قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (696)
الحقيقة الواضحة أمام كل وطني مهتم بأمر مصر أننا نعيش مرحلة تحديات جمة للخروج من نفق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية, وغيرها… وغيرها من المشاكل التي ماتزال تعصف ببلادنا. وإزاء ذلك يتم انتهاج سياسات شجاعة للإصلاح والتنمية والتطوير هي بمثابة الدواء المر الذي يحمل الشفاء والتعافي, لكنه يتطلب العمل الشاق المضني بلا هوادة والتضحيات الجسام للعبور إلي مرحلة جني الثمار سواء لهذا الجيل أو من بعده جيل الشباب الذي سيتسلم البلد والأمانة من بعدنا.
وعندما نتحدث عن العمل الشاق والمضني بلا هوادة نتذكر الشعوب التي عانت من ويلات الكوارث الطبيعية والحروب وخرجت منها بائسة منهكة يحاصرها الدمار والخراب لكنها تحدت واقعها وتحملت الأهوال في سبيل إعادة البناء وصناعة مستقبل أفضل لها ولأبنائها من بعدها… شعوب وهبت نفسها للعمل والكفاح… واصلت الليل بالنهار دون كلل… لم تحسب ساعات عمل ولا أيام إجازات… دفعت فاتورة الإصلاح والتنمية كاملة حتي أدركت الاستقرار ومن بعده الرخاء والتقدم.
ألسنا في مصر نعيش نفس هذا الواقع ونعايش ذات المرحلة بكل تحدياتها ومصاعبها؟… ألسنا نعيد بناء بلدنا لتطوير وتحديث البنية الأساسية والمرافق والخدمات التي تخلفت وتهرأت عبر السنين؟… ألسنا ننتهج سياسات وخططا إصلاحية وتنموية للنهوض بالزراعة والصناعة والتجارة ودفع الصادرات وضبط الواردات وتشجيع الاستثمار وخلق فرص عمل؟… ألا يتطلب كل ذلك المشاركة الجادة منا جميعا بالعمل الشاق المتواصل والتضحية من أجل بلوغ الهدف؟… وهل يستقيم هذا مع الاتجاه لتخفيض ساعات العمل أو الإقلال من أيام العمل والإفراط في الإجازات؟!!
فما بالنا نسمع عن قرار لرئيس الوزراء بتشكيل لجنة تضم مسئولين وخبراء لإعداد دراسة بخصوص تقليل أيام العمل في بعض الأجهزة الحكومية من خمسة أيام إلي أربعة أيام أسبوعيا؟!!!… صحيح أن الدراسة لم تنته والقرارات لم تصدر بعد, لكن سرعان ما سري الخبر كالنار في الهشيم وتلقفه الكافة لينقسموا بين مهلل ومستنكر ولم يخل الأمر من مطالب بالاحتكام لرأي الشارع في هذا الخصوص!!!… وبناء عليه تمادي الحديث عن الغنيمة المتوقعة من ساعات عمل أقل وأيام عمل أقل وأيام إجازات أكثر… وطبعا مع ثبات الأجر الذي لا يجرؤ أحد علي التعرض له!!!
لست أستبق قرار اللجنة المشكلة بقرار رئيس الوزراء, ولعلها تهتدي إلي التوصية بمراجعة أيام عمل كوادر خاصة في مؤسسات محددة بما لا يضر بالعمل عموما وبما يحقق أهدافا بعينها لازلت لا أدركها, لكني أبحث في كل ذلك عن النموذج والقدوة الواجب تصديرهما إلي الشارع وإلي المواطنين علي وجه العموم, إنه يتحتم أن يرسخ قدسية العمل والكد والكفاح, وينبغي أن يهتم بعلاج القصور المخل في ساعات العمل الحقيقي الفعلي للموظف أو العامل المصري والتي تختزلها الدراسات فيما لا يجاوز ساعتين يوميا عبر يوم العمل الذي يتراوح بين سبع وثماني ساعات… إذا نحن في أمس الحاجة إلي إخضاع منظومة العمل الحالية للانضباط والرقابة أو المساءلة وضبط الأجر بالإنتاج بدلا من التلويح بمزيد من الإعفاءات التي تنطوي علي تدليل وإفساد!!
وإلي من يتشدقون بأن تخفيض أيام العمل من شأنه تخفيض العبء الواقع علي وسائل المواصلات وتخفيف الازدحام مع تخفيض تكاليف تشغيل المباني والمنشآت الحكومية بشرط توزيع ساعات عمل اليوم المنضم إلي الإجازات علي أيام العمل الأربع الباقية, أقول: وهل يعقل ونحن نجاهد من أجل رفع الإنتاجية من ساعتين يوميا إلي السبع أو الثماني ساعات الأصلية أن نخطط لزيادتها إلي تسع وعشر ساعات عمل يوميا؟!!… وهل لياقة الموظف أو العامل المصري تسمح بالوفاء بذلك أم أننا نخدع أنفسنا؟!!
أما من يتشدقون بأن هناك من الدول التي أخذت بنظام أربعة أيام عمل أسبوعيا وثلاثة أيام إجازة فأقول لهم: إن كانت هناك دول بالفعل طبقت ذلك فهي بالقطع دول بلغ مستوي المعيشة المرتفع لشعوبها حدا من الرخاء والكفاية الذي يسمح بذلك, لكني في الحقيقة ما أعرفه في هذا الإطار ليس نظاما عاما شائعا في دولة بعينها إنما هو نظام خاص يطبق علي كوادر خاصة في مؤسسات محدودة تسمح طبيعة عملها التي تقتصر علي أجهزة الكمبيوتر والشبكات الإلكترونية بأن يتم جزء من العمل في المنزل دون الحاجة إلي الذهاب لمقر العمل بصفة يومية.
وفي جميع الأحوال يجب أن ندرك أن كل تلك المعايير لا تنطبق علينا, ونظل في أمس الحاجة إلي ساعات عمل أكثر وأيام عمل أكثر وأيام إجازات أقل حتي نتجاوز التحديات الجسيمة التي تنقل بلادنا إلي مستقبل أفضل.