تعتبر عبارة “نحن مجتمع شرقي” من العبارات الشائعة والمألوفة فى تقافتنا منذ بدايات العصر الحديث، فهي عبارة “نمطية” يكثر استخدامها من قبل اتجاهات فكرية وكذلك على مستوى خطاب الحياة اليومية. وغالبا ما ترتبط هذه العبارة بأمور أخلاقية تخص النساء أو العلاقة بين الرجال والنساء، ونسمعها في كثير من المناسبات على سبيل التأكيد والتذكير بأن قيمنا وأخلاقنا مختلفة عن قيم وأخلاق من هم ليس نحن. وتعريف “هم ليس نحن” يعني المجتمعات والثقافات الغربية التي تعتبر في الوعى العام النقيض لأخلاقنا وعاداتنا، فيتم تقديم هذه العبارة وكأنها تعبير عن ملكيتنا لهوية متماسكة ترتكز على منظومة قيم راسخة مختلفة ومتسقة. ولكن على ما يبدو أن هذه العبارة هي مجرد تعبير عن هوية “حائرة” لمجتمعات وثقافات أصبحت قلقة بفعل عوامل عديدة ثقافية واجتماعية واقتصادية، ويُستخدم تعبير “مجتمع شرقي” لإخفاء مجمل هذه العوامل وتسليط الضوء على المقابل للشرق، أي الغرب. ولكن إذا ابتعدنا قليلا عن القالب النمطى لعبارة “نحن مجتمع شرقي”، فربما نرى الصورة من زوايا أخرى غير نمطية.
من ناحية أولى، إن عبارة “نحن مجتمع شرقي”، لا تهدف إلى التأكيد على كوننا شرقيين بقدر ما تؤكد على أننا لسنا غربيين. فهذه العبارة لا تقول من نحن ولكن ترسم حدود التمايز عن الأخر، وهى لا تشمل كل الثقافة بل تحصر هذا التمايز في موقف أخلاقي بالأساس يتعلق بالحريات والحقوق الشخصية وخاصة حقوق النساء دون غيرها من القيم. فنحن شرقيين لأننا لا نقبل أو نستسيغ هذه الحقوق والحريات، وهذه هي منطقة اختلافنا عن الآخر. وكما أنه موقف أخلاقي، فهو أيضا موقف جزئي لأن رفض الغرب بشكل عام امر غير وارد، بل العكس هو الصحيح.
فعندما نوسع دائرة القيم فى اتجاه احترام الإنسان واحترام العلم، ودولة القانون إلخ، تنقلب الآية ونتمنى لو كنا غربيين. فالتمايز هنا يصبح ضدنا وليس في صالحنا. فبعيدا عن الحقوق والحريات الشخصية، فإننا نادرًا ما نستخدم العبارة الثقافية “نحن مجتمع شرقي” ونستبدلها بعبارة أخرى أكثر واقعية لأنها ذات طبيعة اجتماعية وسياسية وإقتصادية وهي: “نحن مجتمع متخلف”.
ومن ناحية ثانية، توحي عبارة “نحن مجتمع شرقى” بأننا كتلة متماسكة تعبر عن هوية ترتكز على قيم مشتركة. وفي الحقيقة أن هذه الرؤية تحمل الكثبر من الأوهام وليس له من مردود إلا إنكار التنوع وقمع الإختلاف. وهذا لا يتعلق فقط بإنكار التنوع الديني واللغوي، بل يصل إلى انكار التنوع الثقافي بين مجتمعات مختلفة اختلافا كبيرا فى منظوماتها الثقافية والاجتماعية والتى تتدرج من القبلي والعشائري إلى الحضرى. ويرتبط بذلك سعي الثقافة السائدة من أجل إثبات أحاديتها وتماسكها المزعوم إلى إضفاء مشروعية على أساليب القمع التي تطال الحريات الدينية وحقوق المرأة وحريات الرأى والتعبير وغيرها من الحقوق التي تصطدم بالثقافة السائدة.
ومن ناحية ثالثة، فإن عبارة “نحن مجتمع شرقي” تصبح عبارة حائرة جغرافيًا وثقافًيا بسبب أن الغرب لم يعد منطقة جغرافية تقبع هناك، وإنما منظومة ثقافية واجتماعية تسود الحضارة المعاصرة، وبالتالى فإنها وبحكم التطور التاريخي الراهن تحتل الشرق وتسكنه وتغير من أنماط حياته. فلا شك أن التطور العلمى والتكنولوجي قد خلق نوعًا من الهيمنة والاستتباع لا يمكن الفكاك منه إلا من خلال التفاعل معه. فجمهور الشباب يعيش أنماط حياة غربية حتى لو أبدى غير ذلك في نطاق سياسات الهوية وخاصة الجانب المتعلق بالهويات الدينية. وهنا يدخل الشرق في صراع مع ذاته، تلك الذات التى تغيرت بفعل التاريخ. وهكذا لا يجد أنصار الشرق المحافظين سبيلا إلا إنكار التاريخ والانتماء إلى ماضي للخروج من القلق والحيرة. وبين الماضي المفترض والحاضر المعاش ينقلب المجتمع على ذاته فيضيف إلى الحيرة والقلق عنفا ثقافيًا وسياسيا، وهذا ما فعلته ليس فقط الجماعات السلفية، وإنما الثقافة اليومية المعاشة وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأخلاق والنساء.
وأخيرا فإن ما يتبقى من عبارة “نحن مجتمع شرقي” لا يتعدى مجرد التأكيد على ثقافة هوية مأزومة وحائرة وقلقة. وهذه هى الأزمة الحقيقية التى تواجه مجتمعاتنا حيث يرتبط الدفاع عن الهوية “الشرقية” بانتهاك الركيزة الأساسية لمبدأ المواطنة وهي الحقوق والحريات الشخصية وحقوق النساء والأقليات. إن الواقع يقول أن عبارة “نحن مجتمع شرقي” لم ولن تحررنا من الغرب الذي أصبح فينا بحكم التاريخ، ولكنها ستظل ذريعة لاستمرار ثقافة الإستبداد “الشرقى”. وهكذا فسوف تبقى عقولنا غارقة في شرقيتها، وسيبقى واقعنا يستدعى الغرب، وهو استدعاء مأزوم لأنه لن يتفاعل مع منجزات الحضارة، وإنما مع منتجات الغرب الإستهلاكية ماديًا وثقافيًا.