يأتي تحريم التحرش الجنسي دينيا بعد تجريمه قانونيا كخطوة إيجابية تستحق الثناء والتقدير، فلا شك أنها إضافة هامة لجهود محاصرة هذه الظاهرة المنفلتة والمؤرقة إلى حد كبير. ورغم أهمية هذه الخطوة، إلا أنها تظل جزئية وغير مكتملة، مثلها مثل القانون الذي يحتاج إلى آليات تنفيذ فعالة. وفي الحقيقة أن التحريم الديني يختلف عن التجريم القانوني، والسبب أن علاقة التحرش بمعايير الحلال والحرام هي علاقة مركبة وأكثر تعقيدا من مجرد وصف فعل التحرش بأنه “حرام شرعا”. فالتحرش كفعل مادي هو نتيجة تصورات ثقافية عن المرأة تضعها داخل دائرة الحرام والحلال. فإذا كانت الفتوى تسهم فى إدانة التحرش، فإن التصورات السائدة، والمدعومة بتأويلات دينية، تضع النساء في دائرة الإدانة بوصفهن نساء، وبما أنهن كذلك فإنهن مصدر الإغراء. ووفق هذه التصورات، فإن المتحرش قد يُدان بسبب فعله، أما النساء فإنهن مدانات بحكم طبيعتهن.
وبشكل عام يمكن القول أن إصدار فتوى بتحريم التحرش لا يعني أن التحرش كان مقبولا دينيا، فلا أحد يقر بمشروعية التحرش الجنسي، فلا القوانين تجيزه، ولا الشرائع السماوية تبيحه، ولا الثقافات الشعبية تقبله. ومع ذلك فحتى مع وجود نص قانوني يجرم التحرش فإن انفاذ القانون قد لا يكون فعالا لوقف هذه الممارسات. وبالمثل فقد فإن المؤسسة الدينية عندما تدين التحرش، فهذا لا يعني عدم وجود تأويلات دينية تعزز الثقافة الذكورية التي لا ترى في النساء إلا كيانات جنسية “عورة” وهو المناخ الذي يزدهر فيه التحرش وينفلت، وقد تتحايل الثقافات الشعبية فتتنكر للتحرش ولكها تدين الضحية، فتحرر الجاني من المسئولية فلا يرى المتحرش ذاته كمتحرش، بل كمتفوق في مقدوره قهر أو إيذاء النساء، أو كمجذوب تثير غرائزه الطبيعة الشيطانية للمرأة.
وبالتالي فإن كلمة “حرام” قد تسهم في نزع المشروعية عن المتحرش، إلى أنها تُستخدم كذلك لسلب النساء حقهن في العيش بدون تدخل في حياتهن الشخصية. فزى المرأة، الذى يُنظر إليه على أنه سبب رئيسي للتحرش وإثارة غرائز الرجال، هو موضوع رئيسي لثنائية للحلال والحرام، وصوتها “عورة”، وهي نفسها “حرمة” من حرام. والخوف أن يكون القبول بمبدأ الحلال والحرام كقاعدة لمعالجة قضية التحرش، مدعاة لتقبل المبدأ ذاته في تقييم مسببات التحرش ومنها زي المرأة وسلوكياتها. وحتى لو قلنا أن التحرش حرام ولا يمكن تبريره بزيالمرأة أو سلوكها، فإن ذلك لا يعني استبعاد زي المرأة وسلوكها من دائرة الحرام والحلال.
ومجددا ينبغي التأكيد على أن تحريم التحرش دينيا يعد خطوة إيجابية، ولكنها لن تؤت ثمارها إلا بالإقرار بصيانة حق الإنسان، إمرأة أو رجل، في تقرير حياته الشخصية بما لا يتعارض مع حقوق الآخرين وحرياتهم، وبالتالي لا يجوز التدخل في الحيز الخاص للشخص سواء بالتحرش أو بالحكم عليه أخلاقيا. وهذه المسألة على درجة كبيرة من الأهمية لسببين: أولا: أن التدخل والتحكم في أجساد النساء لا يقتصر فقط التحرش، فالجسد الأنثوي عرضة لمنظومة واسعة من التدخلات والتحكمات باسم الشرف والسمعة والعيب والحلال والحرام؛ ثانيا: يرتبط بما سبق أن أحكام العيب، والحلال والحرام، في تطبيقاتها على النساء على وجه الخصوص، هى أمور نسبية تتفاوت بتفاوت الثقافات والمعتقدات، وحتى داخل العقيدة الواحدة، وكذلك بين الأشخاص، فعورة المرأة، وفق ما تراه الجماعة أو الشخص، قد يكون فيها من الحرمانية ما هو أكثر من فعل التحرش ذاته، فالتحرش، وفق هذه التصورات، قد يكون انحراف أخلاقي، أما العورة فهي طبيعة أنثوية، وكشفها فعل شيطاني يؤدي إلى الإنحراف الأخلاقي.
وفي الحقيقة أن مناهضة التحرش، كما يطالب بذلك الكثير، يرتبط أولا وقبل كل شئ بتغيير التصورات الذهنية عن المرأة، فطالما تم النظر إلى جسد المرأة كعورة، سيظل هناك تحكم وسيظل هناك تحرش: التحكم باسم الأخلاق، والتحرش بزعم إثارة الغرائز. وبالتالي فإن إصدار فتوى تحرم التحرش خطوة جيدة وهامة بلا شك، إلا أنها تظل خطوة جزئية وغير مكتملة، وحتى تكتمل ثمة مسار طويل من أجل تحرير النساء من الإطار الثقافي الذي يصورهن كعورة، ذلك الإطار الذي يدعى الحفاظ على المرأة، ولكنه في واقع الأمر كان السبب وراء العديد من الانتهاكات الجسيمة بحقها، بداية من الختان، وحتى التحرش الجنسي، مرورا بكل أشكال التدخل والتحكم في الحياة الشخصية.