رحلة العائلة المقدسة.. كانت رحلة هروب من 2000 سنة أما الأن صارت رحلة بركة ونصرة.. رحلة تتمتع بها العيون والأذهان والنفس والروح.. مسار العائلة المقدسة مكون من نقاط متناثرة في كل أنحاء خريطة مصر بدءاً من رفح في سيناء ومروراً بالشيخ زويد ثم العريش ومنطقة محمية الزرانيق ثم المحمدية وتل فرما (25 كم شرق بورسعيد) وهي المحطة الأخيرة البرية داخل مصر قبل أن تستقل العائلة فرع النيل البيلوزي – وهو فرع النيل الذي كان يربط بابليون بسيناء في ذلك الوقت. ومن تل بسطة وصلت العائلة إلى مسطرد، وكان المفترض أن يذهبوا جنوباً إلى بابليون ولكن غالباً وجدوا من يتتبعهم من جنود هيرودس فغيروا اتجاههم ودخلوا مدن الدلتا.. بلبيس ثم سمنود ودقادوس ثم سخا.. ومنها وصلوا لمنطقة وادي النطرون ثم رجعوا إلى المطرية وعين الشمس ثم حارة زويلة وأخيراً وصلت العائلة المقدسة إلى بابليون مصر القديمة وأخر محطة قبل الصعيد كانت المعادي التي كانت وقتها الحدود الجنوبية للعاصمة منف.
ومن المعادي بدأت العائلة المقدسة رحلتها في منطقة الصعيد، وعبر النيل وقفت العائلة المقدسة في منطقة دير الجرنوس أو البهنسا – وهي الأن قرية صندفا ببني مزار مركز مغاغة المنيا. ثم توجهت إلى جبل الطير ثم منطقة الأشمونين وبعدها دير أبو حنس شرق ديروط ثم ديروط الشريف ثم القوصية ومير ثم دير المحرق وأخر نقطة جنوباً كانت دير العذراء بدرنكة، حيث بدأت العائلة المقدسة رحلة العودة من منطقة الجنادلة التي كانت مركز للسفن الكبيرة.
وكما وصف القمص أنجيلوس جرجس في كتابه “ملامح من رحلة العائلة المقدسة وكنيسة المغارة” أن تلك الرحلة استغرقت ما يقرب من ثلاث سنوات ونصف تحركت فيها العائلة المقدسة في الأراضي المصرية وباركت كل أراضيها.
صاحبت “وطني” الأسبوع الماضي أول رحلة روحية نيلية مقامة على خطى العائلة المقدسة بصعيد مصر.. تابعة لكنيسة العذراء مريم بالزمالك، بقيادة القس يعقوب رمسيس– أحد كهنة الكنيسة، حيث توجهت الرحلة إلى أسيوط بأوتوبيسات من القاهرة لتصل إلى المركب التي أبحرت بنا في النيل على خطى العائلة المقدسة من أسيوط حتى المعادي
دير درنكة
أول نقطة في رحلتنا كانت بجبل أسيوط الغربي في دير العذراء مريم بدرنكة الذي يعتبر أخر نقطة زارتها العائلة المقدسة، وتقع 8 كيلو جنوب غرب أسيوط على طريق الغنايم.. وهناك شاهدنا المغارة التي مكثت بها العائلة المقدسة ورأينا بداخلها أيقونة العذراء مريم والطفل يسوع التي تُزف كل عام أثناء صوم العذراء.. وبوجودنا في دير درنكة لا يمكن أن ننسى بركة نيافة الحبر الجليل المتنيح الأنبا ميخائيل الذي خدم بأسيوط 68 سنة من حياته وقام بنهضة روحية ومعمارية عظيمة جداً في ربوع إيبارشية أسيوط ودير العذراء، وتنيح بسلام في 23 / 11 / 2014 ، فقمنا بزيارة المزار الخاص به الذي يعرض متعلقاته الخاصة وصور من مراحل تاريخية متعددة في حياته.
ووقفنا وسط الكنيسة الرئيسية بالدير المنحونة داخل الجبل أمام الهيكل الخشبي نصلي المزامير كلنا معاً بصوت واحد متضرعين إلى الله من أجل بركة ورحمة في جو من الروحانية مؤثر جداً.
وأيضا شاهدنا عملية تنمية وتطوير في المكان بتوجيهات نيافة الحبر الجليل الأنبا يؤنس أسقف أسيوط الحالي الذي يسعى دائما للبنيان والإعمار، ففي شهر مايو الماضي افتتح الانبا يؤنس والمهندس ياسر الدسوقي محافظ أسيوط، “بيت مريم” الذي يعد فندق متميز يتيح الفرصة لإستضافة سياح وزوار لدير درنكة، وذلك لمواكبة وضع أسيوط على خريطة السياحة العالمية. وسعة هذا الفندق 200 سرير وبه قاعة مناسبات ومؤتمرات ومطعم ضخم.
مبنى دير درنكة بأسيوط
أيقونة العذراء مريم والطفل يسوع في المغارة التي مكثت فيها العائلة المقدسة – دير درنكة
هيكل خشبي يتوسط الكنيسة المحفورة في الجبل
مزار المتنيح الأنبا ميخائيل
دير المحرق
ثاني نقطة قمنا بزيارتها كانت دير المحرق، الذي كتب عنه في سفر أشعياء: “في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر” (أش 19: 19) وكانت العائلة المقدسة قد مكثت في منطقة جبل قسقام – الموجود فيها الدير، مدة ستة أشهر.
وقف راهب من الدير أمام المذبح الأثري القديم، وروى لنا أنه أيام البابا ثاؤفيلس البطريرك الثالث والعشرون ذهب إلى دير المحرق ووجد المذبح الأثري صغير فأراد أن يبني مذبح أخر أكبر ليليق بمكانة المكان المقدس، فظهرت له العذراء في تلك الليلة وقالت له: “لا تفكر في هذا ولا تدشنه لأن ابني الحبيب قد دشنه بيديه الطاهرتين” وأعلنت للبطريرك أن السيد المسيح حضر إلى هذا المكان معها ومع التلاميذ بعد قيامته من الموت ودشن هذا المذبح وشرحت له أيضا تفاصيل رحلة العائلة المقدسة في أرض مصر. ثم تجولنا في أنحاء الدير وشاهدنا أيقونات العائلة المقدسة الأثرية المعروضة هناك.
مدخل دير المحرق بأسيوط
السور الداخلي لدير المحرق
المذبح المقدس الذي دشنه المسيح بنفسه
ديروط الشريف
في صباح اليوم التالي، توجهنا إلى منطقة ديروط الشريف على بعد 20 كيلو من ملوي، لزيارة دير الأنبا صرابامون الأسقف والشهيد. والدير كان في الأصل دير للراهبات مشيد هناك وجاء إليهن الأنبا صرابامون هارباً من بطش الحكم ومكث عندهم أربع شهور فقط إلى أن تم القبض عليه واستشهد.
والدير به كنيسة قديمة صغيرة مشيدة حول شجرة عمرها يزيد عن 2020 سنة وكانت العذراء والطفل يسوع يستظلا تحتها في رحلتهما بصعيد مصر، ويقال أن العائلة المقدسة مكثت هناك بضعة أيام.
الشجرة مازالت موجودة حتى يومنا هذا وهي من نوع القزوارينا وتم عمل دراسات عليها من علماء أمريكان وهولنديين أكدوا أن تلك الشجرة هي الشجرة الأصلية وعمرها أكثر من 2020 عام، وهي تعتبر الشجرة الوحيدة في مسار العائلة المقدسة التي تظهر كشجرة أصلية، فشجرة المطرية مثلاً تعد الخلفة الثالثة من الشجرة الأصلية بنفس المكان.
ووسط هذا الجو الروحاني البسيط وقفنا نسبح الله على تلك النقاط التاريخية التي تركتها العائلة المقدسة كبركة لأراضي مصر كلها.
الشجرة التي استظلت تحتها العائلة المقدسة
جزع الشجرة داخل الكنيسة في دير الأنبا صارابامون
الشجرة المعمرة يظهر الهيكل جانبها
الأشمونين
أما اليوم الثالث توجهنا إلى ملوي التي كانت تعرف بـ “الأشمونين” قديماً، وشهدت تلك المدينة حضارة فرعونية حيث كانت مركزاً دينياً لثمانية آلهة فرعونية وكانت مركزاً أيضا لإله الحكمة تحوت. ثم صارت المدينة اسمها “هيرموبوليس” وقت البطالمة مركز للفكر الهليني والآلهة اليونانية. وبعدها أصبحت مدينة رومانية يوجد بها حمامات رومانية ومركزاً كبيراً للعبادة الوثنية الرومانية وكان يوجد بها معبد للإمبراطور نيرون. ويذكر التاريخ سقوط أوثان معابد البطالمة الرومان في هذه البلدة وقت دخول السيد المسيح والعائلة المقدسة فيها، فهاج كهنة الأوثان وخرجت العائلة المقدسة من البلدة. وفيما بعد تحول المكان إلى مركز هام للمسيحية وللشهداء على إسم المسيح.
وركز أبونا يعقوب رمسيس من كنيسة الزمالك في تأملاته على أن كل مكان من نقاط مسار العائلة المقدسة يجب أن يكون له تأثيره في حياتنا الروحية.. وفي موقع الأثار المهدمة التي زرناها بالأشمونين شبه أبونا يعقوب الأثار المهدمة من الأوثان بكل شئ نتمسك به في حياتنا ونعتز به، فكما تهدمت الأوثان فور وصول المسيح هل نهدم نحن كل شئ دنيوي نتمسك به وقت سكنى المسيح في قلوبنا؟ وقفنا جميعاً نصلي من أجل أن يعطينا الرب القدرة على هدم أوثان قلوبنا وعبادة الله وحده.
أثار منطقة الأشمونين
عتب المدخل الرئيسي للكنيسة البازيليكية – الأشمونين
وفي نفس المكان زرنا كنيسة أثرية صغيرة بإسم القديس ودامون الأرمنتي الذي قيل أنه كان قديس من مدينة أرمنت، وذات يوم كان جالسًا في بيته وكان عنده ضيوف من عبدة الأوثان. فقال بعضهم لبعض: “هوذا قد سمعنا أن امرأة وصلت إلى بلاد الأشمونين ومعها طفل صغير يشبه أولاد الملوك”، وصار كل منهم يتحدث عن الصبي.
فلما انصرف الناس ومضى كل منهم إلى بيته نهض ودامون وشدَّ دابته وركب ووصل مدينة الأشمونين، ولما أبصر الطفل يسوع مع مريم أمه سجد له. فلما رآه الطفل تبسم في وجهه وقال له: “السلام لك يا ودامون. وقد تعبت وأتيت إلى هنا لتحقيق ما كنتم تتحدثون به داخل مجلسكم وأنتم جلوس تتكلمون من أجلي، فإني سأقيم عندك ويكون بيتك مسكنًا لي”.
فاندهش القديس ودامون وتعجّب ثم قال: “يا سيدي إني أشتهي أن تأتى إليَّ وتسكن في بيتي، وأكون خادمًا لك إلى الأبد”. فقال له الصبي: “سيكون بيتك مسكنًا لي أنا ووالدتي إلى الأبد لأنك إذا عدت من هنا وسمع عُبَّاد الأصنام أنك كنت عندنا يعزّ عليهم ذلك ويسفكون دمك في بيتك. فلا تَخَف لأني أقبلك عندي في ملكوت السموات إلى الأبد مكان الفرح الدائم الذي ليس له انقضاء، وأنت تكون أول شهيد في بلاد الصعيد” فقام الرجل وسجد للسيد المسيح، فباركه ثم انصرف راجعًا إلى بيته.
لما عاد ودامون إلى أرمنت سمع عباد الأوثان بوصوله وشاع الخبر في المدينة أن ودامون زار يسوع. فأتى عباد الأوثان مسرعين وشهروا سيوفهم عليه وأكمل شهادته.
لما أُبطِلَت عبادة الأوثان وانتشرت المسيحية في البلاد، قام المسيحيون وبنوا بيته كنيسة على اسم السيدة العذراء مريم وابنها الذي له المجد الدائم. وهذه الكنيسة هي التي تسمى الجيوشنه وتفسيرها “كنيسة الحي” بظاهر أرمنت.
جدارية مرسومة داخل الكنيسة الأثرية تحكي قصة القديس ودامون
خرائب أنصنا
وفي نفس اليوم وبالقرب من الأشمونين توجهنا إلى منطقة تسمى خرائب أنصنا، والتي جسدت لنا حياة أجداد لنا تمسكوا بعبادة إلههم حتى الموت. فبعد أن استلم إريانوس والي انصنا مراسم دقلديانوس باضطهاد المسيحيين ارسل لهم من خلال أسقفهم أن يأتوا ليسجدوا لمعبودات الملك، فرفضوا بشدة وفرحوا لسفك دماؤهم على إسم المسيح، فغضب الوالي إريانوس وأمر بقطع رؤوسهم جميعاً حتى امتلأت شوارع مدينة أنصنا بالدم، وظلت مسرحاً لاستشهاد المسيحيين، ولم يحدث في أي مكان أخر أن استشهد مثل ذلك العدد من الشهداء في عصر الوالي إريانوس.. والجدير بالذكر أن السنكسار يخبرنا بأن الوالي إريانوس استشهد على إسم المسيح بعد ما صغر جداً في عيني نفسه وأدرك قوة الشهداء لذلك اجتذبته نعمة الله لا للإيمان فحسب وإنما للاستشهاد أيضا.
جاءت زيارتنا لخرائب أنصنا والشمس تميل إلى المغيب، وجدنا أنفسنا في صحراء ممتدة تنتثر بها أطلال ما كان يوماً ما مدينة زاهرة، وأعطي كل منا ورقة بها بعض التأملات عن الشهادة والشهداء ثم أصبح لنا كامل الحرية للتجول بالمكان مدة ساعة. فحل علينا شعور بالرهبة أننا نخطو فوق أرض تضرجت بدماء شهداء اختاروا العذاب حتى الموت ولم ينكروا المسيح.. ويشهد تراب هذه الأرض عن ألوف من الذين أحبوا المسيح وعاشوا له وقدموا حياتهم من أجله حتى الموت، وأصبح تراب هذا المكان نفسه وأنقاض بيوتهم له قيمة روحية وعلامة في التاريخ المسيحي. هؤلاء الذين لم يحسبوا حتى حياتهم ثمينة من أجل محبة المسيح. على دماء هؤلاء تأسست الكنيسة التي لن يقوى عليها أبواب الجحيم، ولهؤلاء الأبطال في الإيمان يرجع فضل وجودنا نحن مسيحيو مصر حتى هذا اليوم.
خرائب أنصنا
بيت مهدم من مدينة أنصنا القديمة
يشهد تراب هذه الأرض عن ألوف من الذين أحبوا المسيح
دير جبل الطير
من ضمن النقاط التي وصلت إليها العائلة المقدسة في سمالوط كانت مغارة فوق جبل الطير على الضفة الشرقية من النيل.. وكانت هذه النقطة هي الزيارة الأخيرة في رحلتنا النيلية. فأخذتنا الأوتوبيسات من عند مرسى المركب وصعدنا الجبل وبوصولنا أعلى الجبل انكشف أمامنا منظر في منتهى الجمال للنيل والمزارع المحيطة بالجبل، وعلى الجبل نفسه ظهر دير جبل الطير ومساكن محيطة به.
يذكر التقليد أنه أثناء عبور العائلة المقدسة في النيل الملاصق للجبل كانت صخرة كبيرة ستقع عليهم فمد السيد المسيح يده فوقفت الصخرة وانطبع كف المسيح عليها، وهناك أنشأت الملكة هيلانة كنيسة في القرن الرابع سميت “سيدة الكف” في مكان المغارة التي مكثت بها العائلة المقدسة. وعرف هذا المكان باسم “دير البكرة” أيضا وذلك لأن قديماً كانت الوسيلة الوحيدة لصعود الزوار لأعلا الجبل كان بمصعد خشبي يتم رفعة بحبال على بكرة.
وأصل هذا المكان الذي رأته العائلة المقدسة ومكثت فيه 3 أيام كان مغارة على جبل وسط الصحراء وسلم طويل مؤدي إليها، وهذا المكان كان قديماً مقبرة يونانية منحوتة داخل الصخر بارتفاع دور وقبلها كان مكان فرعوني لأن وجدت على الأعمدة نقوش فرعونية ويونانية. وبعد وجود العائلة المقدسة فيه استمر على حالته مدة 300 سنة إلى أن تم إنشاء كنيسة “سيدة الكف” فيه.
منظر جبل الطير من النيل
الدير فوق جبل الطير والمزارع تمتد عند سفح الجبل
أيقونة هروب العائلة المقدسة لمصر.. من الفسيفساء بدير جبل الطير
الكنيسة الأثرية بجبل الطير
المغارة التي مكثت فيها العائلة المقدسة فوق جبل الطير
المغارة بكنيسة “سيدة الكف” بجبل الطير
رحلة العودة ورسائل روحية
ومن سمالوط تحركت المركب متجهة إلى المعادي في رحلة نيلية ممتعة كشفت على ضفتي النيل جمال وبساطة الريف المصري والترحاب الشديد من فلاحين هذه المناطق.
ولم تكن رحلة حج سياحي فحسب بل تخللتها رسائل سمائية جعلت للرحلة تأثير في حياتنا الروحية ودفعة لبداية جديدة ورجاء مستمر في الحياة.
محررة وطني بجبل الطير