هكذا أراد أن يختفي عن عيوننا في صمت.. أن يرحل عن عالمنا دون أن نقبله.. أن يذهب إلي مثواه الأخير دون أن نودعه.
هكذا عاش وهكذا مات.. إنسانا مفعما بالإنسانية.. فياضا بالحب.. شفوقا بكل محبيه.. عاش بيننا يشع نورا وسلاما, ومضي في هدوء, تاركا رصيدا من العطاء يكفينا حتي نلقاه, جمعنا بلاط صاحبة الجلالة وأنا أخطو أولي خطواتي إلي حلمي الكبير, فكتب شهادة ميلادي, وتعهدني بالرعاية والنصح والتوجيه.. وظل في عيني حتي الرحيل الأب والمعلم.
مصادفة بعد شهور قليلة من انضمامي إلي أسرة وطني جاء أستاذنا الراحل فوميل لبيب من دار الهلال رئيسا للتحرير.. جاء ومعه مجموعة ممن يثق في خبرتهم وعطائهم.. وكان من بينهم صفوت عبدالحليم الذي تولي آنذاك مسئولية الديسك وهي المهمة الأصعب أو كما نطلق عليها في عالم الصحافة المطبخ.. وكنت محظوظا أن أتعلم من الشيف صفوت إعداد أشهي الوجبات وأقدم أجمل الأطباق.. وبأصالة أهل الصعيد كان يذكرني دائما بالمثل إن كبر ابنك خاويه.. ولكنه ظل دائما في عيني الأب والمعلم.
في مشوار رحلتنا الممتدة معا لأكثر من خمسين عاما رأيت فيه الكثير.. رأيت فيه النبل والتواضع.. وعهدته جادا في عمله دقيقا في مسئولياته.. وعايشته أمينا في الحق شجاعا في إبداء الرأي.. حقيقي أنني لا أذكر أنني حدثته يوما عن هذا, فقد كنت أراه أكبر وأعظم من كل مديح.. أما هو فقد كان فياضا في مشاعره.. كريما في تقديره.. عظيما في تعبيره.. لم أر هذا في كلماته فقط, ولكنني كنت أراه بالأكثر في مواقفه ومؤازرته.
أذكر في مرات عديدة لم يكتف في تقديره لكتابات باب المحطة بعبارات الثناء, ولكني كنت أري تقديره في دموعه المنسكبة علي سطور قلمي وهي تحكي قصة إنسان خففنا عنه متاعب الحياة وأوجاع المرض.. كان فخورا برسالتنا, وكنا سعداء بتشجيعه.. وباسم كل الأصدقاء الذين عاش معهم مآسيهم نقول لروحه الطاهرة: ستبقي حيا في قلوبنا, مضيئا في عيوننا, حتي نلقاك.
أخي الأكبر الحبيب إلي قلبي.. يعز علي فراقك, في وقت نحتاج فيه إلي أمثالك من الأوفياء.. نم مرتاح البال والضمير, فقد أديت الأمانة, والرجال الصادقون أمثالك لا يموتون.. ستبقي في قلوبنا ما بقينا علي قيد هذه الحياة ولن ننساك.
فيكتور سلامة