحد يرفض يشغلني لأن سني كبر، مش قادر أصدق إزاي ربنا يسمح بكده وأنا عشت خدام تحت رجلين أمي، ورضيت نعيش إحنا الاتنين بمعاش أبويا، ودلوقتي معاش أبويا اتقطع ومفيش أي مورد رزق لي، وإخواتي وحشين، أروح فين، الكنيسة بتديني 200 جنيه لكن صعب جدا أعيش بهم مايعملوش أي شيء، حينما أنصت إليه أدركت أنه لا يمكن أن يعمل لأنه مسكين إلى حد الانطواء، لن يستطيع أن يواجه الحياة بعد أن سجن نفسه في مرض أمه.
أما التالي فكان رجل في الخمسينيات من عمره، جاء ليروي لنا قصة ربما يأتي يوم وننشرها كاملة لكن الآن لا يمكن – حسب رغبته – تم الاستغناء عنه من عمله بعد إصابته بالانزلاق الغضروفي، زوجته تعمل في إحدى المستشفيات، وراتبها 1800 جنيه، لديه ثلاثة أولاد، أوسطهم مدمن، نعم مدمن.. يبكي الرجل حينما يتحدث عن ولده ويقول: الزمن كسرني مش كفاية مرضي، وباحاول أجيب من كل ناحية فلوس وباشحت علشان أسد اللي علي لكن ابني كمان راح اتعلم في المدرسة شرب الحشيش، ابني هايضيع مني ومش عارف أعمل إيه، استلفت وأخدت قروض علشان ألم عيلتي في بيت، وقدرت أخد شقة ماننطردش منها، اتلهيت أنا وأمه بعد ما اتفصلت من شغلي الأول، واشتغلت في مركز خيري كنت باجري في الحياة علشان أوفر لهم سكن محترم، لغاية ما أصبح علي ديون بـ300 ألف جنيه، سديت كتير، لكن في الآخر المركز قفل، وبقيت على باب الله، وبقية الديون هاتدخلني السجن، والعيال مش هاتلقى تتعلم وتاكل، والولد الوسطاني بيشرب مخدرات، والبيت اتخرب، ومن تاني هانرجع الشارع، نفس الشارع اللي وصلنا للنتيجة دي، نفس الأزمة ونفس التشرد، أنا مش بعفي نفسي من الغلط، لكن البيت كله يضيع صعب وبدأ يبكي ويضرب في وجهه ويقول لا يارب بلاش يارب حرام حرام.
أما الحالة الثالثة فكتبنا عنها من قبل، أنه شاب عيناه تشعان بالذكاء والتحدي والإرادة، ربما التهور أيضا، وجهه ضحوك باسم، قسماته تمتلك حيوية، وشباباً يعبران عن عمره، زوجته لها وجه يشبه وجه الملائكة، حينما تراها تشعر بالراحة، أزمتهما الوحيدة في الحياة هي سداد الإيجار الشهري، يجتهدان دائما في العمل، ويعيشان بأقل القليل، لكن الإيجار وستر الجدران لا ينتظر ثمرة الكفاح، وقعة ألم الأسرة في نفس الأزمة عدة مرات ساعدناها ونشرنا عنها من قبل، لكن كان علينا أن نعيد النشر مرة أخرى، فالأزمة مستمرة باقية على صدورهم، وها نحن نعيد للمرة الثانية نشر قصتهما، قبل أن يتشردا ومعهما طفلان ومسنة.
مريم سيدة شابة تبلغ من العمر ثلاثين عاماً، لديها طفلان الابن في الحادية عشر من عمره والابنة في العاشرة من عمرها، تحيا مع والدة زوجها راغب، الذي يعمل في صناعة صناديق الموتى، جاءت طلبا في الستر قبل العطاء، فالستر يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء الأسرة بين أربع جدران، بلا تهديد، ولا وعيد من صاحب عقار، ولا من انتهازي جبان يساوم على الشرف، ولا من طامع، أو طامح في هدم كيان الأسرة.
أربعة جدران تحمي من نهش العيون، وشر الأبالسة، وكيد الشماتين، أربعة جدران هي كل ما يحتاجه المرء ليبدأ رحلة الحفاظ على الستر، من منا يستطيع أن يحيا مشرداً؟ من منا يستطيع أن يحيا بلا حماية من الجدران الأربع؟ لا أحد، قد نستطيع الحياة بلا كماليات ولا أساسيات، إلا المسكن، إذا ضاع ضاعت معه معالم الكرامة، فقيمة الإنسانية في خصوصية العيش، وسر الستر في اجتناب البصاصين والمتربصين من كل نوع.
مريم حاصلة علي دبلوم تجارة تزوجت بمجرد إنهاء دراستها، زوجها يعمل في أحد المحال الكبري لصناعة صناديق الموتى، أنجبا ولدا ًوبنتاً، لكن بقاء الحال من المحال، تدهور الحال جدا، فلا يوجد في المسكن سوى أنتريه تقدم به باب افتح قلبك العام الماضي للأسرة، وسريرين ودولاب، فعلاً باب النجار مخلع فكيف لرجل يعمل في النجارة ألا يمتلك أثاثاً في منزله، البعض سألني هذا السؤال عندما نشرنا في المرة الأولى عن هذه الأسرة، لكن للأسف الخشب مثله مثل سائر المواد الخام في مصر، ارتفعت أسعاره بشكل جنوني مثلما طفح الغلاء في كل شيء في وطننا الحبيب، ولا يملك الرجل أن يشتري شيئا.
إنه في الثالثة والثلاثين من عمره، اسمه راغب زوج مطحون يبحث عن مساعدة، لكنه لم يقصر في السعي فهو بكامل صحته، كان مصاحبا لزوجته، سألته لماذا لا تتمكن من الاكتفاء والعمل بشكل أقوى حتى تساعد نفسك على العيش؟ قال راغب لا تحكمي على شخصي الضعيف قبل أن تستمعي لقصتي كاملة، وطلب راغب أن يروي ما حدث له، وها نحن نعيد ما رواه حرفياً ربما نجد من يمد يد العون إلى أسرته، قال: في ليلة من ليالي الصيف، بعدما خلصت شغلي رحت قعدت مع أصحابي علىالقهوة، ووقتها كنت لابس تي شيرت نص كم، وطابع وشم وش السيد المسيح علي دراعي وكتفي، والوشم ظاهر من الـتي شيرت، جه أمين شرطة وظابط، كانوا لابسين ملكي فماحدش عارف إنهم شرطة، وقف الظابط وسألني، إيه ده؟ رديت: ده وش المسيح، فالضابط قال لي إنت بتعمل بيه يعني؟ رديت وقلت له أنت مالك، الضابط اتنرفز وتشاجر معي وضربنا بعض، وهو خرج منها، وأنا أخدت سنة سجن.
يكمل راغب قائلا: سنة مش باشوف عيالي، وإزاي أشوفهم، ويفضلوا فاكرين طول العمر شكلي وأنا في السجن، سنة بعيد عن أمي ومراتي، سنة شفت فيها الذل، وأي حد ممكن يتخيل لما أدخل السجن لأني ضربت ضابط ممكن تكون معاملتي شكلها إيه، والنار بتاكل في قلبي من القلق على بيتي وأولادي، باتقطع لأن مراتي ماكنش لها مورد رزق فاضطرت تنزل تشتغل عاملة نظافة في الكنيسة، تمسح وتكنس ورا الناس، وتستني ده يديها جنيه وده يديها خمسة جنيه علشان تسد جوع العيال، أو تروح للدكتور مع أمي، وأنا في عز شبابي، ورا الأسوار.
حينما روي الرجل قصته أذكر جيدا أنه أنهاها وأنهي معها كل صبر وتحكم في عينيه حتى لا تنفجرا بالدموع، وحينما تيقن من أن كل كلمة وصلت في موقعها من نفسي وعقلي، انهار في نوبة بكاء طويلة، أما زوجته فأكملت معاناتها والشق الذي يخصها في القصة قائلة: لما جوزي كان في السجن، كنت بامسح واكنس في الكنيسة، ولغاية دلوقت لأن مافيش مورد رزق يستر، وكنت باجيب خرز وأعمل منه جلاليب لكن ماقدرتش أكمل، لأني بارجع بعد يوم من النظافة مش قادرة أقف، خصوصاً أني عندي روماتيزم في القلب، ولما خرج راغب من السجن، حاول يرجع لمكان شغله، لكن للأسف صاحب الشغل مارضيش، وهو ما يعرفش يشتغل شغلانة تانية غير دي، كان كل حلمه يعمل مكان لنفسه يصنع فيه الصناديق، ويقدر يعمل مستقبل لعيالنا، لكن راح الحلم، بعد كده أخدته ورحنا الكنيسة، وحكينا لأبونا كل الحكاية، فوافق يساعده، والكنيسة خصصت له مكان صغير، يعمل فيه صناديق الموتى لأخوة الرب، بياخد في الأسبوع 300 جنيه، يعني في الشهر 1200 جنيه، وأنا مرتبي 400 جنيه، وأمه معاشها 325 جنيه يادوب بيقضوا علاجها بالعافية، يعني دخلنا على بعضه 1600 جنيه، والإيجار لوحده ألف جنيه، لأننا عزلنا من المكان القديم علشان ماتحصلش مشاكل بعد ما اتسجن وأخدنا شقة إيجار جديد في شبرا علشان أمان، البيت فاضي لا فيه عفش ولا سراير ولا أي حاجة مافيش غير سرير بينام عليه العيال، وإحنا بننام على الأرض، المشكلة أن الإيجار مكسور علينا 3 شهور، ومافيش عفش، تعبنا من النوم علي الأرض، تعبنا جدا.
قطع راغب حديثها قائلا: عمرك شفتي واحد كل حلمه يعمل صناديق أموات؟ ضحكنا جميعاً، وبدأ الأمل يدب في نفسيهما، وقدمنا لهما بعض المساعدات، لكن مع مرور الوقت وحلول العام الدراسي الجديد، تراكم الإيجار مرة أخرى ليصل إلى ثلاثة أشهر جديدة، أي ثلاثة آلاف جنيه، ومصروفات الدراسة والكتب وتكاليف يومية لا يمكن لأرزقي سدادها، لابد أن يكون قادراً على العمل بانتظام، إنه يريد العمل لكن ليس لديه أي رأس مال، ساعدنا مرارا ًبمبالغ بسيطة حتى يشتري بعض ألواح الخشب والستان، لكن الأمر غير مجد، لذلك نعيد نشر قصته ربما يجد من يستند إليه في بداية مشواره.