ذات يوم كنت أسير علي الجبل, فرأيت من بعيد وحشا كاسرا فخفت منه, ولكنني عندما اقتربت منه, اكتشفت أنه إنسان, وعندما وصلت إليه رأيت أخا لي.
نجد علي مدار الأجيال شعوبا ودولا تدعي بأنها أرقي وأسمي البشرية وتحتقر الشعوب الأخري معتبرة إياها عالة علي المجتمع الدولي! لقد تناست هذه المجتمعات بأننا جميعا أبناء الله الذي خلقنا علي صورته ومثاله في الحب والقداسة والرحمة, لكننا نستطيع أن نتعلم الدرس من هذا المثل البسيط الذي ذكرناه في مستهل موضوعنا, وهو أن المسافة التي نضعها بين بعضنا البعض تشوه معالم وجه الآخر, وتسبب خوفا من الناس, لأننا نتخيلهم أشباحا, حتي أن عقلنا يتوقف عن التمييز في هذه اللحظة.
لذلك يجب علينا أن نقترب من الآخر دون حذر, وهذا يعني أن نسعي إلي فهم الأشخاص ونواجه هؤلاء الذين نعتبرهم خطرا علي حياتنا. وبقدر ما نذيب المسافة, تظهر الصورة الحقيقة للآخرين وندرك الملامح الخاصة بهم, تختفي الكوابيس والتخيلات.
لكن كل هذا لا يكفي, بل يجب علينا أن نتحلي بالشجاعة التي تدفعنا لمواجهة الشخص ومقابلته وجها لوجه والتحدث معه, والنظر في عينيه, حينئذ سنكتشف علي هذا الوجه علامات الألم والحزن والفرح والخوف والرجاء واليأس والهم والقلق والحب, كل هذه الملامح نتقاسمها جميعا في حياتنا اليومية وتكون منا جماعة أخوية.
إذا كنت أريد في بداية الأمر أن ألقي حجرا من بعيد للدفاع عن نفسي, إلا أنني عندما اقتربت من الآخر استطعت أن أمدد له يدي. كما أنني اكتشفت جمال وقوة وجه الشخص الذي أتقابل معه سواء كان رجلا أو امرأة.
ويقول في هذا الصدد الأب الفيلسوف Italo Mancini: إن عالمنا سيحيا حقا ويحب ويتقدس ليس من النظريات غير المحدودة أو أحداث التاريخ أو ظواهر الطبيعة, لكن من وجود مراكز الحياة المذهلة ألا وهي وجوه الآخرين. وجوه بحاجة إلي رؤيتها واحترامها وملاطفتها.
نستطيع أن نكتشف في عين كل إنسان نفسيته وسر حياته, كما أننا إذا نظرنا بكل حب في وجه الآخر, لن نجد أي وسيلة تدفعنا إلي بغضه. كل هذا عاشته الأم تريزا مؤسسة راهبات المحبة الهنديات, والتي خدمت الفقراء والمرضي والمسنين والأطفال المهملين في العالم كله دون تمييز أو تفرقة, وتعلمنا هكذا: الناس غير عقلاء ولا منطقيين وأنانيين, لا يهم, أحبهم رغم ذلك, إذا فعلت خيرا للآخرين فاتهمك الناس بأنك تفعل هذا بدوافع أنانية خفية, لا يهم, اصنع خيرا رغم ذلك. إن استطعت أن تحقق أهدافك ستجد من يسعي لإعاقتك لا يهم, ثابر علي نجاحك رغم ذلك, الخير الذي تعمله اليوم سينسي غدا لا يهم, اعمل خيرا رغم ذلك, الصدق والصراحة يجعلانك عرضة لإيذاء الآخرين لا يهم, كن صادقا وصريحا رغم ذلك.. الناس بحاجة إلي مساعدة, لكنهم ينقلبون عليك إذا ساعدتهم لا يهم, ساعد الناس رغم ذلك.. أعط العالم أفضل ما عندك.
عادة يستخدم الأشخاص الذين يفكرون في عمل الخير شعار يهمني حتي يسارعون في خدمة الآخرين ويتخلون عن أنانيتهم, وهذا الشعار يستخدمه الذين يشعرون بمعاناة الإنسانية ويضعونها علي عاتقهم مهما كانت النتيجة.
شعار يهمني هو ارتقاء الضمير الذي يشعر بأننا أبناء عائلة واحدة وهي البشرية, ولنا أب واحد وهو الله. لكننا اليوم أمام شعار آخر: لا يهم الذي أرادت القديسة الأم تريزا كتابته علي حائط ملجأ للأطفال بمدينة كالكوتا الهندية.
مرات عديدة يكون حكم الآخرين ونقدهم لأعمال الخير هو وسيلة لإحباط فعل الخير نحو البشرية, ويعتبر هذا العدو اللدود للسخاء والتطوع والصدق والأمانة. لذلك كانت رسالة الأم تريزا مبنية طوال حياتها علي كلمات السيد المسيح: كل ما فعلتموه من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار, فلي قد صنعتموه (متي25:40).
إذا يجب أن نعتبر كل البشرية أخوة لنا, ونكتشف في وجوه الآخرين ملامح الإنسان الحقيقية, وبناء علي ذلك ستصبح الأرض كلها فردوسا نعيش فيه, وستكتسب الحياة طعما ومعني مختلفين وجديدين.
ويعبر Paisij Velickovskij أحد النساك الأوكرانيين عن الأخوة بهذه الكلمات: عندما أنظر إلي الآخرين لا أراهم أخوة بل ملائكة, وعندما يأتي إلي أحد المحتاجين, أحني رأسي نحوه متذكرا كلمات الكتاب المقدس: رأيت أخاك, رأيت الرب.
هكذا نختم حديثنا بالترتيب الصحيح للأمور: الله أولا, أخي ثانيا, وأنا في المقام الأخير.