قابلته وأنا أعاني من حالة توصف في أقصى درجات المجاملة أنها باهتة، سنوات طويلة تمر دون أن أجد نفسي أعمل ليل نهار ولا أشعر بأية نتيجة، ولا أي أمل في أي إصلاح، وفجأة بدى اللقاء كأنه ريشة لرسام؛ أطلقت لونا مزدهرا يفيض ضوءا يضفي على اللوحة الباهتة لونا مميزا، يلقي مزيدا من الضوء على كل مناطق الظلام المحيطة به.
قادتني قدماي في العاشر من يونية 1996 إلى البناية رقم 27 شارع عبد الخالق ثروت تقاطع شريف، تأملت اللافتة الخاصة بجريدة وطني العريقة، قررت فورا الصعود؛ طارقا بابها باحثا فيها عن عمل كصحفي.
يومها كان يجلس الأستاذ صفوت عبد الحليم مدير التحرير، في مكتبه المعتاد في صدارة الجريدة يدخن سيجارة، نظر إلى نظرة ثاقبة قائلا : ” استنى هنا لحظات”، ثم اختفى لدقائق وعاد، وأمسك بيدي وبصوت يصحبه ابتسامة رقيقة قال : تعالى معايا.
اتجهنا إلى مكتب كبير عائلة وطني، المهندس يوسف سيدهم في لقاء لم يتعد دقائق قليلة، أصبحت بعدها صحفيا في الجريدة الموقرة إلى يومنا هذا.
وبدأت حكايتي مع الاستاذ أو “صفصف” أو “عمو صفوت” القاب قريبة من قلوب كل أسرة وطني، ظل طوال الحكاية صاحب اللون المميز للوحة، نقطة الضوء وسط الظلام، يملك حلولا لأعظم المشاكل وأعتاها، لا أنسى يوم أن فقد أحد الزملاء أعصابه وقدم استقالته، بكل هدوء دخل مكتب الإدارة وسحب الاستقالة واحتفظ بها وأنهى المشكلة بمنتهى البساطة.
مرات عديدة يطلب مني الجلوس على المقعد المجارو له ويعيد كتابة ما أقدمه للنشر ويصر أن أعرف الطريقة الصحيحة للكتابة، وفي يوم كنت أمر أمام مكتبه أشار لي قائلا تعالي “ياواد ياماجد.. خد سيجارة” وأخرج من مكتبه أوراق وأمرني: خد راجع المقال بتاعي، اعترضت بشدة مؤكدا له أني أصغر من أراجع ماكتبه استاذي ومعلمي، فكرر أمره قائلا بصرامة : ” لما أقولك حاجة اعملها وانت ساكت، كرر الموقف كثيرا، كان يعلمني بطريقة رقيقة كيفية كتابة المقال.
وأصبحت قراءتي لمقاله الاسبوعي عادة ثابتة وأحيانا كان يسألني عن ما يتناوله في مقاله.
وحين اخترت الكاتبة الساخرة طريقا لي أثنى على الفكرة وكان حريصا على قراءة ما أكتبه، وظل دائما المعلم والناقد والأب والصديق لم نختلف إلا على الزمالك والأهلي كوني زمالكاويا وهو أهلاويا شديد الانتماء للقلعة الحمراء.
حكى لي عن دفاعه في ستينيات القرن الماضي عن نقابة الصحفيين أمام سطوة الاتحاد الاشتراكي وقاد شباب النقابة وقتها ضد سيطرة النظام، ونحجوا في إعادة انتخاب مجلس النقابة مرة أخرى رغما عن السلطة التي سبق وأن حلته، وعن لجوءه للقضاء وعن موقف السلطة منه ومحاربته في عمله ورزقه، ومنعته نكسة 1967 من استكمال المواجهة حرصا منه على وحدة الجبهة الداخلية في مواجهة العدو الإسرائيلي.
كان فخورا بموقفه تجاه بعض الشباب العربي الساخر من مصر والنكسة خلال مؤتمر الشباب في اوائل السبيعينيات في المانيا الشرقية، وإصراره على الرد عليهم وايقافهم عند حدهم، أبكتني دموعه عند وصفه بكل دقه رد فعله بعد العبور وتواجده مع المراسلين العسكريين في بعثة القوات المسلحة في اكتوبر 1973 على الضفة الأخرى وتقبيله لرمال سيناء الغالية.
معلمي لم يكن مجرد صحفي ماهر متمكن من أداوته، أو مديرا محترفا لتحرير وطني وإصدارات مختلفة لدار الهلال، أو نقابيا عتيا لا يخشى مواجهة ظالم مدافعا عن حقوق النقابة والصحفيين، أو فقط أستاذا واضعا قواعد مهنية نعمل عليها في وطني حتى الآن فيكفي أنه عند أي خلاف مهني أن يقول أحدنا “أستاذ صفوت قال كدة”، معلمي كان وطنيا مخلصا يعشق تراب مصر بلا مزايدة أو محاولة للظهور، حمل حصريا اللون المميز للوحة شديدة “البهتان” فقدت ألوانها، كان لكل من تعامل معه شعاع الضوء وسط الظلام، نعم رحل بجسده، غير عنوانه انتقل إلى الجانب غير المرئي من الحياة، لكن ستظل سيرته حية، وسيظل كل تلاميذه يقولون عنه دائما “من علمني حرفا”.